"بيع الوهم" تجارة الحكومة التونسية لشراء السلم الاجتماعي | آمنة جبران | صحيفة العرب

  • 8/9/2020
  • 00:00
  • 7
  • 0
  • 0
news-picture

لم يكن خبر مصادقة البرلمان على مشروع قانون لتوظيف من تجاوزت مدة بطالتهم عشر سنوات في القطاع العام خبر عاديا بالنسبة للآلاف من العاطلين عن العمل في تونس الذين ينتظرون انتهاء معاناتهم المريرة مع البطالة بفارغ الصبر، وعلى الرغم من الترحيب بالقانون لدى نسيج واسع من المجتمع يراه بمثابة أمل في نهاية النفق فإن العديد من الخبراء يعتبرونه مجرد إجراء شعبوي يصعب تطبيقه في ظل الحسابات السياسية والصعوبات الاقتصادية. تونس - استجاب البرلمان التونسي أخيرا لضغوط المحتجين العاطلين الذين رابط المئات منهم أمام مقر البرلمان منذ أشهر رافعين شعار “الانتداب حقي” بعد تصويت 159 نائبا بالموافقة على مشروع القانون دون أي اعترض فيما امتنع 18 نائبا عن التصويت. لكن سياسيين وخبراء اجتماعيين واقتصاديين قللوا في تصريحات لـ”العرب” من سقف الانتظارات لأن القانون الجديد يصعب تطبيقه لاعتبارات تتعلق بإمكانيات الدولة التي باتت عاجزة عن التوظيف بسبب انتدابات عشوائية لجأت إليها حكومات ما بعد ثورة 2011، فضلا عن أن القانون جاء في سياق مزايدة سياسية من داخل التحالف الحاكم الذي تفجر بعد شبهات الفساد التي باتت تلاحق رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ. وتلقت مفيد ة لحمر، العضو بتنسيقية “الانتداب حقي” عن مدينة قفصة والتي دافعت بشراسة عن حقها في التشغيل، خبر المصادقة بفرحة يشوبها الكثير من القلق كباقي المعطلين واصفة الخطوة التشريعية بثمرة شهور طويلة من الاحتجاج. وتتابع مفيدة لـ”العرب”، “نبارك هذه الخطوة ونعتبرها خطوة جيدة تجاه مطالب أصحاب الشهائد العليا والمعطلين عن العمل باعتبارهم الفئة الأكثر تهميشا منذ بداية الثورة خصوصا بعد تعاقب الحكومات والسياسات”. وتؤكد أن “هذه المبادرة كانت أمل الشباب في الحصول على مورد الرزق والعيش بكرامة”. وأعربت عن أملها في تنزيل هذا القانون بالرائد الرسمي بعد إمضائه من طرف رئيس الجمهورية وتطبيقه مع بداية 2021. وأن “لا تتم مماطلتنا وتسويفنا مجددا بحجة عدم وجود موارد مالية بخزينة الدولة”. وأردفت “كلنا عزيمة وأمل وإصرار على نيل حقنا الشرعي في التشغيل والعيش الكريم”. وعلى الرغم من الترحيب الذي لاقيه مشروع القانون، إلا أن الشكوك في قدرة الحكومة على تطبيقه ينغص على العاطلين فرحتهم أمام مخاوف من متاجرة النخبة السياسية بمطالبهم ككل مرة خاصة وأن الصراع على السلطة والصلاحيات بلغ ذروته. وتتعزز هذه الشكوك في ظل توقيت المصادقة على القانون التي استبقت جلسة سحب الثقة المثيرة للجدل من رئيس البرلمان وزعيم حركة النهضة راشد الغنوشي والتي كان مآلها في النهاية الفشل وإسقاط لائحة معارضيه، حيث اتهمت أوساط سياسية وشعبية الأحزاب الحاكمة بـ”الشعوبية ” والإقدام على هذه الخطوة تخفيفا للضغوط وتسجيل نقاط على حساب خصومها التي تتوسع قاعدتهم يوما بعد يوم. ويرى هؤلاء أن الحكومة تبيع الوهم مقابل شراء السلم الاجتماعي فيما تبدو المؤشرات الاقتصادية السيئة مخيبة للآمال. ويحظى مشروع القانون بدعم الائتلاف الحكومي واقترحه 35 نائبًا يتوزعون أغلبهم على حركة النهضة والكتلة الديمقراطية، وكتلة قلب تونس، وكتلة ائتلاف الكرامة. ويعتبر مؤيدو القانون أنه “خطوة هامة لوضع حد لحالة