تعتبر تجربة المسرح والسجون من التجارب القديمة الجديدة سواء على صعيدي الكتابة عنها أو لها، أو على صعيد العرض، لكنها مؤخرا باتت أكثر انتشارا وحضورا في مسرحنا العربي وخاصة في تونس، إلى جانب بعض التجارب التي بقيت وراء جدران السجن، ولم تتمكن من رؤية النور خارجه. ويعتبر حكيم حرب، المخرج والممثل الأردني وصاحب فكرة المختبر المسرحي الجوال، أول مسرحي أردني يطرق باب الإصلاحيات. بدأت علاقة السجناء بخشبة المسرح والجمهور منذ زمن بعيد، لكنها لم تكن علاقة وردية ولا حتى إيجابية على الأقل بالنسبة إلى السجناء، الذين كانوا مجرد دمى حيث يقدمون في الساحات العامة للجمهور الحاضر لمتابعة محاكماتهم أو إعداماتهم. في كتاب بعنوان “المسرح والسجن”، صدر في العام 2018 عن المركز القومي للترجمة في مصر للناقدة الاجتماعية البريطانية والمحاضرة الآن بكلية “الملكة ماري” كايومي مكافنشي، أنجزته لنيل درجة الدكتوراه حول المسرح والسجن، تذكر فيه، أنه منذ القرن الثامن عشر كانت الخشبة مكانا استعراضيا للإعدامات العلنية في الساحات، أو بشكل أدق لتلك الفعاليات الكرنفالية التي حددت شكل العلاقة بين الدولة والعامة، وتستشهد على ذلك بكتاب “المسرح القاتل” الذي يشير إلى أن عقوبة الإعدام العلني في أميركا أو ما يمكن تسميته بـ”الاستعراض المأساوي”، ظلت لمئات الأعوام عرضا جذابا للجمهور. التجربة الصعبة علاقة المسرح بالسجن علاقة متشعبة وليست ذات اتجاه واحد، فهناك أدب للسجون كنصوص كتبت داخل السجن، حاول كتابها تصوير حياتهم داخل قضبانه من خلال الرسائل التي كانوا يكتبونها سواء لحبيباتهم أو زوجاتهم، كما حصل مع الفرنسي جان جينيه الذي أصبح لاحقا وبعد العفو عنه من أهم كتاب فرنسا. ونجد كذلك رسائل المسرحي والروائي الأيرلندي أوسكار وايلد الذي صدر له مؤخرا كتاب بعنوان “في الأعماق” عن ل تم تحويلها إلى عرض مسرحي، كما فعل المخرج الفلسطيني بشار مرقص، حين اختار أن يقدم في مسرحية “الزمن الموازي” الجانب الإنساني من حياة المعتقلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، والتي استندت إلى رسائل المعتقل وليد دقة لحبيبته. أما الشكل الثاني فتجسد عبر عروض مسرحية استثنائية ظهرت تحت مسمى “المسرح داخل السجن” يقدمها مسجونان، وتعرض أمام جمهور عام داخل السجن أو خارجه في أماكن عرض رسمية أو ضمن تظاهرات فنية، ويعتبر هذا النوع من العروض تجربة مثالية لإعادة إصلاح وتأهيل المدان، في حال اعتُبر السجن حقيقة مكانا للإصلاح والتأهيل، كما تطلق عليه على سبيل المثال المملكة الأردنية الهاشمية. تجارب مسرح السجن ليست بالسهولة التي نتوقعها، خاصة بالنسبة إلى الواقع العربي من حيث تقبلها اجتماعيا وإداريا لكن هذه التجارب ليست باليسر أو السهولة اللذين نتوقعهما، وخاصة بالنسبة إلى التجربة العربية، سواء من حيث تقبلها السريع والإيجابي من قبل المسجونين أنفسهم أو من قبل الجمهور أو حتى من قبل إدارات السجون التي تخشى بالدرجة الأولى من تمرد المسجونين لاحقا. في مقال لعادل درويش نشر في الشرق الأوسط من العام 2018 يشير إلى الجدل الذي دار في بريطانيا بعد إعداد وتحويل مجموعة من السجناء البريطانيين لرواية الفرنسي فيكتور هيجو “البؤساء”، وقد قدم العرض بشكل استعراضي موسيقي، يقول درويش بعد شهر من البروفات، أصبحت المسرحية جاهزة وكان ثمن التذكرة سبعين جنيها، مثل أفخم المسرحيات في منطقة الويست