دفعت الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالجزائر منذ انهيار أسعار النفط في صائفة العام 2014، والتداعيات التي أفرزتها الجائحة الصحية على الاقتصاد المحلي، إلى البحث عن بدائل جديدة، فقررت البلاد اللجوء إلى استغلال ثروة المناجم من أجل مواجهة التحديات الضاغطة، خاصة مع التآكل التدريجي لرصيد النقد الأجنبي. الجزائر - لجأت الجزائر إلى الاستثمار في قطاع المناجم لتعويض الخسائر التي يسجلها الاقتصاد في أعقاب انهيار أسعار النفط وما انجر عنه من ارتباك للموازنة العامة، ما طرح شكوكا حول مصير اتفاقيات مع الصين كانت قد أبرمت في الغرض حيث تكشف تحركات السلطات الجديدة عن إمكانية مراجعتها للقطاع واستثمارها فيه لتحفيز النمو. وقرر مجلس الوزراء الجزائري الأخير اللجوء إلى الثروات المنجمية من أجل تعويض الخسائر التي سجلها الاقتصاد الجزائري، بسبب التقلص غير المسبوق لمداخيل البلاد نتيجة تهاوي أسعار النفط، فضلا عن انعكاسات وباء كورونا، وذلك في إطار ما سمي بـخطة الإنعاش الاقتصادي، وخاصة أن التوقعات تذهب إلى تسجيل سلبي يقدر بأكثر من ستة في المئة خلال العام الجاري. وكلفت وزارة المناجم المستحدثة في التعديل الحكومي الأخير، بوضع برنامج يستهدف استغلال الثروات المنجمية في البلاد، وعلى رأسها منجم غار جبيلات للحديد، بأقصى الجنوب الغربي للبلاد، ومنجم الزنك والرصاص بواد أميزور بمحافظة بجاية، ومشروع الفوسفات بالعوينات بمحافظة تبسة، فضلا عن مناجم الذهب في محافظة تمنراست في أقصى الجنوب. ويأتي رهان الحكومة الجزائرية على استغلال الثروات المنجمية في البلاد، من أجل توفير مصدر جديد للخزينة العمومية وتعويض خسائر النفط، بعد سنوات من الإهمال لتلك الثروات وتغييب متعمد من طرف المخططات الاقتصادية السابقة، خاصة خلال ما كان يعرف بـ”سنوات الأريحية المالية للنفط”. وذكر وزير المناجم محمد عرقاب، في تصريح للتلفزيون الحكومي، أن الحكومة قررت إسناد مهمة استغلال واستكشاف مادة الذهب في محافظة تمنراست والمناطق المجاورة إلى تعاونيات شبابية لاحتواء البطالة المتفشية هناك كمرحلة أولى، وفي المرحلة الثانية يتم إبرام عقود شراكة بين شركة أجينور الحكومية المحتكرة للقطاع، وبين شركات رائدة في هذا المجال. وتعرضت الثروة المذكورة خلال السنوات الماضية لاستنزاف بسبب الاستغلال العشوائي لشبكات مختصة، تقوم باستخراج مادة الذهب وتهريبها إلى عدة أسواق ودول أجنبية، مما ألحق أضرارا لافتة بالمادة التي ظلت محل تجاهل رغم الاتفاق المبرم في مطلع الألفية بين شركة سوناطراك وشركة أسترالية، لكنه يجهل مصير وكميات الذهب المستخرج من المنطقة. كما عانت مناجم تبسة وبجاية وحتى غار جبيلات، الذي يعتبر من أكبر الاحتياطات في العالم، من تذبذب في الاستغلال والاستكشاف، قبل أن يتم التخلي عنها نهائيا، ثمّ العودة في العام 2014 للحديث عن دراسات وتحاليل في منجم غار جبيلات تحسبا للشروع في استغلاله، إلا أن النتائج تبقى مجهولة بسبب سقوط حكومة عبدالعزيز بوتفليقة، وفرار وزير الصناعة والمناجم السابق عبدالسلام بوشوارب، بسبب تهم فساد تلاحقه. ولم يشر بيان مجلس الوزراء إلى مصير الدراسات والاتفاقيات المبرمة خلال السنوات الماضية بين الحكومة الجزائرية وعدد من مكاتب الدراسات وشركات أجنبية، منها شركة صينية كان يرجح أن تدخل كشريك في مشروع غار جبيلات الضخم، وخاصة أن إمكانيات تصديره كانت تتطلب شق خط سكة حديدية من تيندوف إلى غاية موانئ الشمال في تلمسان ووهران. ويبدو أن تجاهل البيان لمصير الدراسات والاتفاقيات المبرمة في السابق مع الصينيين، يصب في اتجاه إمكانية مراجعتها من طرف الحكومة، لكن يستبعد أن