التهميش التي يعاني منها المعطلون عن العمل من أصحاب الشهائد العليا عبر إنصافهم وفتح الباب أمامهم للانتداب في القطاع العمومي”، ومع ذلك يقرون بصعوبات تحول دون تطبيقه على أرض الواقع، حيث يشترط القانون مناخا اقتصاديا وسياسيا مستقرا. ويشير بدرالدين القمودي النائب بحركة الشعب، أحد الأحزاب المؤيدة لقانون التشغيل بالقول “لقد دافعنا على هذا القانون جيدا ونعي أن عدد المعطلين كبير وعشرات الألوف ينتظرون تفعيله وأن وضع البلاد صعب وتمريره للتطبيق يستوجب حدا أدنى من الاستقرار السياسي وحكومة فاعلة وقادرة على إنعاش الاقتصاد وخلق مواطن شغل”. ومع ذلك يتمسك القمودي بتأييده قائلا “نتحمل أيضا مسؤوليتنا في توفير مناخ اقتصادي يسهم في أن يرى مثل هذا القانون النور. وعلى الرغم من إقراره فإن موازنة العام القادم وهي في طور التنفيذ لا تستجيب لهذا الملف، إلا أنه يطالب بضرورة تمسك الحكومة بدورها الاجتماعي والذي يكمن بالأساس في توفير مواطن شغل”. لكن في ظل ما تعيشه البلاد من أوضاع اقتصادية صعبة وصعوبات مالية تعمقت مع جائحة كورونا، يطرح الخبراء السؤال الأهم: أين سيتم توظيف العاطلين عن العمل في الوقت الذي تعاني فيه الشركات العامة خسائر مالية تصل لملياري دولار بسبب التضخم في أعداد الموظفين وضغط كتلة الأجور والحوكمة السيئة، ما يعني أن المزيد من الانتدابات الجديدة ستحمل معها دون أدنى شك ضغوطا جديدة على موازنة العام القادم. استنادا للمؤشرات الاقتصادية المحبطة ومع غياب سياسة تشغيل واضحة منذ اندلاع ثورة يناير 2011 يستبعد الخبراء قدرة الحكومة على الإيفاء بوعدها للمعطلين، ما سيزيد من إحراجها أمام الرأي العام ويعمق الهوة بينها وبين الشارع الذي ذاق ذرعا من فشل الحكومات المتعاقبة في إدارة الأزمات. ويقلل خبراء الاقتصاد من فرص تطبيق القانون في الوقت الذي جمّدت فيه الحكومات السابقة الانتدابات في القطاع العمومي (حكومة يوسف الشاهد 2016 – 2019) للحد من العجز الذي تواجهه الموازنة العمومية، ومما يصعّب هذه الخطوة تداعيات الجائحة التي ضاعفت من أزمات تونس الاقتصادية حيث يواجه البلد منذ سنوات تحديات وتذبذبا في سعر صرف الدينار، وارتفاعا في نسب التضخم، وتباطؤا في الاستثمارات الأجنبية المباشرة. وتراجع الاستثمار بنسبة 16 في المئة، بحسب رئيس حكومة تصريف الأعمال إلياس الفخفاخ. فيما توقع البنك الدولي بأن يسجل النمو الاقتصادي التونسي انكماشا بـ4 في المئة العام الحالي، على أن يسجل نموا بنسبة 4.2 في المئة في 2021. ويعتقد الخبير الاقتصادي رضا الشكندالي أن قانون التشغيل جيد وذو بعد اجتماعي غير أن توقيته يبدو سيئا لتزامنه مع الأزمة الاقتصادية الحادة وحالة الطوارئ الصحية. ويشرح الشكندالي لـ”العرب” أن “التشغيل لا يمكن أن يتحقق دون نمو اقتصادي”. ويشير إلى “ما يعانيه قطاع الوظيفة العمومية من تضخم في عدد الموظفين إضافة إلى ضغط كتلة الأجور، فيما لا يبدو القطاع الخاص أفضل حالا”. وبينما كانت تونس تحاول خلال السنوات الأربع الماضية، إيجاد حلول جذرية لبعض المؤسسات العمومية، لوقف نزيف النفقات، جاءت جائحة كورونا لتضيف المزيد من الأعباء على ماليتها العامة. ويضيف الشكندالي “نحن نعيش في أسوأ فترة ومن الصعب أن نوفر فرص عمل في ظل هذه ظروف الحالكة سواء في القطاع العام أو الخاص”. ويحذر من أنه “في حال العجز أو المماطلة في تطبيقه فقد يفتح ذلك الباب لاحتقان