لن نخرح بأي شيء مفيد، من أي حسبة تحسب حجم الزيادة أو النقصان، في أعداد المصلين، قبل إغلاق “آيا صوفيا” كمتحف، وبعد فتحه كمسجد. ولا فائدة أيضا، من الجدال حول مشروعية ذلك من الوجهتين التاريخية والدينية، والأثر ـ الإيجابي أو السلبي ـ لذلك على عزّ المسلمين وعلو شأنهم في سائر أنحاء الدنيا، وفي منظومة العلاقات الدولية. مثل هذه المسائل لا ينفع معها النقاش، لأن المواقف منها مغلقة على قناعات أصحابها. وحتى على مستوى الألفاظ يصعب التوافق بين الأفعال والأسماء. فإن قيل ـ مثلا ـ إن المتحف عاد مسجدا، سيكون السؤال المضاد: إن الأمر يتعلق بفعل العودة، فلماذا لا يعود كاتدرائية مثلما أريد لوظيفته أن تكون أصلا؟ ثم ـ استطرادا: لماذا لا يعود المتحف إلى وضعه عندما تحول من كاتدرائية إلى مسجد؟ الخطوة الأردوغانية، فتحت سجالا لا تصلح له سوى مفردات القرون الوسطى، التي يمكن استدعاؤها مع دمع في العيون والكثير من الشجن. لكن أسئلة السياسة، تقرع أجراسا مختلفة تنبه إلى مجموعة فرضيات: هل العالم الذي وحدته جائحة كورونا، في حاجة إلى نكء جراح التباغض الديني وزمنه وحروبه؟ وإن كان السلطان التركي الجديد، قد فتح سجالا، فعلى ماذا يراهن؟ هل يريد توحيد المسلمين على هدف إعادة ليبيا إلى تركيا، مثلما “عادت” آيا صوفيا إلى المسلمين، بينما المسألة ـ في حقيقتها ـ مسألة غاز وبترول لشعب تركيا بكل أطيافه؟ الرجل يختلق مناخات احتراب، ويستغل سذاجة الكثيرين من المسلمين، وتساعده في ذلك الجماعة الدينية الحزبية، التي نجحت في التأثير على عواطف الكثير من هؤلاء لا يختلف اثنان على أن الرجل في كل ما يفعل يريد أن ينصّب نفسه صاحب مشروع إسلامي، يبدأ من الخارج، ومن المتحف، ولا يبدأ من بنية الدولة العلمانية، ومن مباغي ميدان تقسيم. وقد تعمد ضبط إحداثيات خطابه حسب الصيغة التي يريد من خلالها إيهام المسلمين بأنه يتوخى مصالحهم. لكنه، إن بدأ بتطبيق منهج الدولة الدينية على بلاده، سيقدم الأنموذج الذي يريد، ويطرحه للاختبار، وإن بدأ بميدان تقسيم سيتأهل ويجتاز معدل النجاح في مادة الصفاء والنقاء. أما إن بدأ بفتح الصراع لاستعادة حق المسلمين في القدس، فسيصبح صاحب استحقاق في نفط ليبيا وغازها، لاسيما إن بدأ بالبرهنة على مصداقيته، بقطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل. فلماذا هذه الحركات القرعة التي لا تزيد عدد المصلين مصليا، ولا تردع أو تسترجع حقا ضائعا من مغتصب؟ وما هي المظلومية التي أصيب بها المسلمون، إن ظل المتحف متحفا فيه رمزيات عثمانية مضافة، ورسومات وصور سلاطين، وفي وسع المسلم إن أدركه وقت الصلاة أن يصلي في داخل المتحف، علما بأن الصرح المعماري كله في إسطنبول، وفي ظل السلطة التركية؟ هذا الرجل يختلق مناخات احتراب، ويستغل سذاجة الكثيرين من المسلمين، وتساعده في ذلك الجماعة الدينية الحزبية، التي نجحت في التأثير على عواطف الكثير من هؤلاء. ومن المفارقات أن قادة هذه الجماعة، المستضافين في تركيا بالمئات، ويعيشون حياة مترفة، لم يعد لهم شغل سوى إثارة القلاقل في أوطانهم، لكي يتأذى فقراء المسلمين بتردي الأوضاع الاقتصادية، ولكي يتأذى طلاب الحرية والحياة الدستورية والحقوق السياسية، بتردي الديمقراطية وارتفاع وتيرة العمل الأمني. كل ذلك من أجل رجب طيب أردوغان. وسيكون كل ذلك أيضا، سببا للأتراك، لكي يتعجلوا في إنهاء زمن رجب طيب أردوغان. فلا يشفع له الآن شيء، سوى وضاعة السياسات الأخرى التي لم تعرف كيف تكذب على نفسها وعلى الآخرين مثله. الرجل في كل ما يفعل يريد أن ينصّب نفسه صاحب مشروع إسلامي، يبدأ من الخارج، ومن المتحف، ولا يبدأ من بنية الدولة العلمانية، ومن مباغي ميدان تقسيم في أسئلة السياسة شبيهة الأجراس، يمكن أن يقال: ماذا لو ردت دول العالم المسيحي، أو أوروبا، بإصدار تشريع على مستوى اتحادها القاري، يمنع فتح مساجد المسلمين؟ وإن كان أردوغان يراهن على رسوخ التقاليد الدستورية في البلدان الأوروبية، ويعرف أن البريطانيين لن يتخلوا عن “الإخوان”، يمكن تغيير السؤال لكي يصبح: ماذا لو تصاعدت العنصرية في دول أوروبا، بعد أن بذلت الديمقراطيات جهودها لإخمادها، وأصبحت أكثر عنفا وآذت ملايين المسلمين في القارة؟ النزعة العنصرية العنيفة الأخيرة، ضد المسلمين كانت في اليونان قبل عشر سنوات، وأخمدها اليونانيون لأنها طالت العمال العرب. وماذا بعدئذ لو إن التطرف الإسلاموي نما هو الآخر وتصاعدت الأعمال الإرهابية التي تطول الأبرياء في الشوارع؟ هل سيكون كل ذلك من رفعة المسلمين، أم من أجل عيون رجب طيب أردوغان وثمن تطييب حركاته؟ وماذا لو استغلت الصهيونية سجال النعرات الدينية، واحتلت الأقصى وزعمت أن أصله هيكلا، طالما أن أردوغان يقول إن آيا صوفيا يعود مسجدا؟ ماذا سنقبض عندئذ من رجب طيب أردوغان؟ إن هذه مجرد أسئلة، بعيدا عن أسئلة المشروعيات الدينية والتاريخية لقرار فتح متحف آيا صوفيا كمسجد.
مشاركة :