استدعى أشعاره المسلحة «القديمة» وصار على خطى داعش وطالبان«مساجدنا ثكناتنا.. وقبابنا خوذاتنا.. مآذننا حرابنا.. والمصلون جنودنا.. هذا الجيش المقدس يحمى ديننا».. على خلفية تلك الأبيات «المسلحة»، التى لم يتضمنها النص الأصلى لقصيدة السياسى التركى ضياء كوك ألب، صدر حكم قضائى أواخر التسعينيات بالسجن 4 أشهر، ضد رجب طيب أردوغان، رئيس بلدية إسطنبول آنذاك، الذى كان ارتجل تلك الأشعار فى خطاب جماهيرى له، فوجهت له تهمة التحريض على الكراهية الدينية، كما أدى ذلك إلى فصله من منصبه الرسمى.لكن تلك الأبيات «تحديدا» تترجم فى مفارقة عميقة الدلالة على مايبدو أيضًا نظرة الرئيس التركى إلى دورالعبادة، فهى ليست فى نظره ساحات للسلام والاستسلام وأملًا فى خلاص روحى، ولا هى رحابات من نور ربانى وطمأنينة إلهية، يحتمى بها القاصدون والناسكون، راكعون وساجدون، وإنما هى ثكنات عسكرية فى حربه الدعائية والسياسية.. قبابها خوذات، ومآذنها حراب وحتى الحشود من المصلين فيها، هم أدوات فى حروب وأحلام الحاكم العثمانى «الطائش»، المشتاق لإمبراطورية «عثمانية» توسعية فات أوانها.وهى بالضبط الاستراتيجية التى انطلق منها القرار الأخير «الصادم» لأردوغان بحق «درة إسطنبول»، متحف آيا صوفيا الشهير بصرحه الإعجازى، وقبابه، التى تعانق فيها الأيقونات المسيحية وصورة المسيح الطفل وأمه السيدة العذراء مريم لفظ الجلاله «الله» وأسماء نبيه الكريم «محمد» وخلفائه الراشدين الأربعة.فأعلن نزع صفة «المتحف» عن «آيا صوفيا»، المبنى المدرج على قائمة التراث العالمى لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو)، وإعادته إلى صفته السابقة كمسجد للمسلمين، ترفع فيه الصلوات، خمس مرات يوميا ابتداءً من الجمعة 24 يوليو القادم. على أن يتم خلال تلك الصلوات تغطية الأيقونات والرموز المسيحية فى السقف والجدران، ويسمح بزيارته للسائحين خارج أوقات الصلاة.«التحريض على الكراهية الدينية» من جديد!!.. إنها ذات التهمة التى يعود الضمير الإنسانى، ومن أقصى العالم إلى أقصاه هذه المرة، ليشير بها إلى أردوغان، وقراره الذى أسفر عن سجالات وصراعات بنكهة «العصور الوسطى»، ضربت ساحات السوشيال ميديا فى الشرق الأوسط والغرب على حد سواء، فور القرار مباشرة، وسط إدانات دولية عدة.العالم يستشعر الخطر بشدة تجاه «آيا صوفيا» كجزء من التراث الإنسانى العالمى، فى قبضة أردوغان، ويشعر بالأسى من سرقته واستلابه واختزاله بهذا الشكل، كما يخشى من محاولة العبث به وتتغير هويته الدينية «المزدوجة» المميزة له، والتى تراكمت عبر قرون.وهذا الشعور بالخطر يتعاظم أيضًا إذا كان من يقوم بهذه الخطوات هو الرئيس التركى، حليف «داعش» فى المنطقة، والمتورطة إدارته بدعم وتمويل عشرات الآلاف من مقاتلى داعش، والقاعدة، وتهريبهم إلى داخل سوريا، إضافة إلى شراء النفط من التنظيمات الإرهابية، بما بلغت قيمته مئات الملايين من الدولارات.وسبق أن ارتكب «حلفاء» أردوغان من الدواعش، جرائم مفجعة بحق المعالم الأثرية فى سوريا والعراق بداية من آثار مدينة تدمر التاريخية فى سوريا. بالإضافة إلى عدد من المساجد والكنائس المسيحية والمعابد الأيزيدية فى العراق بما فى ذلك مسجد النبى يونس فى الموصل، وكذلك مسجد النبى شيث، بالإضافة إلى آثار الحضر ومدينة نمرود الأثرية، ومحتويات متحف الموصل.