اجتماعي واسع وسيسهم في المزيد من تقليص منسوب الثقة”. إضافة إلى ذلك تبدو شروط القانون حسب الشكندالي “تعسفية وتقلل من فرص الاستفادة من الوظائف. ويشترط القانون انتداب العاطلين على دفعات سنويا لمن بلغوا سن 35 عاما وبلغت بطالتهم عشر سنوات فأكثر، ولفرد واحد من كل عائلة جميع أفرادها عاطلون عن العمل”. وعلى الرغم من النظرة السوداوية، يعتقد أن الأمل في تشغيل المعطلين يبقى واردا في حال واصلت حكومة هشام المشيشي المرتقبة في نسق المشاريع الكبرى، حيث بإمكان الحكومة عبر الشراكة القائمة بين القطاع العام والخاص أن تفرض على كل مشروع نسبة مئوية من المعطلين عن العمل. يرى الخبراء أن الحكومة الحالية غير قادرة على تجاوز الصعوبات الاقتصادية، التي تعيشها تونس، خاصة مع احتدام الصراع السياسي. ويذهب البعض باتهام الحكومة بالشعبوية في ظل الأزمات التي تحاصرها من كل جهة. ونقلت وسائل إعلام محلية عن معارضي الصيغة المقترحة لهذا القانون بأنه مجرد محاولة لبيع الأوهام للمعطلين عن العمل من أصحاب الشهائد العليا، مشيرين إلى أنه يتضمن الكثير من المغالطات، من بينها أنه سيقوم بتشغيل جميع المعطلين الذين فاقت بطالتهم 10 سنوات دفعة واحدة في حين أنه ينصص على انتدابهم على دفعات طيلة 4 سنوات في حدود الموارد التي تسمح بذلك ضمن الميزانية المحددة من قبل الحكومة. ووفقا لمعطيات اقتصادية يرى الخبير الاقتصادي معز الجودي أن هذا القانون “شعبوي وليست له أي فاعلية وحتى نجاعة”. ويبين الجودي أنه ليس بالإمكان الانتداب بشكل مباشر في الوظيفة العمومية دون تحديد الحاجيات. معلقا “هذه بمثابة عملية انتحارية للمالية العمومية”. وحسب الجودي يعاني قطاع الوظيفة العمومية من عدد كبير من الموظفين الذي يبلغ قرابة 700 ألف إضافة إلى الحجم المهول للأجور وضغطها على الموازنة، ما سينعكس سلبا على بقية المشاريع والاستثمارات. ويعتقد أنه مجرد بيع للأحلام والأوهام للمعطلين، فمن الناحية المالية لا تستطيع الدولة خلاص أجور المنتدبين وإذا التزمت بذلك فإن البلاد ستغرق في المزيد من الديون والمديونية. وقد بلغت نسبة مديونية تونس 60 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، بقيمة تقدر بـ92 مليار دينار (32.8 مليار دولار) حسب إحصائيات رسمية. ويستنتج أنه مجرد استعطاف للعاطلين عن العمل حيث يصعب تطبيقه ولا يراعي المالية العمومية والوضع العام في البلاد. وبالنسبة لبعض الخبراء فإن الأزمة أعمق وتشمل غياب سياسات تشغيل واضحة ومنوالا تنمويا ناجحا يعالج الفوارق الاجتماعية بين الجهات. ويلفت رمضان بن عمر الناطق الرسمي لمنتدى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لـ”العرب” أن “أزمة التشغيل في تونس ليست مرتبطة بالقوانين بل مرتبطة بالمنوال التنموي وهي أزمة سياسات اقتصادية واجتماعية غير قادرة على خلق ثروة”. ويتابع “خلق مواطن الشغل لا يتم بالقوانين إنما بتوفير وخلق الثروة خاصة في الجهات المهمشة”. ويخلص بن عمر إلى أن “الحل يكمن في تغيير المنوال التنموي وأن القوى السياسية التي تدعم وتضغط لأجل ذلك سنعتبرها الأكثر صدقا في حمل هموم المواطنين العاطلين عن العمل”. ويوجد بتونس أكثر من 700 ألف عاطل بحسب آخر التحديثات الرسمية، أكثر من ثلثهم من حاملي الشهادات العليا. وبسبب آثار جائحة كورونا تتوقع الحكومة زيادة نسبة البطالة من 15 في المئة إلى أكثر من 20 في المئة.

مشاركة :