أماكن / خطوط ماثلة (2) | ثقافة

  • 7/25/2015
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

... ماذا جرى؟ كيف أفلت؟ لا أعرف ربما لحقني أحدهم، ربما تمهل المركبة عند الانتقال، ما أستعيده الآن تعلقي، وثوقي من نظرة وداع استقرت في حدقتي، جلبابي بني مخطط بالأبيض، كم أبلغ؟، ربما الثانية عشرة، الرابعة عشرة، عرفت طريقي إلى سور الكتب الشهير مبكرا. أتفادى فضولي، الاستعادة، ما جرى، لا أتمهل للفحص، أحيد بسرعة، رغم أنني عانيت موقفا أشد حلكة غير أنني عند استعادته، أو وروده على الخاطر لا أجزع ولا أرهب. أقترب من نهاية شارع الغورية، بالضبط ما بين القبة والمسجد، إذن.. أنا قادم من ناحية باب زويلة، من أين؟ لا أعرف، أمثل في مكان، مجرد موضع منقطع عن الأسباب، عن المصدر والمآل، لولا ما جرى لما علقت اللحظة. صبي يجري، رأيته بعد أن تجاوزني، متجه بسرعة أعجب من صدورها عنه حتى الآن، حافلة من النقل العام تعبر أمام السوق، يسقط لسبب ما أجهله، العجلة الضخمة تمر فوق دماغه تماما، اختلاط الدم بالشعر، ما يشبه الانفجار، اختلاجة الجسد، كنت على قرب شديد. لماذا أستعيد فلا أجزع؟ لأن الأمر خص غيري، أما ما حدث قرب ميدان العتبة فمما أتلافاه وأنأى عنه، متعلق بي، تهديد وقع، دنا وأقترب منذ نصف قرن أو أكثر، حدته لاتزال، فكأنه يمثل مرة أخرى بمجرد الاستعادة. الترام يسري، يمضي من وقت إلى وقت، من زمن إلى آخر، يصعد هؤلاء وينزل هؤلاء، تتقاطع النظرات، ويعلو الصرير عند المنحنيات، يقفز المتعجلون، أو المختلسون وقتا أو أشياء لا تخصهم. في صدارة المقعد الأمامي يجلس الشيخ صالح الجعفري، مهيبا، حضوره يفيض على ما حوله. أعرفه من درس العصر في صحن الأزهر، يبدأ بعد الصلاة، يتحلق فوقه القوم، من طلاب العلم والراغبين في الزيادة، يجلس بينهم والدي، يصغى مرهفا السمع. قال إنه قابل الشيخ يوما الذي أمضى أربعين سنة كاملة مقيما فوق حصيرة تتصل مباشرة بالأرض داخل رواق الجعافرة. كان يمشي الهوينا قاصدا البقال المواجه لزاوية العميان، بعد السلام الموقر تابعه الوالد، توقف عند البقال وكان هدفه الحديث في الهاتف. قال الوالد إن ذلك حيره، يعرف بوجود هاتف داخل الرواق، لكن الشيخ أوضح ذلك لمريديه وطلابه، عندما يرغب الحديث إلى أهل بيته في أسوان لا يستخدم الهاتف العمومي، هذا أمر يخصه لابد أن يدفع مقابلا من جيبه. يجلس الشيخ في مواجهتي، لا أجرؤ على مصافحته، أتطلع إليه برهبة، ما علق عندي قوله مخاطبا من أجهل: «إن عينا لم تر جمالك لهي عين شقية».. قالها ثلاث مرات، كل مرة من مقام مغاير، أرددها عند زيارة ضريحه الذي أصبح مقصدا للزائرين والمريدين، وحوله قامت منشآت، تطالعني طلته من الأبدية، أتطلع إلى الصورة التي يحددها الإطار، أو من اللامكان، حيث ذاكرتي التي أنفذ عبرها إلى كل ما لم يعد في المتناول، أجهل قوانينها وأحوالها وما تحتفظ به، أنطقها كأني أخاطبه. «إن عينا....» خطوط ماثلة يندفع ترام رقم أربعة في رؤياي كطلقة بادية، بينما يزحف رقم ثلاثة عشر كأنه