لفِعل التلصُّص وقعٌ موتِّر في أنفُس الناس، فوجود مُتلصِّص يعني بالضرورة وجود شخص مُنكشِف على الجهة المقابلة؛ ليس منكشفا فقط، بل جاهلا بانكشافه وانتهاك سِتره، ولو كان ثمة تجريم لهذا الفعل، أو عقوبة يفرضها القانون على المتلصصين، لكان للروائيين نصيب لا بأس به من عرائض الاتهام، فالروائيون متلصّصون بالغريزة، يرمقون الحياة من ثقب مفتاح، أكثر مما يتأمَّلونها من شُرفة مُطِلة على منظر طبيعي ساحر، ولا يمثِّلون هنا استثناء ذا بال. لفِعل التلصُّص وقع موتِّر في أنفُس الناس، فوجود مُتلصِّص يعني بالضرورة وجود شخص مُنكشِف على الجهة المقابلة؛ ليس منكشفا فقط، بل جاهلا بانكشافه وانتهاك سِتره، ولو كان ثمة تجريم لهذا الفعل، أو عقوبة يفرضها القانون على المتلصصين، لكان للروائيين نصيب لا بأس به من عرائض الاتهام، فالروائيون متلصّصون بالغريزة، يرمقون الحياة من ثقب مفتاح، أكثر مما يتأمَّلونها من شُرفة مُطِلة على منظر طبيعي ساحر، ولا يمثِّلون هنا استثناء ذا بال. البشر في عمومهم مخلوقات محتشِمة مع ذواتها، فضولية مع الآخرين، تميل لهتك الأستار والنظر عبر الثقوب. أما الروائي، فيمارس ذلك على سبيل الهواية والشغف، وكذلك كمحاولة لفهم الحياة؛ إنه متلصِّص قدير في قرارة نفسه، وجدير تماما بالاتهام. عشتُ هذا الشعور مع عدد لا أستطيع حصره من الروايات؛ أتحسَّس أولى خطواتي لداخل عوالمها، وسرعان ما أشعر بأن عليَّ التحرُّك ببطء، وألا أُصدِر صوتا أثناء مراقبتي للشخصيات، كأنني أُمسك بمصراعَي باب أقف وراءه، لا بدفَّتَي كتاب، كأن الصفحة درفة نافذة، والسطور فتحات شيش أتلصّص من خلالها. لفن الرواية مذاهب لا حصر لها، تتأثر في تشكّلها ونسبة انتشارها بطبيعة المجتمعات التي تنشأ فيها وتنتشر، وقد شهدَت مجتمعاتنا العربية رواجا ملحوظا لنموذج الرواية المبنيّ على فكرة التلصُّص؛ رواجا يفوق بدرجة لا يمكن إغفالها ما يلقاه في المقابل نموذج السيرة الروائية، أو بالأحرى الرواية الكاشفة والمبنية على السيرة الذاتية، والتي تعتبَر رواية “الخبز الحافي” للروائي المغربي محمد شكري أبرز نموذج عربي لها. مثل هذا النموذج يُواجه تضييقا كبيرا ومقاومة حقيقية في مجتمعاتنا العربية ذات الثقافة المحافِظة، والمتأثرة بدرجة لا يُستهان بها بمرجعيتها الدينية المتحفّظة التي تُنادي بالستر وتستنكر الإفصاح، بل تعتبر الكتابة السيريّة الكاشفة نوعا من المجاهَرة، وسببا في تفشّي الرذائل. أما في الغرب، فقد نجد الرواية المبنية على السيرة الذاتية أكثر ألوان الكتابة رواجا واستحقاقا للاهتمام، ولا يصبح غريبا أن نرى رواية مثل “كفاحي”، للكاتب النرويجي كارل أوفِه كناوسغارد، يُباع منها نصف مليون نسخة في بلد لا يتجاوز تعدادُه السكانيّ الخمسة ملايين نسمة، أي أن واحدا من بين كل عشرة أشخاص في النرويج -بما في ذلك الرضَّع والأطفال والعجائز- قد