زمن الوباء ينعش ثقافة التأمين على الحياة في مصر | أحمد حافظ | صحيفة العرب

  • 7/1/2020
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

دفع ارتفاع الوفيات بوباء كورونا العديد من الأسر المصرية إلى الاشتراك في برامج التأمين على الحياة الحكومية، في ظل مخاوف أرباب العائلات من موت فجئي يحرم الأبناء من مصدر دخلهم ويضع مستقبل الأسرة في مصير مجهول، وبذلك يضاعف الوباء التحديات أمام هذه الأسر التي أعادت أولوياتها ولم يعد يشغلها غير الوقاية من هواجس الموت. القاهرة - غيّر وباء كورونا أولويات إنفاق الأسر المصرية، وأضاف أعباء جديدة لم تكن على خارطة هذه الأولويات، وطرحت مخاطر الخوف من الإصابة بنودا على ميزانية الأسر باتت ضرورية على حساب جودة الحياة، وهو ما يمثل تحديا كبيرا، يستوجب البحث عن حلول خلاقة لتحاشي تكرار الأزمات في المستقبل. واضطر عادل السيد، وهو باحث ومحاضر حر في القضايا الاجتماعية، إلى استقطاع جزء كبير من أوجه إنفاق أسرته الشهرية، نظير الاشتراك في وثيقة التأمين على الحياة، خشية وفاته في أي لحظة، وتشرد الزوجة والأبناء لغياب دخل شهري مستمر يعينهم على توفير الحد الأدنى من احتياجاتهم. ازدادت مخاوف عادل بعدما توفي مؤخرا أحد أقاربه متأثرا بإصابته بفايروس كورونا، والذي كان يعمل في مجال الأعمال الحرة ولم يترك لأبنائه مصدر دخل يؤمن مستقبلهم أو يعينهم على مواجهة الواقع بكل ما يحمله من تحديات قد تكون مواجهتها عملية قاسية في غياب المال. ومع إعلان شركات التأمين على الحياة عن تحمل تكلفة علاج مصابي الوباء لكل فرد يقوم بشراء وثائقها، وتسليم عائلته مبلغا ماليا معقولا حال وفاته سلكت الكثير من عائلات المتوفين مسار التأمين، أملا في تأمين دخل شهري يعينهم على أعباء الحياة. وضعت بذلك الجائحة ثقافة التأمين على الحياة في دائرة الضوء وهي ثقافة بدت غائبة في معظم الدول العربية باستثناء عدد قليل منها، نتيجة الفاقة والفقر ما أجبر الأسر على توجيه أولويات إنفاقها إلى الطعام وبعضا منها إلى العلاج والتعليم. لكن مع تصاعد مخاطر الوباء التي جعلت الناس يتابعون تطورها وارتفاع عدد المصابين الجدد يوميا بشكل مقلق، أصبح يُنظر إلى مسار التأمين على الحياة، باعتباره ميزان انضباط لأحوال العائلة مستقبلا، أمام التشاؤم السائد من استقبال موجات وباء جديدة، وتحذيرات منظمة الصحة العالمية المتواصلة من أن كورونا سوف يستمر لفترة طويلة. وتجد أحد أرباب الأسر، يقوم ببيع جزء من ميراثه العائلي للاشتراك في بوليصة تأمين له ولأولاده، وربما تكتشف أن آخر تنازل عن شراء قطعة أرض لبناء منزل في إحدى المناطق الراقية، بعد أن كان هذا حلما له ولعائلته وليهرب من السكن في بيئة عشوائية، فيودع المبلغ بإحدى شركات التأمين. من هؤلاء، محمد رزق، الذي أحيل مؤخرا على المعاش الحكومي، وكان يرغب في استغلال المبلغ لشراء وحدة سكنية جديدة بمدينة هادئة بعيدا عن إقامته سنوات في حي شعبي بالقاهرة. ومع خوفه الدائم من إصابته بالفايروس وترك بناته الأربع يواجهن شبح الشح المالي قرر تغيير أولوياته واتجه إلى فكرة التأمين على الحياة، مع اشتراكه في برامج أخرى للتأمين الطبي له وباقي أفراد أسرته، خوفا من إصابة أي منهم بالوباء. وتصاعدت المخاوف لدى رزق بعد أن أصيب أحد أقاربه ولم يجد سريرا للعلاج في المستشفى، ما دفع به إلى زيادة قسط التأمين لتغطية نفقات توفير علاج الوباء في المستشفيات الخاصة. وتخلت الأسر في ظل تفاقم الأوضاع الصحية عن الرفاهيات إجباريا وأضحى تأمين المستقبل للأبناء يحظى بالمساحة الأكبر من التفكير والتدبير وأصبح