للمرة الثانية يفرض علينا مؤسس شركة تسلا للسيارات الكهربائية إيلون ماسك نفسه، مع إعلان باحثين عن عزمهم توظيف الذكاء الاصطناعي لتأليف نص مسرحي كامل، في تجربة مثيرة للجدل ووصفت بأنها مهمة ومعقدة. بدأ فريق من الباحثين تجربة لتطوير خوارزميات قادرة على تأليف نص مسرحي، مستعينا بنظام “جي.بي.تي-2” مفتوح المصدر، الذي طورته شركة “أوبِن إي.آي” وهي شركة مدعومة من جانب عملاق التكنولوجيا إيلون ماسك. لم تعد المهن التي يمارسها الفنانون والمبدعون محصنة، في وجه الخوارزميات التي تسعى لاقتحامها، وبات على المبدعين أن يفكروا جديا بالتحدي الذي يشكله اليوم الذكاء الاصطناعي، وفي قدرته على إحالتهم على التقاعد، بعد أن ثبت بالبرهان أن الروبوت نجح في التعبير عن نفسه، بالخط واللون والنغمات، وبات قادرا أيضا على التعبير عن نفسه بالكلمات. روبوتات مبدعة سبق للعالم أن شهد مزادا لبيع لوحات فنية قام الإنسان الآلي برسمها، حققت نجاحا وإقبالا من جامعي الأعمال الفنية، وحصدت أرقاما عالية في دور المزادات. وما زلنا نتذكر الروبوت “أيدا”، الذي توقع له النقاد وجامعو الأعمال الفنية مستقبلا زاهرا. إثر النجاح البصري والسمعي، الذي حققه الذكاء الاصطناعي، سرعان ما دخلت الكلمة على الخط، ليقدم لنا باحثون من الولايات المتحدة روبوتا ينظم الشعر. ويرجع أصل هذه الفكرة إلى الباحث برندن بينا، الذي كان يعمل على ابتكار منظومة لتقليد أساليب كتابية أدبية، ولأن معظم كلمات الأغاني تخضع لقوانين حماية الملكية الفكرية، قرر بينا تطوير منظومة للتعلم العميق لنظم الشعر. وقام الفريق بتغذية الروبوت بكميات كبيرة من أبيات الشعر، جمعت من مصادر مختلفة، ثم صنفت تحت أبواب مختلفة، حسب نوعية المشاعر التي تعبر عنها. ويقول بينا “أثبتت المنظومة الجديدة أن النصوص التي يتم إنتاجها إلكترونيا يمكنها أن تثير الانفعالات نفسها في نفوس القراء، على غرار النصوص الأدبية التي يكتبها مؤلفون بشر، ونأمل في أن تفتح هذه التجربة الباب على مصراعيه أمام استخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي في مجالات أدبية أخرى في المستقبل”. عرضت أبيات الشعر التي أنتجتها منظومة الذكاء الاصطناعي على نقاد لتقييمها، وجاء حكمهم لصالح الروبوت. وكما تنبأ بينا، فتحت التجربة الباب أمام الروبوتات لتساهم في مجالات أدبية أخرى، واختارت هذه المرة المسرح. من حق الفريق الذي يعكف اليوم على تطوير منظومات خوارزمية يمكنها أن تقدم عملا مسرحيا متكاملا، أن يصف المهمة بالشاقة والمعقدة، فالمسرح هو أبوالفنون جميعها، والحوار المسرحي يحتاج إلى فهم عميق للنفس البشرية. ولكن، هل يكفي أن يكون مولد النصوص قادرا على توليد نص، كما وصفه فريق البحث، قريب بشكل كبير إلى النص البشري، إلى درجة يقنع فيها الناس بأن من كتبه في الواقع هو إنسان حقيقي؟ ويضم الفريق الذي يطمح لإنتاج عمل مسرحي مكتوب من قبل الذكاء الاصطناعي مجموعة من الباحثين من جامعة تشارلز، بالتعاون مع مسرح إسفندا، وأكاديمية الفنون الأدائية في براغ، ويبدو المشروع الذي يطمح إلى دمج الذكاء الاصطناعي والروبوتات في المسرح، غريبا بعض الشيء بالنسبة لمرتقب خارجي. والهدف بحسب كلام رودولف روزا، أحد المشاركين في البحث، تأليف عرض مسرحي يُعرض في يناير المقبل، لإحياء الذكرى المئوية لمسرحية “آر يو آر” التي كتبها كارل تشابيك وأخوه جوزيف، وهما من استحدث فكرة الروبوتات، بل استحدثا كلمة “روبوت” ذاتها حينئذ. ويستحق تشابيك وقفة يقدم فيها إلى القراء، وهو أديب