بات السودان الجديد الذي تخلص في عام 2019، من عبء النظام الإسلامي الذي قاده الرئيس المعزول عمر البشير، على أعتاب تطورات جديدة، قد تجهض كل محاولات التغيير التي طالب بها الشارع. وتتلخص هذه الصعوبات أساسا في ما بدا من تآكل واضح داخل القوى الثورية التي لم تحافظ على تماسكها خاصة إثر تعرض تحالف الحرية والتعبير إلى تآكل واضح داخل بنيته بعدما تتالت الانسحابات من التحالف وفي مقدمتها انسحاب تجمع المهنيين السودانيين وحزب الأمة القومي الذي جمد عضويته بالتحالف. القاهرة – يتعرض تحالف الحرية والتغيير، وهو القوة الثورية المدنية الأكبر في السودان، إلى تآكل سريع في بنيته الداخلية بعد مرور أقل من عام على تشكيل حكومة مدنية يشكل فيها التحالف ظهيرا سياسيا، على وقع انسحاب تجمع المهنيين السودانيين، وقد سبقه إعلان حزب الأمة القومي تجميد عضويته بالتحالف، في خطوة تشير إلى أن السودان قد يواجه شبح تعثر الانتقال الديمقراطي في دول الربيع العربي. تكمن خطورة الانقسامات التي ضربت القوى الثورية الجديدة في أنها أضحت شريكة في السلطة الراهنة، ما جعلها عرضة لسهام فلول نظام عمر حسن البشير البائد، وربما متحالفة ضمنيا مع الثورة المضادة، وتسبب ذلك في أن يكون ظهير الحكومة السياسي مكشوفا أمام الحركة الإسلامية والجهات الداعمة لها، وتسعى إلى استغلال حالة الانقسام بين أحزاب الثورة لصالحها، ما يصعّب من مهام الحكومة الانتقالية. هيكلة التحالف أعلن تجمّع المهنيين السودانيين، انسحابه من هياكل تحالف الحرية والتغيير، ودعا إلى تنظيم مؤتمر عاجل للقوى الثورية الموقعة على الإعلان وخارجه للتباحث حول إعادة بناء وهيكلة التحالف الحكومي. غير أن خطوته جاءت في وقت انقسم فيها التجمع، الذي قاد الحراك الجماهيري في ثورة ديسمبر ضد نظام البشير، وأعلنت مجموعة أخرى داخل التحالف رفضها الانسحاب قائلة “إن قرار الانسحاب لا يمثل إلا المجموعة المنسحبة”. ويضم تجمع المهنيين 18 نقابة، وتعرّض للانقسام إلى مجموعتين، إثر رفض القادة الذين أداروا الحراك الثوري نتائج انتخابات داخلية فيه جرت في العاشر من مايو الماضي، أطاحت بهم وانتخبت سكرتارية جديدة للتجمع (قريبة من الحزب الشيوعي)، قبل أن يقرر تجمع السكرتارية الجديدة تجميد نشاط هذه الكيانات. ويبدو من الواضح أن ذراعي تحالف قوى الحرية والتغيير الرئيسيين والممثلين في حزب الأمة القومي والحزب الشيوعي، وجدا أن الفرصة مواتية لتحقيق مكاسب حزبية في فترة ما بعد إنجاز السلام التي سوف تشهد إعادة لتوزيع مناصب هياكل الحكم الانتقالي، فجمّد الأول عضويته في التحالف، وذهب الثاني للضغط على تجمع المهنيين الذي يعد بمثابة عصب التحالف لإعلان انسحابه. وبرأي البعض من المراقبين، فإن الأحزاب المدنية تسعى إلى اتباع أساليب الضغط على السلطة الانتقالية عبر اللعب بورقة الانسحاب من التحالف الذي أصابته نيران الشارع في مظاهرات 30 يونيو الماضي وما قبلها، من دون أن يؤدي ذلك إلى تفكيك التحالف بشكل كلي، لأنه يمثل الظهير السياسي للحكومة الحالية، كما أن إفراغه من مضمونه يؤثر على تماسك الوثيقة الدستورية الموقعة بين المدنيين والعسكريين. ما حدث بالسودان في تلك الأثناء ربما لا يختلف