لطالما ارتبطت الهجرة السرية في تونس بالشباب والمراهقين إلا أنه في السنوات الأخيرة ظهرت فئة جديدة من المهاجرين السريين حيث أصبحت عائلات بأكملها تقبل على ركوب قوارب الموت دون تردد. تونس – تداول موقع وكالة تونس للأنباء على فايسبوك مؤخرا صورا لأربع عائلات تونسية مع أطفالها من جهة المهدية على متن خافرات الحرس البحري الإيطالي بعد أن اجتازوا الحدود البحرية التونسية خلسة، وفي حين عبر البعض عن سعادتهم بوصولهم سالمين، عبر آخرون عن اندهاشهم وتعجبهم من هذه المغامرة المحفوفة بالمخاطر. وقال أحد الناشطين معلقا على صور أفراد هذه العائلات التي تظهر ارتياحهم وسرورهم بنجاح هجرتهم السرية أحسست كأنهم ذاهبون إلى الرفاهية والمال الوفير، ألم يروا المعاناة التي يعيشها الكثير من المهاجرين هناك”. وقال آخر “أنا لم أفهم تفشي هذه الظاهرة مؤخرا، هذه مجازفة كبيرة عائلات بأكملها تجتاز الحدود خلسة.. وبالإضافة إلى ذلك هل هم متأكدون أنهم سوف يجدون مأوى وعملا”. وكشف التقرير السنوي للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية حول الهجرة للسنة الماضية أن ظاهرة الهجرة السرية توسعت في العقد الأخير لتشمل مختلف الفئات العمرية كما تمت جندرة الهجرة إلى أن تحولت تدريجيا إلى مشروع عائلي. وأوضح أنه أمام تراجع الدور العائلي والحالة الاقتصادية الهشة التي تعيشها والتي ازدادت حدتها وأمام بعض حالات التفكك الأسري ونظرا لضبابية مستقبل أبنائها في موطن النشأة انخرطت العائلة في مشروع الهجرة، حيث نسجل هجرات عائلية “العائل كان الأب أو الأم رفقة أبنائه” ويعود هذا النوع من الهجرة إما لأسباب اقتصادية واجتماعية وإما لأسباب تتعلق بالتفكك الأسري، وبالتالي هجرة القاصرين مصحوبين بمرافقة. وقال “وإن لم تكن الهجرة جماعية فقد تكون فردية وذلك من خلال دعم الأسرة لأبنائها القاصرين بالمال والمعلومات ذلك أنها تريد البحث عن مكانة ومستقبل أفضل لأطفالها في سياق تعيش فيه البلاد التونسية أزمة اقتصادية واجتماعية وسياسية حادة وارتطام حركات الاحتجاج باليأس والإحباط مما رسم مناخ الخيبة لدى فئات اجتماعية عديدة”. وأضاف التقرير، الذي نشره المنتدى الجمعة أن النساء والرجال يشتركون في الأسباب التي تدفعهم إلى ركوب البحر سرا أو اجتياز الحدود البرية خلسة، والمتمثلة أساسا في التهميش الاقتصادي، إذ يعاني جلهم من الإقصاء والبطالة والفقر، حسب ما تضمنه التقرير في بابه “هجرة النساء: العوامل والأسباب”. وأشار إلى أنه على الرغم من أن معدلات الهجرة السرية بالنسبة للنساء في تونس تبقى ضعيفة مقارنة بالرجال، إذ لم تتجاوز نسبة النساء الواصلات إلى السواحل الإيطالية عن طريق الهجرة السرية في سنة 2019، الـ8.76 في المئة. إلا أن هذه النسبة ولئن كانت ضعيفة فإنّ انخراط النساء في الهجرة غير النظامية قد تطور بشكل كبير بعد سنة 2011، مشيرا إلى أن هذه النسبة كانت في حدود 2 في المئة سنة 2018، أي 138 امرأة من بين 6000 مهاجر. ولفت إلى أنه من الأسباب التي تدعو النساء التونسيات إلى الهجرة رغبتهن في الهروب من الوصم الاجتماعي على إثر خلافات عائلية ونزاعات، على غرار حالات الطلاق وإهمال العيال والعنف وتفكك العائلة إلى جانب التحاقها بزوج أو قريب لها خارج الوطن. واعتبر المنتدى أنه لا يوجد فرق في أسباب الهجرة غير النظامية بين الرجال والنساء ولا يمكن الحديث عن ميزة وخاصية لهجرة النساء. وبيّن التقرير أن المناخ السياسي المرتبك والهش، الذي استمر مع الحكومات المتعاقبة بعد سنة 2011، لم يلب طموحات التونسيين والتونسيات ووجدت المرأة نفسها في حالة اجتماعية واقتصادية ونفسية صعبة مثلها مثل الذكور. وأبرز أن خروج المرأة للدراسة وحصولها على شهادات علمية في مجالات التكوين والمرأة الريفية التي لم تحظ بخيارات تنموية لم يستثنهنّ من الدخول في حالات من اليأس والإحباط من بطالة وتهميش وإقصاء وغياب مجالات الترفيه خاصة في المناطق الداخلية، إلى جانب العنف الاقتصادي واللفظي والمادي الذي تتعرض له النساء. وقال الباحث في علم الاجتماع طارق بالحاج محمد إن الكثير من الأشخاص من جميع الأصناف والشرائح الاجتماعية يرغبون في الهجر ة ومغادرة البلاد رفقة عائلاتهم حتى ولو كان