تندفع مركبات الترام في الذاكرة: بعد أن اندفعت سنوات طويلة في الشوارع تحمل البشر والمصائر، ثم اختفت. أقول الآن وداعا لكل شيء، تسعة وخمسين، دخولي المدرسة أول مرة، تقع إلى جوار مخزن الترام، مأوى المركبات والقطارات بعد انتهاء الخدمة اليومية، منطقة معزل، على أطراف المدينة وقتئذ. كان حضور الخلاء قويا، وهذا من أسباب كثافة الوداع عندي، ذلك أن الوقوف عنده فيه تأهب واستشراف لرحيل غامض، الشارع المؤدي إليها فسيح بمقاييس الوقت، ورؤيتي أيضا، أجده ضيقا الآن إذا مررت قربه، مزدحما. الجانب الأيسر للصاعد من شارع السرايات إلى المدرسة سور كلية الشرطة، لم تكن الكلية بالنسبة لنا إلا سورا يخفي تماما ما وراءه، ثم بوابة رئيسة على جانبيها حرس وحملة أعلام يقفون في ثبات، أحيانا تجيء أصوات موحدة من الداخل. واحد، اثنان، ثلاثة... واحد، اثنان، ثلاثة. سرعان ما ينزل الصمت، يستأنف أعمق وأفضل تأثيرا، على مقبرة مستشفى الحميات، يليها مستشفى الأمراض العقلية، في مصر اثنان من التخصص الأخير، العباسية، الخانكة. كلا المكانين إشارة إلى الخلل النفسي. كثيرا ما أصغيت إلى حوار تتخلله عبارة «دا عباسية خالص»، «دا خانكة خالص». أحيانا يدل المكان على ما لا يتصل به في الظاهر، معنى ما، لكن المدرسة كانت قصية بمقاييس الوقت، مبناها صارم، ربما كان مصمما للغرض في الأصل، وربما كان مأوى للجنود، لا أعرف، المنطقة كلها كانت مقرا لثكنات الجيش الإنكليزي. لا تزال بعض المباني التي شيدوها قائمة، مثل هذا الذي أشرفت عليه من الغرفة التي أقام فيها أخي عندما رحنا نتحدث في ترتيبات الوداع، كنا نناقش أوضاعنا، وسائر ما يتعلق بها كأننا نرتب رحلة ننتقل بعدها من طور إلى طور، من حال إلى حال، ليس الوداع إلا نذير انتقال، وإشارة عبور إلى ما نجهل، ما لا نعرف، وما لم نطلع عليه، ما لم نحط علما بما سيجري لنا فيه سكون مجلبة للأسى. وهذا من لوازم الفرقة، خاصة عندما ننسلخ قسرا عما ألفناه وعهدناه، لكم تلوح الإشارات وتبدو البوارق، غير أننا لا ننتبه إلا بعد فوات الأوان إذا جرى ذلك حقا. ثمة أماكن أقمت بها قدرا غير هين من الوقت، عندما فارقتها لم أرجع إليها قط حتى الآن، وفي الأغلب الأعم لن أراها أبدا، منها السجون التي تنقلت بينها، وقصر آل الشريعي الذي اتخذته مقرا خلال عملي القسري. سنة تشبه النفي عرفت خلالها صعوبات عيش يهون وقتي بالحبس إذا ما قورن بها، وقد ذكرت بعضا مما عانيت، مما عرفت في الدفتر الثاني، والسابع، إضافة إلى تفاصيل وزعتها هنا وهناك، من تلك المباني والأماكن مدرسة العباسية تلك. حتى الآن أمر بالقرب منها في شارع السرايات أو طريق صلاح سالم الذي شق في ما بعد، لم أشرع قط في إلقاء نظرة، لم يدفعني فضول لأطلع على ما آلت إليه الأحوال، أو لأستعيد نثيرة وقت مما أمضينا. بل إنني أتجنب الاقتراب أو الاستعادة حتى بالمخيلة، ولا أظن أنني استعدتها بالحلم، لذلك أسباب، تتضح حينا كما في حالة المعتقل، وتغمض حينا آخر، أشدها وأوعرها ما يتعلق بالمدرسة مع أني عرفت داخلها أوقاتا من البهجة والانخراط في الصحبة، بقدر ما أجتهد لأستعيد أماكن فقدتها أو أوشك، بقدر ما أفر من أخرى وأتجنب. ثمة لحيظات أخشى استعادتها، أقصيها إذا لاحت، أحاذر الاقتراب منها، لكنني أذكر بعضها لعلي أزيل الرهاب، ومن أكثرها حدة ما جري لي في الترام. تسعة عشر ترام رقم تسعة عشر مجرد وصلة، لم يرق إلى مرتبة خط قائم بذاته، يدفع فيه الراكب مقابل التذكرة، بالورقة نفسها يركب خطا آخر، رقم ثمانية إلى شبرا، أو خمسة عشر إذا قصد الجيزة، أو اثنين وعشرين إلى العباسية. مركبتان، بكل منهما قسم خاص للحريم، لا مقاعد، إنما دكتان طويلتان متواجهتان، نوافذه عريضة. أرتدي جلبابا، قادم من سور الأزبكية، تعلقت بناحية اليسار، لم أكن أجيد الشعبطة، أو القفز من مركبة متحركة، لم أعرف المهارات التي يتقنها أقراني مثل ركوب الدراجات، لعب الكرة، القفز من حافلات متحركة، التعلق بجهة الشمال يعني التهرب من دفع قيمة التذكرة أو محاولة السرقة. كنت أرى الصبية الأصغر سنا يقفزون إلى الأرض، أجسادهم تميل عكس الاتجاه، ينتقلون من مركبة إلى أخرى، حذرني أبي، وما نبهني إليه كدت ألقاه. الوقت عصر... تبدأ الحركة متمهلة، ينتقل خلالها الترام من خط القدوم إلى الذهاب، لمحني الكمساري، يرتدي حلة صفراء، يتدلى من كتفه حقيبة جلدية كانت من لوازم الشغل، جلد طبيعي متين، تماما مثل حقيبة ساعي البريد. أراها فيما بعد معروضة كتحفة في واجهة محل متخصص في الجلود النادرة. يلوح الكمساري بيده مهددا، ينتابني خوف، إنه سلطة بشكل ما، كل ما يمت إليها كان مهابا وقتئذ، من أعلى المراتب إلى أدناها، موضعي خطأ، أبادر بالقفز، ولأنني أقوم بالحركة لأول مرة كدت أسقط فوق الأرض، تعلقت بالباب، بدأت المركبة تسحبني، ولأنها سوف تنتقل من خط إلى آخر بميل فهذا يعني مرورها فوقي. أتعلق متشبثا، أنظر إلى شيء ما، الطلاء أصفر، لون السقف الداخلي أبيض، مستسلم تماما، مشدود إلى لحظة فارقة، مدرك لما سيجري غير أنني لا أعرف الخلاص.
مشاركة :