كثيرا عما جرى في بلدان عربية شهدت ثورات واحتجاجات، ويبدو أن الأمر يتعلق بالوعاء الفكري والسياسي لكثير من الحركات والأحزاب المعارضة التي عانت لسنوات طويلة من التهميش والإقصاء، وعندما حانت لها فرصة الوصول إلى السلطة لم تتسم تحركاتها بعقلانية كافية ليصبح تحقيق الأهداف السياسية الشخصية طاغيا على تصرفاتها الوطنية، من دون أن تكمل البناء الديمقراطي الذي يمكنها من تحقيق هذه المرامي النهائية التي تفيد الدولة. وحاولت القوى الثورية في السودان الاستفادة من نتائج الثورات العربية، وحافظت على تماسكها حتى بعد إزاحة البشير، وكانت تدرك أنها أمام خطر آخر يتمثل في المؤسسة العسكرية إلى أن تمكنت من جرها إلى لحظة التوقيع على الوثيقة الدستورية، واعتقدت أن تدجينها قد يكون كافيا لضمان انتقال سلس للسلطة، ولم تدرك أن الخطر سيأتي من داخلها، وتتفجر قنابل الدخان أولا، وأن تتحول إلى قنابل سياسية حقيقية. وعارضت الجبهة الثورية، أحد مكونات قوى الحرية والتغيير، وتضم في عضويتها تنظيمات سياسية وحركات مسلحة، الوثيقة الدستورية، وطالبت بالانتظار أولا إلى حين التوقيع على اتفاق سلام، ورفضت التوقيع عليها، وبدا أن الخلافات التاريخية بين الحركات المسلحة في الهامش والقوى المدنية في المركز طفت على السطح مجددا. وبرأي المحامي والناشط الحقوقي، حاتم إلياس، فإن الثورة السودانية تختلف عن نظيراتها التي اندلعت في عدد من الدول العربية قبل سنوات، وأنها لا تبحث عن تمجيد ولا تركز على أن تكون صورتها زاهية، فيما يتشكل الاهتمام بقدر أكبر على القضايا الموضوعية، بعد أن استفادت من الدروس العربية، والتجارب السودانية السابقة. ودائما ما تكون التنظيمات النقابية على رأس الثورات السودانية، سواء كان ذلك من خلال “جبهة الهيئة” التي قادت حراك 1967، إلى جانب “التجمع النقابي” الذي قاد المظاهرات ضد نظام الرئيس الراحل جعفر النميري في العام 1985، قبل أن يقود تجمع المهنيين ثورة ديسمبر ضد البشير، غير أنها تتراجع لصالح الأحزاب القديمة التي تتولى غالبا القبض على زمام الأمور في المراحل التي تعقب هدوء الثورات. وأشار إلياس، لـ”العرب”، إلى أن الوقائع التي شهدها تجمع المهنيين، وقوى الحرية والتغيير، تعد طبيعية لأن هذه القوى اتفقت على الحد الأدنى من المطالب، والإطاحة بنظام البشير، لكن الاختلافات الأيديولوجية بين كل الأطراف تطفو على السطح في مراحل تالية، لأنها تضم أحزابا من كافة ألوان الطيف السياسي، لا يمكنها أن تستمر لفترات طويلة في حالة الانسجام والتوافق في ما بينها. وأوضح، أن طبيعة العمل السياسي تقوم على الانقسام، والحديث عن التماسك والانسجام بين القوى المختلفة أيديولوجيا يؤكد أن هناك خللا في بنية عمل هذه الأحزاب، وأن مصطلحات الاصطفاف والتوافق صيغ تطرحها الأنظمة الدكتاتورية من أجل إضعاف الحراك الديمقراطي. يذهب البعض من المتابعين إلى التأكيد على أن هذه الخلافات هي درجة من درجات نبض الثورة السودانية ذاتها، لأن هناك خلافا مشروعا وصحيا حول الفكرة التي يمكن من خلالها إدارة الدولة ومؤسساتها، ويصب توقيته في صالح الثورة السودانية لأن الشارع سيجد نفسه أمام خيارات عديدة وسيكون عليه الاختيار في ما بينها. توافق