سلحفاة مع أن لكل منهما نفس السرعة، والوجهة. أربعة، يندفع ظاهرا عند المنحنى، ليس أي منحني، لكنه بالتحديد ذلك المؤدي من شارع محمد علي إلى ما بين مدرسة السلطان حسن ومسجد الرفاعي، كان مرور الخط بينهما باتجاهيه يباعد ما بينهما ويوجد بُعدا خفيا يوحي بوجود مكان عبر المكان. إنه أول ترام يتم مده في القاهرة، كان حدثا هائلا في مساء المدينة وتطورها، بدأ ذلك عام ألف وثمانمئة وأربعة وتسعين حتى عام خمسة وثمانين بعد التسعمئة، عندما أجريت الترميمات الواسعة، وأزيل خط الترام، قصر الطريق على المشاة فقط، ضاقت المسافة واقترب المسجد من المدرسة وبعد مرور سنة بدأ الوضع كأنه مستقر منذ قرون. يصلان بين السبتية والإمام الشافعي، أي ما بين بولاق وجنوب القاهرة، أربعة أقدام، من الخطوط الأولى، لم تتغير عرباته المكشوفة من الجانبين، جزء صغير مغطى، المخصص للحريم، داخله مقعدان مستطيلان متواجهان. يتحرك الكمساري على السلم الطويل المحاذي للعربة كلها، وعندما يتعلق البعض وقت الزحام، تبدو مهمته صعبة، غير أن كلا منهم أتقن ذلك، الانتقال من شخص إلى آخر، بل إنه أحيانا يقفز في الفراغ ليضع مقدمة الحذاء على السلم مرة أخرى من دون أن يسقط طربوشة، أو الحقيبة الجلدية التي تباع الآن في محلات التحف مع حقيبة البوسطجي، جلد سميك متقن، في العشرينات جرى إضراب شل الحركة تماما وكان المطلب الرئيس اعتبار الحقيبة والحزام والحذاء ملكية لمن يتسلمها وليست عهدة موقتة يتم تسليمها مع نهاية الخدمة، استجابت الشركة وصار ذلك مستقرا إلى أن تبدلت الأحوال منذ نهاية الستينات، ولم يعد ملزما للكمساري أو السائق أن يرتدي كل منهما زيا خاصا، أصبح صعبا تمييزهما، إلا بلوحة التذاكر، أو مكان السائق، تبهدلت أحوالهما وصار أمرهما رثا حتى زوال الخطوط جميعا. رقم أربعة من عربة واحدة، مصنوعة في بلجيكا، مدينة شارلروا، أتذكرها، أتذكرها جيدا، مقترنة بمصاعد عمارات وسط البلد التي مضى على بعضها أكثر من قرن، ماركة أوتيس، لست متيقنا من المنشأ، بلجيكا أم بلد آخر؟ ثلاثة عشر يتكون من عربيتين، مغلقتين، نوافذهما فسيحة، لماذا يبدو حضورها عابسا؟ لا أدري، هل لوجود تشابه بين العربة والتابوت؟ أو لأن المحطة الأخيرة قرب الإمام الشافعي، هذا يعني أربع محطات داخل منطقة مراقد الخلفاء، ومقابر الإمام وامتدادها قرافة سيدي عقبة، والإمام الليث. أربعة وثلاثة عشر يعنيان الأبدية، منذ وصولي إلى ميدان القلعة يغمق قلبي، يغلب عليّ اللون الرمادي، أنتقل من وجود إلى آخر، لم أعرفه بمفردي إلا بعد اجتيازي الطوق. قصدته بصحبة الوالد لزيارة الشيخ محمد، العالم بالأزهر، صحبته إلى مقابر لا أعرف أماكنها الآن لزيارة راحلين لم يعرفهم في سعيهم إلا بالاسم، سياسيون وفنانون، خصوصا المطربين الذين حفظ أغانيهم عن ظهر قلب، غير أنني عرفت الطريق بمفردي رغم انقباضي وضيقي، لا أعرف أربعة أو ثلاثة عشر إلا عبر اتجاه واحد، ذلك أنني لم أركب أيا منهما إلا في اتجاه مقابر الخلفاء والإمام عابراً ميدان القلعة.

مشاركة :