حبيب الصايغ ومحاولات قنطرة الجنس الشعري

  • 7/20/2015
  • 00:00
  • 8
  • 0
  • 0
news-picture

صدر للشاعر حبيب الصايغ في عام 2011 مختارات شعرية بعنوان (رسم بياني لأسراب الزرافات)، وقصائد هذه المختارات تنتمي إلى قصيدة التفعيلة، والملاحظ أن الصايغ استثمر في شعر مختاراته معظم المعطيات الإيقاعية التي تمنحها القصيدة العربية القديمة للنص الشعري الحديث (الوزن والقافية)، ولتسليط الضوء على تجربة الصايغ اخترنا قصيدة، (دائرة خلفان) لتحليلها، وهذه القصيدة من البحر الكامل (مستفعلن، ومتفاعلن)، وميزة هذا البحر أنه ينطوي على حركة متغيرة، لوجود سببين خفيفين يمتازان بالسرعة القافزة يرتبطان بوتد بطيء في (مستفعلن)، أو من سبب ثقيل وسبب خفيف يرتبطان بوتد بطيء (متفاعلن)، لذلك وفر هذا البحر إمكانات خاصة لتحولات النص الموسيقية مثلما وفر إمكانات التنوع الإيقاعي في أدائه. استثمر الصايغ الإمكانات الإيقاعية لهذا البحر من خلال حركة التدوير في الأسطر الشعرية منذ بداية القصيدة، وهذا التدوير في الإيقاع يرتبط بالعنوان (دائرة خلفان)، التي توحي بالعودة المستمرة إلى المنطلق في حركة الحياة الدائرية وإيقاعها، وإذا كان العنوان هو النص المكثف فإن علاقته بالمتن الشعري لابد أن تكون وثيقة وعضوية، لأن النص يعتمد هو الآخر على حركة دائرية تبدأ بالبكاء في مفتتح النص وعلى النحو الآتي: (مزق من النَفَس البطيء، وبعض حشرجة مرقطة بسحنة بيته الشعبي تعصر قلبه، فيكفّ عن ضحكاته الشعبية الأولى، ويبكي موغلاً في حزنه الشعبي)، وهنا يغلب نمط السرد على هذا المفتتح، إذ تبدأ الحكاية بالألم والبكاء، والسرد في النص جاء بلغة ال(هو)، (ضحكاته، حزنه)، وشكلت هذه الصيغة أول مفارقة في علاقة النص بالقارئ، فالذي يطرحه النص مشاعر داخلية، ذاتية خاصة، ولكن هذه الخصوصية لا تنطلق من الأنا، بل من صوت الآخر، الأمر الذي يجعل القارئ يدخل مرحلة الالتباس بين صوت الأنا والآخر، وهي أول عتبة في عملية كسر التوقع بين النص والقارئ، وقد ولدت هذه المرحلة في التباسها فجوات النص التي هي بحاجة إلى الملء في القراءة، لأن السؤال الذي يطرحه النص في وجهة القراءة الأخرى تتمثل بالسؤال، عن الكائن الشعبي الذي يسرد الهموم، الشاعر أم غيره؟ إن التوصيفات الذاتية التي يطرحها النص تشير إلى أن النص يتحدث عن حالة خاصة من الصعب تلمسها عند الآخر، وقد أمعن النص في وصف الحالة الذاتية من خلال تأكيده على مفردة الشعبي، إذ كرر النص هذه المفردة في لوحة الافتتاح ثلاث مرات ليشير إلى أن الكائن الذي يتحدث عنه ليس خارقاً ولا بطلاً، بل هو مثل غيره من الناس، (له همومه وأحزانه)، وقد ساعد أسلوب السرد على إيضاح حقيقة هذا الإنسان، ولكن ميزة السرد في الافتتاح تتمثل في أنه لم يهبط بالنص إلى اللغة اليومية، بل حققت الشعرية وجودها في العلاقة الأولى بين السطرين الأول والثاني من خلال (الحشرجة المرقطة)، وهي علاقة نفي للغة اليومية في النص، وتوالي الارتفاع إلى مستوى الشعرية في التدفق من خلال علاقات (سحنة البيت، والضحكة الشعبية، والبكاء الموغل في الحزن)، إذاً، افتتح البكاء النص ليوجه القراءة نحو الألم والمعاناة، ويتسلل الألم إلى متن القصيدة، حيث يكمل السرد حكاية الفتى خلفان: (متقداً كعصفور حليق الرأس يرمق لمعة السكين يرتجل الفتى خلفان بعض عروقه، ويقول في عيني حبيبته الكلام الحلو)، وفي هذا المتن يدخل النص ذروة الصراع بين الشعرية والسرد، إذ ينفتح التأويل على مؤديات حكاية خلفان من خلال الصورة الشعرية التي تنبني تارة على التشبيه (كعصفور) وعلى الاستعارة تارة (دهاليز النشيد)، (يقطف الليل المعلق)، وتقوم هذه الصور بالاندساس في الحكاية مهجنة السرد بالشعر، واللغة اليومية بالانزياح، فالسرد المتنافذ مع الشعرية يكثف وجوده من خلال الأفعال المضارعة في بداية كل سطر شعري (يرتجل، يبتعد، يبتني، يذهب، يصادق، يفلق، يقطف، يؤوب). إن صيغة المضارعة