دخلت القمة الأوروبية المخصصة لمعالجة تداعيات أزمة «كوفيد - 19» يومها الثالث في أجواء مشحونة بالتوتر والانقسام العميق، حول اقتراح المفوضية لصندوق الإنقاذ، الذي تعوّل عليه دول الجنوب الأكثر تضرراً من الوباء للنهوض من أزمتها الاقتصادية، وتصرّ مجموعة من دول الشمال على تقييد الاستفادة منه بشروط صارمة وإخضاع إنفاق المساعدات لمراقبة الدول الأعضاء.وبعد أن تحوّل اليوم الثاني من القمّة إلى ما يشبه «حرباً» بين الوفود التي توزّعت بين ثلاث كتل، وبدا يلوح شبح الفشل في الأفق، تقدّم رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال باقتراح يخفّض المبلغ المخصص للمساعدات في اقتراح المفوضية، الذي كان ثمرة اتفاق بين ألمانيا وفرنسا، من 500 مليار إلى 450 مليار يورو، وربط المساعدات والقروض بموافقة المجلس الأوروبي لوزراء المال والاقتصاد، مقابل تراجع هولندا عن مطلبها بإخضاعها لموافقة الدول الأعضاء بالإجماع.وكان رئيس الوزراء الهولندي مارك روتّيه، وهو أقدم الزعماء الأوروبيين في الحكم إلى جانب المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، قد استقطب كل الأضواء والوساطات في القمّة بعد أن تحوّل إلى «العدو رقم واحد» لكتلة الدول المتوسطية، التي ترفض شروطه لإدارة المساعدات، ولكتلة الدول الشرقية التي ترفض مطلبه إخضاع المساعدات لاحترام سيادة القانون والمبادئ الأساسية للاتحاد. ويقود روتّيه جبهة «صقور الشمال»، التي تضمّ النمسا والسويد والدنمارك، مدعومة عن بُعد من فنلندا ومن ألمانيا التي يُعتقد أن تشدّده يمهّد لوساطتها في الوقت الحاسم لإنجاز الاتفاق، الذي يرجّح مراقبون أنه في جعبة المستشارة ميركل منذ فترة.وكانت مفاوضات الجولة الثانية قد تحوّلت إلى مبارزة بين رئيس الوزراء الهولندي ونظيره الإيطالي جيوزيبي كونتي، الذي من المنتظر أن تكون بلاده، إلى جانب إسبانيا، المستفيد الأول من صندوق الإنقاذ، الذي يعرف أن مستقبله السياسي ومصير حكومته أصبحا رهينة النتيجة التي سيعود بها إلى روما من العاصمة البلجيكية. ولأن الجميع يدرك أن إيطاليا هي الطرف الأضعف في هذه المفاوضات التي لا تدور حول معالجة أخطر أزمة اقتصادية عرفتها أوروبا منذ قرن فحسب، بل أيضاً حول أضخم كتلة مالية في تاريخ الاتحاد الأوروبي، لم يتوقّف روتّيه عن محاصرتها بالمطالب مدركاً أن عامل الوقت يلعب ضدّها وسيجبرها في النهاية على التنازل والقبول بمعظم شروطه. ولم يتردد رئيس الوزراء الهولندي في مخاطبة نظيره الإيطالي مباشرة بقوله: «أعقد الأمل في أن يواصل كونتي الإصلاحات، لأنه من الحيوي أن تتمكّن إيطاليا من مواجهة الأزمة وحدها في المرة المقبلة». وأضاف: «أما الآن، فنحن نريد مراقبة إنفاق المساعدات من الصندوق الذي سيموّل الديون التي سيقترضها الاتحاد من أسواق المال». وفي خضمّ المناوشات التي سادت في جلسة المفاوضات الأولى ظهر أمس (الأحد)، ظهر «حليف» غير متوقع للجبهة المتوسطية، هو رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان الذي فتح نيران انتقاداته على روتّيه، واصفاً الشروط التي يصرّ عليها بأنها «أسلوب شيوعي من زمن الحرب الباردة»، ومعلناً تضامنه مع إيطاليا التي تخشى أن يكون تأييده عبئاً عليها أكثر من أي شيء آخر.