لمين بشيشي "ملحن الأجيال" يفارق عشاقه وفي قلوبهم لحنه الخالد | صابر بليدي | صحيفة العرب

  • 7/29/2020
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

تشكل شخصية المناضل والمثقف والفنان الراحل لمين بشيشي كنه الرسالة التي رفعتها جبهة التحرير إبان ثورة الجزائرية، فكانت البندقية في يد والمسرح والموسيقى والقصيدة في اليد الأخرى، من أجل تعريف العالم بأوجه الثورة وبرسالة المناضلين الكبار، فكما صدح صوته في إذاعة “صوت الجزائر” وقلمه في صحيفة “المجاهد”، جادت قريحته أيضا بأجود الأعمال والألحان للأجيال الصاعدة. الجزائر- رحل مؤخرا المناضل والمثقف والفنان الجزائري لمين بشيشي، تاركا وراءه فراغا رهيبا في عالم التأليف والتلحين، غير أن رصيده سيبقى شاهدا على رجل سخّر حياته لخدمة وتهذيب ذوق الطفولة، رغم انحداره من عالم النضال القومي الخشن، فكما صدح بقلمه وصوته في صحيفة “المجاهد” وإذاعة “صوت الجزائر”، اهتم بالإعلام والتربية الطفولية، فأطلق أجمل لحن ظلت المدارس الجزائرية تردده لعقود كاملة، ليبقى بذلك أحد الروائع الخالدة. وكان بإمكان الفنان الراحل لمين بشيشي أن يخلد اسمه وروحه بأي عمل أو مؤلف آخر، كما يفعل رموز الأدب الفن والسينما، إلاّ أن لا واحدا من أعماله يمكن أن ينافس لحن أنشودة “مدرستي آن الرّحيل وآن أن نفترقا”، الذي خلده في مخيال وعقول أجيال بأكملها، رددتها وبكت لأجلها، وتبقى كذلك رغم التعتيم الذي يمارس على الإبداع والذوق الرفيع في بعض المواقع. وكما يقول نقاد بأن المبدع يخلده عمل واحد حتى ولو ترك مكتبة ثرية خلفه، فإن الرجل سيبقى في مخيال الجزائريين، مرتبطا بمسلسل “الحديقة الساحرة” للتلفزيون العمومي، وبالأغاني التربوية الموجهة للأطفال التي كانت تؤلف للبرنامج/ المسلسل، وعلى رأسها أغنية “مدرستي آن الرّحيل وآن أن نفترقا”، التي كتبها الشاعر الراحل محمد الأخضر السائحي. ولد لمين بشيشي بمنطقة سوق أهراس على الحدود التونسية في العام 1927، تلقى تعليمه الأول في مدارس جمعية علماء المسلمين الجزائريين، ثم رحل إلى تونس في العام 1956، أي عامين بعد انطلاق ثورة التحرير، للإشراف على إصدار الطبعة الثّالثة من جريدة “المقاومة الجزائرية” التي صدرت طبعتاها السابقتان في أجزاء محدودة من فرنسا والمغرب وتونس نفسها. وأهّله حسّه الصحافي لأن يلتحق بمنبرين كانا العصب الإعلامي الأقوى للثورة هما جريدة “المجاهد” وإذاعة “صوت الجزائر”، وبعد الاستقلال تولى إدارة الإذاعة والتلفزيون العموميين، في ظرف عصيب بسبب قلة الكوادر الفنية والإعلامية، بعد استرجاع السيادة الوطنية على الإذاعة والتلفزيون في أكتوبر 1962. وجمع الرجل بين العديد من الوظائف الإدارية والفنية، حيث انتسب آنذاك لإدارة المعهد الوطني للموسيقى وعضوية الأكاديمية العربية للموسيقى والإبداع الموسيقي، وساهم في عدة إبداعات راقية، على غرار موسيقى شارتي البداية والنهاية لمسلسل “الحريق”، للأديب محمد ديب. وخلال العشرية الدموية اختار الرجل بموقفه الثوري التاريخي، الوقوف في وجه المشروع الظلامي للجماعات الإرهابية، وعاد لإدارة مؤسستي الإذاعة والتلفزيون الحكوميتين في حقبة