في النص تشير إلى حضور خلفان وحركته في الحياة من خلال أحدث تعارض بين جنسين أدبيين مختلفين في وظيفة التوصيل، ولكن هذا الحضور سرعان ما يتحول إلى ذاكرة ساردة من خلال الأفعال (بصيغة الماضي) كما في: (نأى، رقد)، وبهذين الفعلين أغلق المتن حركية الحضور وحوّلها إلى ذاكرة عبر نأي الأحباب ورقود الفتى فوق الرمال، وهنا تحولت دورة النص إلى حركة أخرى من أجل إنتاج علاقات جديدة في حكاية الفتى خلفان مفادها: العزلة عن الآخر والتماهي مع الطبيعة، والملاحظ هنا أن النص يرتفع إلى الشعرية في الحركة والحضور ويهبط إلى لغة السرد الطاغية على الشعر في الذاكرة (الفعل الماضي)، كما في علاقات النسق الآتية: صفاته ابتعدت، فهل يقوى على السلوى؟ نأى الأحباب إن الموت أهون، غير أن كلامه الشعبي مهدور، وساعده تقوس مثل فخ مهمل. رقد الفتى خلفان فوق الرمل تحت السماء الشعبية الأولى، لصيقاً بالظلام، لم تتحق الشعرية المطلقة في هذا المقطع إلاّ في النقلة التي يحدثها المتن في (لصيق الظلام)، وجاءت هذه النقلة بعد علاقات سردية متواطئة مع القارئ، أسهمت بشدّه إلى معرفة المآل الذي ينتظر (خلفان) وتعزز تواطؤ النص مع القارئ في علاقة التوازي (يقوى، السلوى)، والتعارض بين (فوق، تحت) التي دعّمت الإيقاع في السرد، ولهذا يمكن القول إن النص هيأ القارئ من خلال شعرية الصورة في (لصيقاً بالظلام) التي اختتم المتن حركته بها لكي يستقبل لوحة النهاية، إذ تقول حركة الخاتمة: (ما كان غيم في السماء، ولم يكن رعده، ولا مطر، ولكن كان يبكي في المنام)، وفي هذه الخاتمة يحدث الجدل بين الحضور والغياب من خلال علاقة الصحو بالمنام، متمثلة بجدل الفعلين (الماضي والمضارع) في السياق ذاته (كان، يكن)، لكن هذا التعارض لم يحقق الانزياح في لغة النص لأن صوره انبنت على العلاقات السياقية المألوفة والحقل الدلالي الواحد (سماء، رعد، مطر، غيم)، وسبب وجود هذه العلاقات المبنية على حقل دلالي واحد يعود إلى النمط السردي الذي اختاره النص لحكايته، ولكن رغم ذلك لم تنعدم لغة الشعر، إذ استطاع النص الارتفاع إلى مستوى الشعرية في علاقة السماء بالفتى، واستعارة الارتفاع والانخفاض في إبدال وظيفة الفتى بالسماء، وإذا افترضنا أن القراءة تحتمل إبدال بعض العلاقات النصية بعلاقات مفترضة أخرى من خلال إبدال مفردات النص بمفردات أخرى، فإن اتجاهات الشعرية يمكن أن تتبدل، أو ربما تبتعد قليلاً عن علاقات السرد، فالفجوات التي تحدث في القراءة يمكن أن تملأ بعلاقات مغايرة مثل: (ليقطف الليل المعلق في (النجوم)، ب (التخوم،الغيوم، الهموم.. إلخ)، وهنا لا يتبدل الوزن، بل تتبدل اتجاهات الشعرية في السياق، لكن الشاعر فضّل علاقة الليل بالنجوم ليحقق علاقة سياقية مع القطاف وهذه العلاقة السياقية لم تنحدر بالشعرية، بل حافظت على ارتفاعها وقدرتها على شد المتلقي أيضاً من خلال انتظام ثلاثية (البداية، العقدة، النهاية) في حركة النص، ولو تحول السياق إلى لفظة أخرى مثل (التخوم) لكانت العلاقة على النحو الآتي: (ليقطف الليل المعلق في التخوم)، وفي هذا السياق ينطوي النص على منطقتين شعريتين الأولى قطاف الليل والثانية التعلق في التخوم، وهنا يصبح التغريب أشد وأوسع تأويلاً في القراءة، لأن وظيفة الليل ستتحول إلى اتجاهات مختلفة عن وجودها الطبيعي، وعند عودتنا إلى الخاتمة نجدها متضمنة فجوات في التلقي واحتمالات قرائية متعددة، منها هل كان خلفان حالماً أم أنه يعيش الواقع، وهل أن هذا الواقع يمثل القوة الصادمة لوجوده بسبب استمرار فقره أم حياة اعتيادية، وهل كان خلفان غنياً ورأى نفسه في المنام فقيراً، من خلال مقطع: (صفاته ابتعدت)؟ أسئلة بحاجة إلى إجابات لا تتحقق إلاّ من خلال المتلقي الذي يدخل من بوابة البكاء ليخرج من الباب ذاته في دورة المفتتح والمتن والخاتمة كما في الترسيمة الآتية: (لوحة الافتتاح ) بكاء ---- (المتن) وجود قلق ---- لوحة الخاتمة) بكاء.

مشاركة :