مايزال حاضرًا بالأذهان أيضًا، ما فعلته حكومة طالبان مارس 2001 بتدمير تمثالى بوذا التاريخيين فى باميان بأفغانستان.تورط أردوغان فى معاداته لموروث الحضارة الإنسانية، بقراره «الفج» الأخير وتحويله «آيا صوفيا» إلى مسجد مرة أخرى، تقف وراءه أهداف سياسية، وهاجس لدى الرئيس التركى بضرورة أن يخلق لنفسه عدوًا خارجيا وآخر داخليا للإبقاء على شعبيته، والدعاية بأنه الزعيم القادرعلى استعادة الإمبراطورية العثمانية، فى مغازلة للقومية التركية التوسعية، والنزعة الإسلامية الداخلية فى آن واحد.ناهيك عن أن القرار الجديد، يدعم بشكل غير مسبوق صورة أردوغان «الدعائية» كقائد إسلامى قوى، ويفتعل قضية إسلامية عالمية تدعم نفوذه لدى جمهوره من الإرهابيين والمتطرفين حول العالم.كما يغازل أيضًا، كافة التنظيمات الإسلامية اللى يستخدمها الرئيس التركى فى صراعاته الإقليمية فى المنطقة سواء فى العراق وليبيا وسوريا وصولاً إلى اليمن، وتقدم لهم قضية كبرى، يلتفون حولها، كما تمنح لهم صكًا شرعيًا بالقتال فى معسكر أردوغان، كمرتزقة يصل متوسط دخل المقاتل الواحد منهم، بحسب المعلومات المتداولة، إلى 2000 دولار شهريًا.وهو مايجعل أردوغان يروج لقراره بقوله إن «إحياء آيا صوفيا من جديد هو بشارة نحو عودة الحرية للمسجد الأقصى».توقيت تحويل «آيا صوفيا» هو توقيت رمزى، وحساس أيضًا، يأتى بالتوازى مع موسم حج معطل تقريًبا بفعل «جائحة» كورونا، فيظهر فيه قرار أردوغان كتعويض دينى رمزى و»عاطفى»، يظهره كزعيم إسلامى رمزى لدى جمهور عريض من الأصوليين من إندونيسيا إلى المغرب، ويضمن له جمهورا واسعا من المشجعين قبل الصدام «المرتقب» فى ليبيا وفى شرق المتوسط.كما يضمن له شعبية لنشاطه التوسعى الضخم جدا الذى يطمح فيه فى عدد من بلدان المنطقة.يأتى القرار أيضًا كمناورة لاستعادة الشعبية الداخلية المتناقصة لحزب العدالة والتنمية التركى، الذى لم يعد يحظى بالأغلبية المطلقة، وفى الانتخابات الأخيرة اضطر للتحالف مع عدد من الأحزاب القومية الضعيفة بما يؤهله لتشكيل أغلبية تسمح له بالسيطرة على البرلمان والحكومة.ناهيك عن زلزال اسطنبول فى انتخابات المحليات الأخيرة وسيطرة حزب الشعب الجمهورى على المدن الرئيسية مثل أنقرة وبورصة، وسطوع نجم عمدة إسطنبول الجديد أكرم إمام أوغلو باعتباره منافسا قويا محتمل لأردوغان فى الانتخابات الرئاسية المقبلة.إضافة إلى تصدع تحالفات أردوغان، وعداءاته الشديدة داخل معسكره الشخصى مع أعمدة العدالة والتنمية الرئيسية، بداية بعبدالله جول الرئيس التركى السابق والصديق المقرب لأردوغان.إضافة إلى أحمد داوود أوغلو رئيس الوزراء السابق صانع النهضة السياسية الخارجية لحزب العدالة والتنمية وصاحب الاستراتيجية الشهيرة «صفر خلافات»، وهو الرئيس لحزب «المستقبل» التركى حاليًا، وكذلك على باباجان نائب رئيس الوزراء السابق، ومهندس الطفرة الاقتصادية لحكومة أردوغان، والذى أسس بدوره حزب «الديمقراطية والتقدم». وكلاهما يعلنان خلافهما المباشر مع أردوغان ويسعيان إلى استقطاب قيادات داخل حزبه.
مشاركة :