حصل على نسخة من الرواية المكونة من ستة أجزاء، تتكدّس بنحو ثلاثة آلاف صفحة من القطع الكبير. قد يعود السبب في هذا التباين إلى تأثر ثقافة المجتمعات الغربية بجذورها المسيحية، والتي يمثل سر الاعتراف ركيزة أساسية من ركائزها، ولنا أن نتأمل ما يكرِّس إليه مفهوم الاعتراف من إقرار بخطايا الشخص، وإفصاح يُمهِّد لخلاص الذات التي تقوم بالاعتراف، ما يجعل الكتابة التي تتناول حياة الكاتب بصورة كاشفة -فاضحة أحيانا- تجد قبولا مجتمعيّا لدى الغرب لا تجده في الشرق المحافظ والمأمور بالستر، حيث يُحاط الكاتب برقابة مجتمعية مُشدَّدة، ومحاسبة صارمة قد تجرُّه لساحات القضاء أو خلف أسوار السجون. في مناخ كهذا، يبحث الكاتب عن البديل الأكثر أمانا لطرح تأمُّلاته وخبراته الحياتية، فيجد مبتغاه في الكشف عن حيوات الآخرين عوضا عن النفس، ويُوظِّف تقنية التلصّص في بناء روايته، كأنما تتلصَّص الذات الساردة على حيوات سائر الشخصيات، فتجرُّ القارئ معها فيما تتسلَّل لداخل الغرف المغلقة، أو تقف وراء خصاص النوافذ وثقوب الأبواب، لكي يسترق النظر لحيوات مخفية خلف الجدران الصماء والأقنعة الزائفة، وبذلك ينزلق القارئ مع الذات الساردة لارتكاب ذلك الجُرم المحبَّب، تلك الشهوة الخفية؛ التلصُّص. التلصص من الثقوب للتلصُّص أشكال وأنواع عديدة، منها ما قدّمه الروائي المصري صنع الله إبراهيم، في روايته التي تحمل عنوانا يقتحم القارئ بشكل مباشر: “التلصُّص”، والتي تدور في قاهرة الأربعينات، عن طفل يعيش وحيدا في كنف أبيه الكهل، فيما تتلقّى أمه علاجا نفسيّا في مصحة متخصصة. في هذه الرواية، يرسم صنع الله إبراهيم صورة للقاهرة التي عايشَها طفلا، يتلصّص على ماضيه وسيرته الذاتية عبر ثقب في باب الزمن، لا يستطيع ثَقبَه بحرفية كهذه إلا روائي متمكن مثله، بإمكانه أن يستحضر الزمن بتفاصيله الطازجة، بروائحه ومشاهده وملمسه المخمليّ. يفعل ذلك عبر عينَي طفل يسرد الأحداث، ويقوم بالتلصُّص في مشاهد متفرّقة، أحيانا عبر خصاص باب البلكونة على بلكونات الجيران، أحيانا على الخادمة -أم نظيرة- بأمر من أبيه الذي يتشكَّك في كون المرأة تشرب السمنَ خلسة أثناء الطبيخ، وأحيانا على الجارة -ماما تحية- فيما تتحمَّم وتزيل شعرها الزائد بالحلاوة، أو حين يُعابثها زوجها الكونستابل إذ يعود إلى البيت. الكُتّاب العرب لا يكلون من الدفع بالمتلصِّصين إلى صفحات رواياتهم، ليراقبوا العالم عبر أعينهم الفضولية، ويكشفوا طبقاته المخفِيَّة وبرغم تلك التفاصيل المرسومة بعناية، والمسرودة بصيغة الحاضر كأنما تقع أمام القارئ ساعةَ قراءته، إلا أن التلصص في هذه الرواية يتجاوز تصرفات الذات الساردة -الطفل- إلى براح أفسح بكثير، هو استراق النظر للزمن البعيد، كما لو أن حياة الكاتب الماضية ما عادت تخصُّه، كأن للماضي حُرمَته، ولحيوات الراحلين قدسيَّة ما، لا تمنح