التسعينات، ثم تولى بعدها حقيبة الاتصال في حكومة الرئيس الأسبق اليامين زروال. ولأن شخصية وحضور الرجل ارتبطا بالإبداع الفني وليس بالمؤامرات السياسية، وبعلاقته الوطيدة مع الموسيقى والطفولة البريئة، فقد ظل محل قبول واحترام من قبل جميع التيارات والنخب، فلقب بـ”ملحن الأجيال”. ويعد المثقف والفنان لمين بشيشي، من الشخصيات الجزائرية النادرة التي وفّقت بين المناضل السياسي والمثقف المبدع، لاسيما وأن جدلية السياسي والمثقف ظلت وتبقى من أبرز بؤر الجدل المزمن لدى النخب الجزائرية، وعزا ذلك في تصريح أدلى به لصحيفة محلية، إلى كون مساهمته في العمل النضالي كانت أكثر منها في العمل السياسي. وقال “لاحظت في تكويني حالة اجتماعية صعبة ومهينة للعائلات الجزائرية، ومنها وجدت نفسي مرغما على اقتحام المعترك السياسي أو مجال المقاومة، لأنني أعتبر نفسي مناضلا ومقاوما أدافع عن القناعات التي أؤمن بها وإن كنت داخل السلطة، فالسياسة السياسوية بالنسبة لي لعنة”. ورغم الإبعاد غير المبرّر والمفهوم للرجل من المشهد الفني والثقافي، إلاّ أن التواضع بقي يلازمه إلى دار الخلود، فقد رفض أن يبرّر عدم بروز طاقات فنية في الجزائر، خاصة في المجال التربوي، حتى بوصف “التراجع”، وقال لمحدثه، “يصعب إطلاق حكم التراجع أو التقهقر”. لمين بشيشي أبدع لحن أنشودة "مدرستي آن الرّحيل وآن أن نفترقا"، الذي خلده في مخيال وعقول أجيال بأكملها وبرّر موقفه بكون “الجزائر غنية بالطبوع الفنية الموسيقية، وبروز عدة طبوع فنية جديدة على الساحة”، لكنه اعترف بأن “الساحة الفنية تشهد طغيان الأغاني التجارية الخالية من القِيم الأخلاقية والتربوية، ثمّ إن سلطان الزمان في الوقت الحالي هو اللاعب وليس المطرب كما كان زمان”. واستدل على ذلك بكون “مونديال كرة القدم 1982 في إسبانيا، ألفت أغاني للمنتخب الوطني كلها مبنية على مفردات من اللغة العربية الفصحى، على غرار أغاني المطرب الصادق جمعاوي، أما في مونديال جنوب أفريقيا 2010 فظهرت أغاني جديدة بكلمات هجينة لا علاقة لها بالثقافة الجزائرية، وهي بمثابة نكبة على لغتنا الشعبية لكونها مصطنعة وهابطة”. وسلط الرجل قبل رحيله الضوء على لغط كبير أحاط بعائلة الفنانة الراحلة وردة الجزائرية، بعد اتهام المطرب حاج الطاهر الفرقاني لوالدها بامتلاك “كباريه” في باريس، بكون العاصمة الفرنسية كانت في خمسينات القرن الماضي تضم “كباريهين” اثنين فقط، الأول يسمى “الجزائر” والثاني “الطامطام” يملكه والد وردة الجزائرية، وهناك كان يأتي عرب المشرق لسماع أغاني عربية محترمة أين سهر محمد عبدالوهّاب في كباريه الجزائر وألّف “ليالي الجزائر” ذات مرة. وقال “الحقيقة أن المرحومة وردة الجزائرية وهي بعمر الـ11 سنة كانت تصعد على الخشبة لتغني في الطامطام، أين كان يرتبط الشيخ الفرقاني بعقد للغناء”. وأضاف “الآن تغيرت المفاهيم وأصبح الكباريه كلمة لا أخلاقية تعبر عن المجون والأغاني الهابطة، وهو ما جعل المطرب الفرقاني يسقط في فخ كلامه ويقول ما قاله خلال حفل تكريم الفنانة الراحلة وردة، وهو بريء من الافتراء وربما تجاوزه التسعين جعله مرمى لسهام جيل الفيسبوك الذي لا يرحم”. لأن