يكون الشريك الجديد من خارج الصين أو فرنسا، قياسا بالتقارب المسجل بين الجزائر وبين البلدين المذكورين. وكان اتفاق قد أبرم منذ أربع سنوات، بالشراكة بين الوكالة الوطنية للنشاطات المنجمية والشركة الوطنية للحديد والصلب فيرال حول تمويل دراسات الجدوى لمنجم غار جبيلات بتندوف، التي أسندت إلى مكتب دراسات أجنبي، تحسبا للشروع في استغلاله، بين سوناطراك النفطية والمجمع الصناعي لإسمنت الجزائر جيكا ومجمع مناجم الجزائر منال فضلا عن شركة سيدار. ولكن التطورات السياسية التي عاشتها البلاد خلال السنوات الأخيرة، لاسيما بعد تفجر الاحتجاجات السياسية في فبراير العام الماضي ورحيل سلطة بوتفليقة بعد إلغاء الاستحقاقات الانتخابية التي كانت مبرمجة آنذاك، عطلت المشروع المذكور. وتطرح الأوساط الاقتصادية الجزائرية تساؤلات حول ما إذا كانت حكومة عبدالعزيز جراد ستواصل العمل فيه بناء على المعطيات المتوفرة أم أنها ستعيد كل شيء من جديد، ولاسيما أن الدراسات يفترض أن تكون جاهزة الآن بما أن المهلة المتفق عليها في الاتفاق حددت آنذاك بحوالي 18 شهرا. وإلى جانب صعوبات النقل والتحويل التي تكتنف المشروع، فإن عوائق فنية تطرح مشاكل فنية في الاستغلال بسبب احتواء الحديد الخام في المنجم على نسبة كبيرة من الفسفور والزرنيخ تجعل استغلاله محدود المردودية، إلا أنه كان يعول عليه لتغطية الحاجيات الوطنية وخفض واردات البلاد من الحديد، واستحداث مناصب شغل في المنطقة. وكانت الجزائر قد باشرت حينها مفاوضات مع الصين بهدف إطلاق مجمع مشترك لاستغلال الموقع المنجمي لغار جبيلات، وتم إجراء محادثات بين الحكومة الجزائرية آنذاك مع شركاء صينيين ومختصين في تكنولوجيات الحديد والصلب والنقل بالسكك الحديدية. وذكر وزير الصناعة والمناجم السابق عبدالسلام بوشوارب، أن “الدراسات الأولية سمحت لنا بإيجاد أفضل طريقة لتخفيض نسبة الفسفور في الحديد.. نحن الآن بصدد إطلاق مرحلة جديدة لتجسيد نتائج هذه الدراسة في الميدان والمضي قدما في تنفيذ المشروع”. كما تضمنت المحادثات المذكورة إطلاق مشروع سكة جديدة تربط الموقع المنجمي بأقصى الجنوب الغربي ( تيندوف)، إلى غاية الشمال الغربي على مسافة 950 كلم، وهو الخط الذي يُستغل في نقل الحديد المستخرج عبر مدينة بشار، نحو المركبات الصناعية للحديد والصلب بكل من وهران وجيجل وعنابة لأغراض التحويل الصناعي. وكان مدير المناجم بوزارة الصناعة والمناجم مراد حنيفي قد أكد العام الماضي أن الجزائر تريد إعطاء دفع جديد لتنمية قطاع المناجم حتى يتمكن من الاضطلاع بدور هام في الاقتصاد المحلي. وشدد على ضرورة تكثيف جهود الجزائر عبر إقرار جملة من الإصلاحات لتثمين الثروات المنجمية للبلد لصالح المتعاملين الخواص والعموميين والمحليين. وفي سياق تسهيل خطط استثمار الثروات المنجمية يسمح التشريع المنجمي باستكشاف وتطوير واستغلال الثروات المعدنية عن طريق رؤوس أموال خاصة حيث أن العديد من البرامج تهدف إلى تحسين استغلال الثروات ذات القيمة المضافة العالية في الاقتصاد. وتواجه الحكومة حالة غليان شعبي في ظل غياب خطط واضحة قادرة على استيعاب متطلبات المواطنين، وخاصة الفقراء، الذين يرزحون تحت أعباء التهميش وارتفاع الأسعار وتراجع قدراتهم المعيشية. وتعيش الجزائر أزمة اقتصادية منذ 2014 جراء تراجع أسعار النفط في السوق الدولية. ولم تفلح السياسات الحكومية التي تلت ذلك في معالجة الأزمة المستفحلة رغم مكابرة المسؤولين بأن الأوضاع تحت السيطرة. ولذلك تتزايد الشكوك في فرص نجاح محاولات السلطات لتحفيز النمو الاقتصادي بعيدا عن عوائد صادرات النفط، في ظل استمرار ارتباكها في حل المشاكل المزمنة.
مشاركة :