يتصدر أوجه الإنفاق والادخار. وأوضح محمد حامد، موظف بشركة خاصة لـ”العرب”، بأن “الكثير من أرباب العائلات في الوقت الراهن، لم يعد يفكرون سوى في شبح الموت وانعكاس ذلك ماديا على الأسرة”. استثمرت شركات التأمين على الحياة حالة الذعر من وباء كورونا، لتسويق نفسها بين مختلف شرائح المجتمع لتحفيزهم على الاشتراك في وثائقها التأمينية. وأصبحت الشركات تخاطب أبناء الطبقة المتوسطة وفوق المتوسطة والأغنياء، لكن الإقبال على التأمين الحياتي تضاعف لدى الفئتين الأولى والثانية، أما الفئة الثالثة فثقافة التأمين لديها مرتفعة لأنه لا ترهقها أقساط التأمين، فضلا عن أنها تقتني دائما الأشياء الثمينة من سيارات ومساكن وغيرها وتغطيها دائما بوثائق تأمين ضد الأخطار المحتملة. وأشار عادل السيد لـ”العرب”، إلى أن “الشعور بعدم الأمان في الحياة وتوقع الخطر في أي وقت مع إعلان الحكومة عن خطة التعايش مع فايروس كورونا وفتح كل القطاعات تقريبا، دفعه والكثير من الأصدقاء إلى إعادة النظر في التأمين على أنفسهم”. وقال عادل وهو أربعيني يعمل محاسبا بإحدى الشركات الخاصة، “درست نظم التأمين وأنا في مرحلة الجامعة، لكن مع ضغوط الحياة ومحدودية دخلي الذي يضمن لي بصعوبة الحفاظ على الحد الأدنى من الحياة المستقرة أزحت هذا البند من حياتي رغم أهميته”. وأضاف مع “بعد تصاعد المخاوف التي باتت لا سقف لها ومتابعة تداعيات الوباء على الأقارب المصابون، هرعت للتأمين على أبنائي وزوجتي، في إحدى شركات التأمين، لدرجة أننى ذهبت إلى مقر الشركة مرتين بسبب الزحام، والإقبال عليها”. ولدى، الأربعيني، مجموعة أصدقاء أصبحوا يفكرون بنفس المنطق، فلم يعد المأكل والمشرب والملبس والرفاه، في صدارة الأولويات بالنسبة لهم، بل البحث عن أي مصدر ينتشل أولادهم من السقوط في دوامة الفقر عندما يفقدون العائل الوحيد لهم، مع اتساع دائرة المخاطر اليومية. بدوره لا يزال محمد رزق، موظف بالحكومة، يواصل مساعي إقناع بناته بحتمية التنازل عن الرفاهيات مقابل تأمين حياتهن إذا أصبح أحد ضحايا كورونا، ويضيف “للأسف الأبناء ينظرون إلى خوف الأب على مستقبلهم بترشيد الإنفاق والاستغناء عن بعض الأولويات لمواكبة مستجدات الوباء بنوع من التذمر لحرمانهم من أغلب احتياجاتهم”. وكان الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي قد أطلق مبادرة لنشر ثقافة التأمين، عبر وثيقة التأمين على الحياة والتي حملت اسم “أمان” وكانت تستهدف التأمين على العمالة غير المنتظمة. ورغم أنها تضمن تعويض أسرة المتوفى بنحو 3200 دولار لكل وثيقة تأمين قيمتها 31 دولاا، إلا أن الإقبال عليها لم يكن على المستوى المستهدف منه، ودفع هذا التباطؤ الحكومة إلى إتاحتها لجميع شرائح الشعب، وحصدت ثمارها الشركات الكبرى التي قامت بشرائها لموظفيها. وبين رشاد عبده خبير الاقتصاد لـ”العرب”، إن عدم الاقبال على وثيقة “أمان” يعكس ضعف ثقافة التأمين، ومع ذلك فان وباء كورونا نجح في إعادة نشر الوعي المجتمعي تجاه التأمين على الحياة، خاصة مع اتساع نطاق دائرة الوباء، وارتفاع حالات الإصابة والوفاة. وأصبح كثيرون يخشون فقدان الوظيفة في أي وقت سواء على مستوى القطاع الحكومي أو الخاص، في ظل توقعات باتجاه الحكومة لتطبيق قانون المعاش المبكر (التقاعد) لخفض نسبة العمالة. وتتصاعد المخاوف بشكل كبير لدى العاملين في القطاع الخاص الذي يتعرض لخسائر يومية، ما ينعكس سلبا على استقرار الأسرة مستقبلا، إذا أصيب أو توفي عائلها وبالتالي يختفي الدخل الشهري. وللإشارة فإن ميزة وثيقة التأمين أن العائلة المؤمن على أحد أفرادها، لاسيما الأب