الرجل يصنّف في خانة الفنان الشهم، حتى ولو كان في منصب السياسي المتسلق، فإنه اختار الاستقالة من منصب المحافظ السامي لتظاهرة الجزائر عاصمة للثقافة العربية، إذ لم يتّفق شكلها ومضمونها مع قناعاته وخلفيته القومية، واعتبر أن اختيار تاريخ التظاهرة كان خاطئا من قبل المسؤولين الجزائريين، قائلا “كان الأجدر بهم اختيار عام 2004 ليكون متزامنا مع خمسينية الثورة التحريرية العظيمة بدل اختيار عام 2007”. وأضاف “حينها اتصلت بي وزيرة الثقافة خليدة تومي، للإشراف عليها بأمر رئاسي، والذي حصل عمليا أن رئيس الدولة عبدالعزيز بوتفليقة، زهد في تعييني بمرسوم رئاسي خلافا لسنة 2003 بالنسبة لسنة الجزائر في فرنسا، بعدها أمر رئيس الحكومة الوزيرة خليدة تومي بتعييني على رأس التظاهرة، وهو ما رفضته واعتبرته زهدا رئاسيا وترفعا عن التعيين والإشراف على السنة الثقافية العربية، خلافا لكل البلدان العربية التي نظمت التظاهرة في وقت سابق”. وتابع “انطلاقا من أفكاري ومبادئي أردت أن تكون تظاهرة الجزائر عاصمة للثقافة العربية، أفضل من تظاهرة سنة الجزائر بفرنسا سنة 2003، لأن الدول العربية قدّمت الكثير للجزائر ولثورتها، وكنا نسعى لتقديم صور تليق بسمعة الجزائر، وسارت الأمور إلى أن أثيرت قضية جوهرية وهي الصرف المالي للتظاهرة، فقرّروا أن يكون لي التصرّف في عشر الموازنة وتسعة أعشارها تكون تحت تصرف الوزارة الوصية، ولأن الباخرة لا يقودها ربانان، فلا يمكن أن يكون الآمر بالصرف واحدا، فإما أن تكون أو لا تكون”. قناعات راسخة لأن لحن لمين بشيشي الخالد لتلاميذ المدارس ومساهماته في برامج الأطفال الهادفة تسبق المناصب، فإن الرجل ظل متمسكا، بأن “التعليم عن طريق الأنشودة أصحّ وأنفع بالنسبة للتحصيل، حيث تكون من خلال التركيز على أولويات الطفل كالأُم، الأب، المدرسة، المهن، الحيوانات المفيدة.. الخ، كما تكون باعتماد لغة في المتناول وليس لغة امرئ القيس وعنترة بن شداد، من أجل تحبيب وترغيب التلاميذ في لغتهم الأُم”. وتساءل بحسرة عن أسباب توقيف الحصص التربوية التعليمية من التلفزيون، على غرار “الحديقة الساحرة” و”بين الثانويات” وهي التي ساهمت بشكل كبير في خلق منافسة بناءة وهادفة بين التلاميذ وحقّقت الفائدة العامة. ولم يتوان في اتهام الدوائر الفرانكفونية ومن ورائها فرنسا، بالوقوف وراء اللغة الهجينة التي طغت على الساحة الفنيّة وتعدّتها إلى مجالات أخرى في الجزائر، وجزم بأن مؤامرة فرنسية كان لها دور كبير في ما يحصل من تدنّ لمستوى كلمات الأغاني. واستدل على ذلك بخلفيات وظروف تنظيم تظاهرة “سنة الجزائر في فرنسا” في العام 2003، حيث برز تشجيع لافت من قبل الفرنسيين للمغنين الشباب على إقحام مفردات أجنبية وأغاني فرنسية ليكونوا ضيوفا على الخشبات الباريسية. وشدّد على أن “اللغة العربية ثابت من الثوابت في الجزائر، وهي إحدى أساسيات وحدة الشعب الجزائري ويجب الالتفاف حولها وحمايتها مثلما قاوم جيل الثورة مشروع (الجزائر فرنسية) حين وقف جيش وجبهة التحرير، وقفة رجل واحد من أجل وحدة الشعب والوحدة الترابية للوطن، لما أقرّ الجنرال ديغول بتقرير المصير للجزائريين”.

مشاركة :