نفسَها للانتهاك علَنا أمام أعين القراء. ثمة شكل آخر للتلصُّص نعاينه في رواية الكاتب والصحافي المصري حسن عبدالموجود، “عين القط”، بعنوانها الأقل مباشرة إذا ما قورنَت برواية صنع الله إبراهيم، لكنه يظل يشير بوضوح للعضو المنوط به فعل التلصُّص؛ العين. هنا يبني عبدالموجود روايته على خرافة فلكلوريّة معروفة في صعيد مصر، تزعم بأن الطفل التوأم الأصغر سنّا تُفارقه روحُه أثناء النوم، لكي تحِلَّ في جسد قط، ومثلما يفعل صنع الله، يختار حسن عبدالموجود أن يقوم الطفل الصغير بدور الذات الساردة، لكنه هنا يتلصّص على بيوت القرية ويكتشف فضائحها أثناء تجواله الليليّ بداخل جسد القط. فلا يكتفي بالتلصُّص على مداعبات عبدالسميع الجزار لزوجته سميرة فيما يُطارحها الغرام، وعلى خيانة سنية لزوجها صلاح مع السائق عباس، والجرائم التي يقوم بها حناوي الخفير من تزوير للانتخابات وترويج للمخدرات، وتخطيط لطرد عائلة بطرس المسيحية من زمام القرية، بترويجه شائعة إغواء زوجته الجميلة لشباب القرية؛ لا يكتفي بهذه الخبرات التي يتحصَّل عليها أثناء طفولته، مستغلّا حلولَه الليليّ في جسد القط، بل إنه وفي هيئته الطبيعية وبعد مرور زمن طويل، يتلصَّص على صديقه إيليا كي يكتشف طُرُقه السرية في الاستمناء، وعلى ابنة الخالة عواطف وملابسها القصيرة المغوية. التلصُّص إذا ليس وسيلة لتعرية المجتمع والكشف عن معايبه، بل إنه شغف أصيل لدى الذات الساردة، وهوَس لا يُرجى شفاؤه. مجتمعاتنا العربية تشهد رواجا ملحوظا لنموذج الرواية المبنيّ على فكرة التلصُّص يفوق ما يلقاه نموذج السيرة الروائية ربما تُحيلنا رواية حسن عبدالموجود لرواية حسن آخر، هو الروائي والطبيب المصري حسن كمال، وأعني روايته الأولى والمدهشة “المرحوم”، والتي تدور حول عبدالحي، عامل المشرحة الملقّب بالمرحوم والذي تُفارقه روحه أثناء النوم، لا لكي تحل في جسد قط، ولكن لتحل تباعا في جثث الأموات المحفوظين بداخل المشرحة، فقد اعتبَر عاملُ المشرحة نفسَه من أصحاب الرسالات، وأن وجوده بين هذه الجثث علامة تُشير للدور المنوط به. فأصحاب هذه الحيوات المبتورة لم يجدوا طريقهم بَعد لدفنة تُريح أجسادهم في باطن الأرض، أي أنهم في حالة انتظار دائم لمَن يستكمل مهامَّهم التي تركوها مُرغَمين. وإذ يتلبّس أجسادَهم ويتحرَّك بها من حيث انقطعَت مشاويرُهم، يتلصَّص عبر أعينهم الميِّتة، فتتكشَّف أمامه فضائح ما كان ليطّلع عليها لولا معجزته التي خُصّ بها دونا عن الناس؛ إنها الفضائح التي لا تقتصر فقط على حيوات الشخصيات كما في الروايتين السابقتين، بل إنها فضائح مجتمع آثَر ألا يُجابِه الشر بكافة صوره، اعتاد أن يُمرِّر المظالم فلا يتوقّف أمامها، أن يتكيّف مع الطبقيّة ويبتلع الطائفية ويغض الطرف عن الفساد، فأنتج أحياء يعيشون كالأموات، وأمواتا لم يعيشوا حياة تُذكَر. ليس المرحوم فقط مَن يعيش