هذه المواقف المتصلّبة التي صدرت عن رئيس الوزراء الهولندي، التي لم تكن في حسابات كونتي الذي اعترف بأن «المفاوضات أصعب بكثير مما كنا نتوقع»، دفعت برئيس الوزراء الإيطالي إلى التصعيد والتلويح باستخدام السلاح الأخير لاتفاق من غير هولندا. وبعد أن ردّ كونتي على روتّيه مهدداً بطلب إعادة النظر في السياسة الضريبية الأوروبية، في إشارة واضحة إلى السياسة الضريبية التي تعتمدها هولندا وتجعلها أقرب ما تكون إلى الملاذات الضريبية بالنسبة للشركات العالمية الكبرى، قال إنه مستعد لتقديم اقتراح يقضي بعدم مشاركة هولندا كطرف في الاتفاق حول «صندوق الإنقاذ»، وبالتالي لإعفائها من مسؤولية تمويله، مقابل عدم وقوفها عثرة أمام التوصل إليه.التلويح بإخراج هولندا من الاتفاق كان أكثر اللحظات توتّراً في القمة التي خيـّم عليها شبح الفشل، والعودة إلى ما قبل نقطة الانطلاق، ليس فقط لأنه جاء وليد اليأس الإيطالي من الخروج بما يحفظ ماء الوجه من القمة التي يجمع كل الشركاء على أن مستقبل المشروع الأوروبي يتوقف عليها، بل لأن إخراج هولندا من الاتفاق يعني دفعها نحو بوابة الخروج من الاتحاد الأوروبي الذي تتمنّاه القوى اليمينية المتطرفة في أوروبا، خصوصاً اليمين الهولندي المتطرف الذي يقف منذ سنوات قاب قوسين من سدّة الحكم التي يجلس فيها روتّيه على قاعدة برلمانية هشّة.لكن هولندا ليست بالضرورة هي المرسَل إليه في الرسالة الإيطالية الملوّحة بإخراجها من الاتفاق، إذ يرجّح مراقبون أن تصريحات كونتي موجهة إلى ألمانيا التي يشكو أمام مساعديه من أنها ليست غريبة عن الموقف الهولندي المتشدّد، أو أنها لا تمارس الضغط الكافي لتليينه من أجل التوصل إلى اتفاق نهائي حول صندوق الإنقاذ تكرر المستشارة ميركيل إنها تريده قبل نهاية هذا الشهر. ولا شك في أن لجوء كونتي إلى «السلاح الأبيض» في معركته حول صندوق الإنقاذ يحمل أيضا رسالة إلى المفوضية الأوروبية التي اتهمها علناً بأنها «لا تدافع بالقدر الكافي عن صلاحياتها في وجه الدول التي تقتحمها وتتجاوزها».رغم ذلك، يعرف كونتي، ومعه رئيس الوزراء الإسباني سانتشيز، أن لا خيار سوى مواصلة المفاوضات ومحاولة التراجع خطوات صغيرة للعودة إلى العواصم بأكبر حزمة مساعدات مالية في تاريخ الاتحاد. لكن المستشارة الألمانية التي لا يشك أحد في أنها من تمسك بيدها مفاتيح الاتفاق، وتتحيّن اللحظة الحاسمة لممارسة كامل قوتها الضاغطة، لوحّت بإمكانية عدم التوصل إلى اتفاق عندما صرّحت ظهر أمس بقولها إن «النيات حسنة، لكن ثمّة مواقف كثيرة متضاربة. سأبذل قصارى جهدي، لكن من الممكن ألا نتوصّل إلى اتفاق»، فيما كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يحذّر من أن «الاتفاق لن يكون على حساب الطموحات الأوروبية».
مشاركة :