رئيس اللجنة المستقلة للتحقيق في مجزرة فض الاعتصام، نبيل أديب، مع هذا الطرح مؤكدا أن القوى الثورية لا تعاني تفككا أو ترهلا بقدر مواجهتها أزمة عدم قدرة حول الالتفاف على مواقف معينة، ويرجع ذلك إلى أن الجبهة التي آلت إليها أمور التغيير عريضة وتضم الجسم السياسي السوداني من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، باستثناء تنظيم الإخوان. وذكر لـ”العرب”، أن مشكلة القوى المدنية في السودان أنها لا تجيد إدارة الاختلاف، ما يضاعف من صعوبات المرحلة الانتقالية، لكن من الممكن تجاوز هذه الصعوبات لأنها ليست جوهرية، طالما أن هناك إجماعا على مهام الفترة الانتقالية، غير أن المشكلة الأكبر تكمن في كيفية إدارة التحالف المرحلي بين المكون المدني والقوات المسلحة، والحفاظ على تماسك هذا التحالف مطلب مهمّ خلال الفترة المقبلة. واعترف السياسي والحقوقي السوداني، أن مشكلات القوى الثورية في ما بينها تسببت في عدم إنجاز عدد كبير من نصوص الوثيقة الدستورية، وعلى رأسها إنجاز السلام، لكن في النهاية فإن الشارع والسلطة الانتقالية لن يجدا أمامهما سبيلا سوى الصبر إلى حين تشكيل مجتمع ديمقراطي سليم يخرج السودان من الحقبة الاستبدادية إلى أخرى ديمقراطية حديثة. وتعاني القوى الثورية السودانية من حضور مفرط في حركة الشارع، في ظل استمرار التلويح بالمظاهرات التي تستهدف ممارسة أقصى أنواع الضغط لتحقيق المزيد من الأهداف، ما يؤدي لى إرباكها لأنها تجد نفسها غير قادرة على التعامل بشكل سليم مع تلك الضغوط لعدم قدرتها على امتصاص الغضب. وبالتالي تبدأ الأحزاب في البحث عن طريقة تحافظ بها على شعبيتها، ودائما يكون الانسحاب من التكتلات الأكبر هو الحل الأسهل لها للنأي بنفسها عن أي أخطاء قد تقع وتؤثر على شعبيتها السياسية. تدرك القوى الثورية أن أسوأ السيناريوهات التي يمكن أن تحدث نتيجة لخلاف بينها هو وقوع انقلاب عسكري، وهو أمر غير وارد الآن لغياب الدعم الشعبي لهذا الاتجاه، كما أن الدعوات المتناثرة حول ضرورة إجراء انتخابات مبكرة تأتي فقط من حزب الأمة ولا تتوافق عليها بقية القوى لعدم جاهزيتها، ما يجعل المرحلة الحالية هي تسخين سياسي للقوى التي تسعى إلى تحقيق مكاسب في الانتخابات المقبلة، المتوقع إجراؤها عقب انتهاء مصفوفة المرحلة الانتقالية. أكدت الباحثة السياسية، تماضر الطيب، أن القوى السودانية، ومن بينها تحالف المهنيين تعيد ترتيب أوضاعها للمشاركة بشكل أفضل في مقتضيات التعديلات المنتظرة في المرحلة الانتقالية بعد التوقيع على اتفاق سلام شامل، وما يحدث لا يشكل خروجا كليا عن قوى الحرية والتغيير، وسط مناداة قوى عديدة بإعادة هيكلة التحالف، بما يجعل كل طرف يبحث عن القرارات التي تجذب الجمهور نحو برامجه. ولفتت في تصريح لـ”العرب”، إلى أن الخلافات بين قوى الحرية والتغيير نابعة من المشكلات الاقتصادية التي يعاني منها السودان حاليا، وهناك اختلافات في وجهات النظر بين أحزاب اشتراكية ترى ضرورة تحسين أوضاع الفقراء بشكل سريع، وأخرى ليبرالية تقود التوجه نحو تبنّي سياسات صندوق النقد الدولي، وتلك النقاط قادت إلى الخلاف بين سكرتارية تجمع المهنيين والكيانات المجمدة أنشطتها.
مشاركة :