ومسرحي تشيكي ولد عام 1890، اهتم خاصة بأدب الخيال العلمي، وكان أول من استعمل كلمة روبوت في مسرحيته “إنسان روسوم الآلي”، التي ألفها عام 1921، لتثبت أن الأديب في بعض الأحيان يستشرف الخيال الذي يحوله العلم في ما بعد إلى واقع ملموس عبر التجربة. وتدور أحداث المسرحية حول رجال آليين يسيطرون على الأرض، أطلق عليهم اسم “روبوت”، نظرا لكونهم آلة ميكانيكية قادرة على القيام بأعمال مبرمجة سلفا. وانتقد تشابيك التقدم العلمي والنفاق الاجتماعي عبر أعماله التي تناولت التأثير الحقيقي للتطور العلمي التقني على الإنسان، ونال عنها شهرة عالمية، قبل أن يغادرنا عام 1938. وعمل الأديب التشيكي بعد حصوله على درجة الدكتوراه بالتدريس والصحافة، بعد أن كان أمينا لمكتبة عامة لفترة قصيرة، وأجرى خلال حقبة الثلاثينات رحلات طويلة إلى إيطاليا، بريطانيا، إسبانيا، هولندا، الدنمارك، السويد، والنرويج، وعمل خلال الفترة بين 1921 و1923 مستشارا فكريا ومخرجا في مسرح فاينبرغن. صحيح أن إدماج الذكاء الاصطناعي في الفن ليس بجديد، لكن استعمال الذكاء الاصطناعي في تأليف أداء مسرحي كامل مهمة معقدة نادرا ما بُحثت، فبحثها رودولف وبقية فريقه وقرروا منهجية تحقيقها، أملا في إنجازها بحلول سبتمبر. وصرّح روزا بأن فريقه يعدِّل ما يولده الذكاء، وهذا ما يفعله كل باحثي المجال، لكن ما يميز عمل فريقه هو الشفافية، إذ يفرّقون جدا بين ما يعمله الذكاء وما يعمله البشر، ليكون العمل النهائي عملا تعاونيّا فعلا، لا مجرد تعديل بشري لشيء مُؤتمَت. وصحيح أن المشروع ما زال في أوله، لكن روزا منبهر من أداء النظام، الذي تتم تغذيته بجمل بسيطة، فيولّد نصوصا شبيهة في الموضوع والبنية والأسلوب، مع أن الفريق لم يدرِّبه ولم يعدّله بعد. ثورة في الإنتاج ومع أن النموذج يولد النص حاليا سطرا سطرا، يأمل الفريق استعمال أساليب توليد هرمية قريبا، فيولّد النموذج ملخصا قصيرا، ثم يتوسع تدريجيا فيولّد حوارات سلسة واضحة متسقة لا تناقُض فيها ولا خلل. وأضاف روزا “ستُعرض مسرحيتنا الأولى في يناير، وسننظر مآلها وآراء الجمهور فيها، على أمل استعمال ملاحظاتنا في دفع بحثنا وتطويرنا”. وحتى الآن، كان من السهل نسبيا على البشر تمييز الكتابة التي تولدها الآلات، لأن صياغتها باردة ورسمية بشكل ملحوظ، أو هي، في مجال الكتابة الإبداعية، خالية من المعنى ومفككة، لكن هذا الأمر يتغير بسرعة كبيرة مع استخدام تقنية التعلم العميق. اليوم، يكفي أن نعطي الخوارزمية الفقرة الافتتاحية، وستقوم هي بإضافة اقتباسات وتفصيلات أخرى تغني القصة. كل ما تحتاجه هو أن تزود النظام ببداية للنص المطلوب لتتولى الخوارزمية الأمر، وتكمله بطريقة وصفت بالمقنعة جدا. وهو ما أطلق عليه البعض الثورة الصناعية الرابعة. والتي تتميز بتزايد القدرات الآلية في معالجة البيانات والتعامل مع المحتوى الإبداعي، مثل التحرير ومراجعة النصوص وتقديم نشرات الأخبار والبرامج التلفزيونية والترجمة. وهو ما أحدث تغييرات كبيرة في قدرة وسائل الإعلام وفي عملية الإنتاج الإبداعي بشكل عام، وهذا بالضرورة يتطلب تدريب العاملين والمبدعين في كافة حقول الثقافة والفكر والإبداع، ليكونوا على استعداد لهذه التقنيات الحديثة والوعي بأهميتها، الأمر الذي سيضاعف من التنافسية ويقلل من كلفة الإنتاج. ليس من السهل علينا نحن عشاق المسرح الإغريقي، ومدمني مسرح شكسبير، أن نتخيل يوما أن يكون مثلنا الأعلى في كتابة نص مسرحي روبوت اسمه أيدا. ولكن هذا سيحدث، وفي وقت قصير جدا.
مشاركة :