ذلك في قوارب الموت. وأشار إلى أن عاطلين وموظفين وطلبة وتلاميذ يحلمون بالهجرة ويخططون لها وتضيق بهم بلدانهم رغم أنهم يعلمون جيدا أن الأبواب لن تكون مفتوحة لهم في المهجر نظرا للأزمة الاقتصادية القائمة في الغرب ونظرا لشبهة الإرهاب التي تلاحقهم أينما حلوا. وتابع الباحث التونسي موضحا “هذه الوضعية لا يمكن تفسيرها فقط بالمعطى الاقتصادي بل هي عبارة عن تراكم لمجموعة من ‘الجرائم’ التي ارتكبها هذا المجتمع في حق شبابه وكهوله وأهمها نصيبهم الزهيد من الثورة منذ عشر سنوات فهي لم تحقق لهم الأمل المنشود بل وعصفت بأحلامهم واستقرارهم النفسي والاجتماعي والقيمي”. كما بين أن إحساسا عاما بالخديعة واليأس والضياع يخيم على مزاج المجتمع بكل شرائحه يتراوح بين حدي الحرق و”الحرقة”، والموت البطيء والانتحار، والموت كمدا أو جوعا أو انتظارا. وأكد أن هذه الظاهرة هي الوجه الآخر لارتفاع نسبة الإقبال على المخدرات بكل أنواعها إضافة إلى ارتفاع نسب ومعدلات الانتحار بشكل يومي وزيارة العيادات النفسية. كما نبه إلى أن هذه الظاهرة مشكل متعدد الجوانب يمكن أن يتم تحليله وفق ثلاث مفردات تتمثل في علاقة التونسي بالمكان وبالحياة وبالمستقبل. وأوضح الباحث التونسي في تقرير نشرته صحيفة “الصباح” المحلية في ما يتعلق بعلاقة التونسي بالمكان أن الهجرة السرية العائلية تتم من بلد طارد للسكان وهو تونس في اتجاه الدول والمدن والأقطاب الجاذبة لهم، أي من البلدان الراكدة من الناحية الاقتصادية إلى البلدان التي يعتقد أنها مزدهرة. أما في ما يتعلق بعلاقة التونسي بالحياة أوضح بالحاج محمد أن ما يدفع للهجرة السرية برغم ما يعرف عن التونسي من تمسكه بموطنه ومسقط رأسه يكون في عديد من الحالات ناتجا عن ظروف اقتصادية قاهرة. فهناك في تونس جهات طاردة للسكان لا يتوفر فيها الحد الأدني من فرص العمل والعيش الكريم ولا تستجيب للتونسي الذي يعاني أصلا من “انفجار في الآمال والتطلعات” بشكل يجعله يرفض فكرة التعايش مع هذه الظروف فيضطر إلى الهجرة إلى مدينة أخرى ومن بلد إلى آخر بحثا عن تحسين وضعه ووضع عائلته حتى ولو كان ذلك خارج الأطر القانونية. وأوضح الباحث التونسي بالنسبة لعلاقة التونسي بالمستقبل أن المهاجر السري التونسي اليوم أصبح لا يهاجر بحثا عن فرص للعمل أو في الحياة فقط، بل أيضا بحثا عن أمل يبقيه على قيد الحياة ويجعله يصبر على تحمل صعوباتها وأيضا بحثا عن مستقبل لأبنائه لا يمكن أن توفره له المدن والجهات المنسية التي انحدر منها ليس حبا في الهجرة بل تأمينا لفرص حياة أفضل لأبنائه سواء كانت إقامة أو جنسية. وختم المختص في علم الاجتماع قائلا “حين يلاحقنا الماضي بخيباته وآلامه وحين يحاصرنا الإحساس بالعجز في الحاضر وحين نفقد الأمل في المستقبل فهل تبقى لنا من خيارات كبرى لإنجازها في الحياة؟ ربما هذا ما يفسر أيضا هذه الظاهرة التي تمثل حلا انتحاريا جماعيا”. وأكد الأستاذ مصطفى النصراوي أستاذ في علم النفس الاجتماعي بجامعة تونس، وصاحب مؤلفات حول الهجرة غير الشرعية أن الهجرة الجماعية للعائلات التونسية كانت تعد على أصابع اليد الواحدة قبل أحداث جانفي 2011، وعرفت تزايدا ملحوظا خلال السنوات الأخيرة لعدة أسباب أهمها أن بعض العائلات التونسية تمتاز بانصهار الأفراد داخل كيان واحد، حيث أنها لا تتصرف إلا بطريقة جماعية حتى في حالة الهجرة السرية. وأضاف أنه من المعروف عن العائلة التونسية أنها تحمي أبناءها بدرجة مفرطة حتى ولو في حالات المغامرة والمخاطر مثل ما يحدث في الهجرة غير الشرعية، مشيرا إلى أنه عندما يفكر أحد أفرادها في الهجرة السرية يتبنى بقية أفراد العائلة رغبته ويرافقه الكل في مغامرته. ونبه إلى أن هناك عائلات بأكملها تعاني من البطالة والخصاصة وتعتقد أنه لم يعد هناك مستقبل في تونس. فتختار الهجرة الجماعية بحثا عن فرصة جديدة في العمل والاستقرار خارج أرض الوطن. وبما أن الهجرة السرية أو ما يعرف بـ”الحرقة” عملية محفوفة بالمخاطر وتتطلب التضامن والتآزر فإن العائلة في هجرتها السرية الجماعية تكون قد عبرت عن تضامن أفرادها مع بعضهم البعض خاصة أنه من الممكن أن يتعرض أحد أفرادها إلى المرض أو العنف أو غيرهما من المخاطر المحتملة.
مشاركة :