على هامش المجتمع، يُراقب الحياة دون أن يعيشها حقيقة، فالكاتب المصري وليد خيري يُقدِّم في رواية “حارس حديقة المحبّين” شخصية أخرى تُعاني التهميش واللاحياة، تُراقب الأحياء هنا دونا عن الأموات، وتتلصّص عليهم في أشد لحظات الحياة فَورة؛ لحظات العشق. الذات الساردة هنا حارس يعمل في حديقة الحيوان، لا يُكلّف بمراقبة الحيوانات كما يُفترض به، بل بمراقبة العشّاق الذين يجيئون للحديقة لا لمشاهدة الحيوانات النادرة، بل لاستراق لحظات الحب الخاطفة، تلك التي يُعاني الحارس من حرمانه الشديد من ممارستها، فيتحوَّل إلى التلصُّص والمراقبة التي تتخذ مع الوقت شكل الهوس، لدرجة أنه يثبِّت الكاميرات في حمامات الحديقة، وفي النهاية يفشل في ممارسة حب حقيقي حين يُتاح له. ولا يقتصر فعل التلصَّص على الحاضر فقط لدى الحارس المحروم، بل يتجاوز حاضرَه لماضيه، فيسترجع بذاكرته المشاهد الحميمية التي كان يتلصّص عليها في طفولته، حين كان يسترق النظر إلى الممارسات الحميمية بين أبيه وأمه. إنه متلصِّص بالسليقة، لا يتوقّف عند حد. أما الأديب المصري عادل عصمت، فيقدِّم متلصّصا آخر يعيش على الهامش مكتفيا بالمراقبة، وهو بطل روايته المدهشة “صوت الغراب”، حيث يتحوّل البطل/السارد مع نهاية الرواية إلى غراب، بالتزامن مع تحوُّل مجتمع المدينة المحيط به من الإنسانية المرهَفة إلى التوحُّش التام، ومع تحوّل أفراد عائلته من أسطورية الجد المؤسِّس، إلى الشقاق والصراع على الإرث والسلطة بين ذكور العائلة؛ شقاق يتوازى بدقَّة مع ما شهِده المجتمع المصري من تحوُّلات أفضَت إلى تصارع الجماعات الدينية المتشددة مع الدولة على السلطة والنفوذ. وبرغم صدمة التحوُّل الذي يطرأ على البطل، فإن المقدِّمات شديدة الإقناع، فالبطل مشغوف بحُلم الطيران منذ قاد الدراجة لأول مرة في طفولته؛ حُلم لا يتحقّق بغير التحليق بعيدا عن محيطه المأزوم، ولو تطلّب ذلك التحوُّل الكامل لهيئة الغراب الموصوم بالشؤم. السارد هنا محبوس في إطاره المكاني، مُكبَّل بإرث عائلته المتصارعة، لذا يختلس من محفظة أخيه المال اللازم لشراء منظار يُراقب به نجوم السماء، ثم يتطوّر شغفه لمراقبة البيوت والطرقات، والتلصُّص على أجساد النساء في البلكونات وفي الأفلام الإباحية؛ فالتلصُّص يبدو كفعل تمرُّد وبحث عن التحرُّر والانعتاق، ولطالما وقف الغراب الذي يعيش بداخله فوق فرع مُعوَجّ من شجرة العائلة، يُراقب العالم ويحلم بمكان بين النجوم، حتى صدَّق تماما طبيعته الحبيسة، فانعتق وطار. ولا يتَّسع المقام هنا لتناول كافة نماذج المتلصِّصين، إذ يبدو أنهم كُثُر، فلا يكَل الكُتّاب من الدفع بالمتلصِّصين لصفحات رواياتهم، ليراقبوا العالم عبر أعينهم الفضولية، ويكشفوا عن طبقاته المخفِيَّة؛ شخصيات مأزومة في أعماقها أو مكبوتة مكبَّلة أو تُراقب من بعيد أو تُغالب العجز عن الفعل.
مشاركة :