لعلّ من شاهد فيلم «نوستالجيا» للمخرج الروسي أندريه تاركوفسكي المنتج العام 1983، يدرك تماهي الحقيقة والوهم في حالات الحنين. يقول الكاتب البحريني أمين صالح عن الفيلم: «الحدود الفاصلة بين الحقيقة والخيال، الماضي والحاضر، الواقع والوهم، تتعرض للمحو والإزالة، أو تبدو ضبابية وغير واضحة، العوالم الداخلية والخارجية تتشابك بحيث يصعب التمييز بينها»، إذ تدور الأحداث في إيطاليا عندما يصلها البطل الذي يبحث في سيرة موسيقارٍ روسي مهاجر أصيب بعد حين بالأُبابة؛ فقرر العودة إلى روسيا رغم العبودية التي تنتظره، وكاد يقتله الحنين، فعاد إلى وطنه، لكنّه لم يتكيّف مع الحياة هناك وأدمن الخمور ثم انتحر. ما يحدث في حالة الحنين هو التباسها بين الحزن والتّمني الذي ينتاب أحدنا جراء ذكرى يستجلبها مكانٌ، أو موقفٌ ما، حوى ما يكفي من الروابط الحسية لخلق ذيّاك الشعور بالرضا والبهجة، ممزوجاً بالطمأنينة. وقد أحسن الدكتور «نيل بورتن» الطبيب النفسي والأستاذ في جامعة أكسفورد تعريف الحنين في مجلة علم النفس اليوم فاعتبره شعوراً حزيناً للفقد يداخله شيء من الاستبشار والتعزية بكون الفقد غير مكتمل، وأنّ استلال شيءٍ مما قد مضى أمر وارد. الحنين في حقيقته أقرب إلى التنكر للحاضر مكاناً ومحتوىً، أو ربما رفضه في حالات متقدمة قد تصير مرضيّة، فينعقد الأمل بالرحيل إلى المكان الآخر أو العودة بممارسات الزمن ومكوناته وأدواته التي لم يعد لوجودها أو استخدامها مسوّغ معقول. فمن منّا لا يفزّ قلبه لآلة الخياطة «سنجر» ولو لم يحسن استخدامها، فقط لأنها تذكره بوالدته أو قريبة عزيزة رحلت وتركت في الذاكرة صورة الآلة أو صوتها. أو ربما سرح أحدنا محدّقاً في الفراغ وهو غارق في ذاكرة من أحلام اليقظة، جلّ أحداثها حقيقية، من زمن الطفولة والصبا، ولعلها في أزقة الحي أو ساحات المدرسة، ثم بعد أن يقطعه صوت أو عاذل، يستطعم حلاوة في قلبه وتغشاه بهجة يستغربها. لا شكّ أنّ طعم خبز أم محمود درويش وقهوتها مدعاة للأمان، والتخفف من أعباء العمر والانغماس في البراءة ، إنّ تحقق الشعور هو ما يبحث عنه الشاعر في حنينه ونبحث عنه جميعاً في ارتيادنا للمكان الآخر، أو اتباعنا لأنماط معيشية تعلمناها من أسلافنا واستخدام أدوات تعود لزمنٍ مضى. فصوت المذياع المشوش، المزعج في حقيقته ليس إلا استحضاراً لوجود الأب أو الجد في حياتنا، فنركن ولو واهمين إلى سندٍ شعوري مؤقت، يعيد لنا توازننا بين الحين والآخر. يقول الكاتب المصري الراحل أحمد خالد توفيق: «هل فهمتَ الآن لِم لا يتجاوز عمر الإنسان ثمانين عاماً على الأغلب؟ لو عاش الإنسان مائتي عام لجُنّ من فرط الحنين لأشياء لم يعد لها مكان». ومن جميل ما أورد الجاحظ في كتابه «الحنين إلى الأوطان» أنّ العرب إذا غزت أو سافرت، حملت معها من بلدها رملاً وعفراً تستنشقه عند نزلة أو زكام أو صداع. ثم أنشد لبعض العرب: ولابد في أسفارنا من قبيصة من الترب نسقاها لحب الموالد
مشاركة :