أو الأم، تحصل على تعويض بمجرد إصابته بالعجز أو توفي، حتى لو قام بالتأمين على حياته قبل أشهر قليلة من تعرض حياته لمكروه، ويعكس الإقبال على هذه الخطوة الوعي المجتمعي بأن الخطر يحيط بالناس في كل مكان وزمان وعليه فإن التأمين ضرورة حتمية. وأمام الوصمة السلبية التي يصاب بها حامل كورونا وعائلته، ألزمت الحكومة القطاع الطبي بعدم إدراجه ضمن أسباب الوفاة في السجلات الرسمية، وتكتفي المستشفيات والإدارات الصحية باستبدال ذلك بضيق في التنفس أو الإصابة الصدرية. ما يعني أن شركات التأمين ملزمة بصرف التعويضات لورثة العميل طالما أنه توفي بغض النظر عن السبب. أبرز ما شجع الناس على الاتجاه للتأمين على الحياة في ظل جائحة كورونا أن ثقافة تحريم هذا التصرف تغيرت إلى حد بعيد، بعدما حسمت دار الإفتاء المصرية هذا الملف الشائك مع بداية انتشار كورونا في مصر، وقالت إنه لا يخالف الشريعة، ويندرج تحت التكافل الاجتماعي والتخفيف من تداعيات المصائب والكوارث. وحيال خشية البعض من أن تكون الفتوى تحمل أهدافا سياسية، اضطروا إلى التعاقد مع شركات التأمين التكافلي الإسلامية التي توسعت في مصر بتقديم نفسها على أنها تعمل وفق أصول الدين. وخاطبت بذلك الفئات التي تريد إمساك العصا من المنتصف، على شاكلة الذين لا يريدون الامتناع نهائيا عن العزوف في الاشتراك، ولا التجاوب التام مع الفتاوى الرسمية التي تحلل التأمين. وكان بعض رجال الدين المتشددين قد نجحوا على مدى سنوات مضت، في إقناع شريحة كبيرة من المصريين بأن التأمين على النفس ضد المخاطر، اعتراض على إرادة الله وقضائه، ومنهم من أفتى بأن رب العائلة الذي يفعل ذلك يترك لأبنائه أموالا محرمة وسوف يكبرون ويتعلمون ويتزوجون من الربا. أصاب الصراع بين الحلال والحرام، أغلب الطبقات الاجتماعية بحالة شتات وتردد، إذ لم يكن بمقدور رب عائلة أن يسمع شيخا يقول إن التأمين على الحياة يترتب عليه ذرية فاسدة ومتصارعة مع نفسها، ويقدم على هذه الخطوة، ويرحل على الدنيا تاركا الأبناء يتقاتلون على المال الذي حصلوا عليه من التأمين. وعلق عادل موسى، رئيس إحدى الشركات الكبرى في قطاع التأمين على هذه القضية بالقول إن “حسم الجدل الديني بالتزامن مع حالة الهلع الجماعي من كورونا، غير نظرة الناس للمستقبل، وأغلب أرباب العائلات أصبحت لديهم هواجس يومية من إمكانية ترك أولادهم دون تأمين حياتهم، على مستوى التعليم والزواج وتوفير السكن المناسب. وتابع في تصريح لـ”العرب”، أن “ثقافة التأمين على الحياة كانت محدودة عند شريحة واسعة من الناس، لكن عندما رأوا أن أقرب الأشخاص إليهم يموتون في لحظة، أو يصابون ولا يجدون العلاج، بدأت العائلات تعيد رسم أولوياتها، وتركز في تأمين المستقبل، أكثر من أي شيء”. ولفت إلى أن التأمين الطبي بدأ يأخذ حيزا من اهتمامات فئة كبيرة من الشارع، في ظل الصعوبات التي يعاني منها الأفراد عند الإصابة بفايروس كورونا، سواء في المستشفيات الحكومية أو الخاصة، على مستوى توفير النفقات أو شراء الأدوية والمستلزمات اليومية. وبغض النظر عن معدلات الإقبال على الوثائق الطبية أو الحياتية، فإن زيادة الطلب على التأمين ضد المخاطر يظل محكوما بمقاييس النمو الاقتصادي ونسب الفقر في المجتمع، بعدما وسعت الجائحة قاعدة العوز والحرمان، وأفقدت مئات الآلاف من أرباب العائلات مصدر الدخل الوحيد. وتتصدر مصر دول القارة الأفريقية بأكبر عدد للوفيات جراء الفايروس، حيث وقع تسجيل 1566 حالة إصابة جديدة ثبتت إيجابية تحاليلها معمليا لفايروس كورونا المستجد إلى حدود الاثنين، إضافة إلى وفاة 83 حالة جديدة.

مشاركة :