إند في لندن، ولكن المسرحية تعرضت لجدل ما بين معترض على التجربة ومتحمس لها، بسبب الاختلاف في تفسير مفاهيم كل من التأديب والتهذيب والإصلاح، مشيرا إلى أن اختيار مسرحية البؤساء في حدّ ذاته يعتبر هدفا لتهذيب وإصلاح السجناء، ويضع المفاهيم المعقدة عن العدالة بمفهوميها الإنساني والقانوني. أما عن التجارب العربية في السجن، فقد بدأت من العراق بداية من الخمسينات، ورغم أن التجربة توقفت نهائيا منذ سنوات، حتى أن الكتابات عنها نادرة، إلا أن المسرحي العراقي لطيف حسن وفي مقال له بعنوان “مسرح السجون المنسي” (2009)، نشر بمناسبة يوم المسرح العالمي، تحدث حول تلك التجربة التي بدأت كمنجز من منجزات الحزب الشيوعي العراقي في دعم الثقافة الوطنية الديمقراطية. وتناول المقال الدور الريادي لرفاق الحزب في إرساء تقاليد العرض المسرحي في كل مكان متاح، حتى في قاعات السجون “فمثلما حوّل مناضلونا الأوائل قاعات السجون التي دخلوها إلى مدارس فكرية ماركسية للتنوير والوعي الاجتماعي الثوري، حوّلوا أيضا تلك القاعات إلى مسارح، وأرسوا تقاليده (المسرح) حتى أصبح معروفا وجود عروض مسرحية مقامة في القاعات التي زجّوا بها”. للمسرح تأثير قوي قد يتجاوز أحيانا عقوبة المؤبد أو الأشغال الشاقة أو غيرهما من العقوبات السجنية ويضيف “كان الحزب آنذاك يولي اهتماما كبيرا واستثنائيا بمسرح السجون، فعلى سبيل المثال في بداية الخمسينات كان يخصص شهريا ثلاثين دينارا من مالية (ميزانية) السجناء الحزبية في سجن الكوت تحت باب: صرفيات الندوات والنشاط المسرحي. وكان يعتبر هذا المبلغ كبيرا في ذلك الوقت، وكانت المسرحيات التي تقدم في السجون، مسرحيات متكاملة فنيا وتقنيا، وقد قدم اليساريون في هذه السجون مسرحيات مهمة، مثل مسرحيتي: المفتش العام وبزوغ القمر، في العام 1953، أي قبل تقديم هاتين المسرحيتين للجمهور العادي في مسارح بغداد خارج السجن بسنوات، إضافة إلى مسرحيات يوسف العاني وشهاب القصب، النقدية الساخرة ذات الفصل الواحد، وكان الكثير من نزلاء السجون آنذاك قد تعرف وشاهد فن المسرح لأول مرة في حياته في السجن، أو في مناطق الإبعاد كمعسكر السعدية وأصبحوا في ما بعد من عشاقه ومتذوقيه وجمهوره الدائم”. أما التجربة الثانية المهمة فتأتي من تونس، وهي تجربة حديثة ورائدة، على اعتبارها قدمت لجمهور واسع ضمن فعاليات أيام قرطاج المسرحية منذ العام 2017 وأثمرت أعمالا مسرحية من إنتاج وحدات سجنية وإصلاحية مختلفة، وتطورت هذه الشراكة وأسهمت فيه المندوبيات الجهوية للثقافة ومراكز الفنون الدرامية والركحية بالجهات القريبة جغرافيا من الوحدات السجنية والإصلاحية، من بين تلك العروض كان عرض للمختبر المسرحي بسجن برج الرومي في محافظة بنزرت بمسرحية عنوانها “الوجيعة” للمخرج الشاب محمد أمين الزاوي، الذي قدمها على مسرح “تياترو” في وسط العاصمة، تبعتها في العام 2018 أربعة عروض، نذكر منها مسرحية “الدبو” لسجناء برج الرومي، و”داموس 34″ لسجناء السجن المدني بالهوارب من محافظة القيروان. كما تم تكوين عشرة نواد مسرحية في السجون، وتطوع عدد من الممثلين والمخرجين وأساتذة المسرح لإنتاج وإخراج أعمال مسرحية على مدار السنة، ممّا أثمر 11 عرضا مسرحيا في الدورة الماضية من أيام قرطاج المسرحية 2019، كانت بمشاركة 120 سجينا، 7 عروض منها كانت عروضا لسجناء رجال و3 عروض لسجينات نساء، بالإضافة إلى عرض واحد من مركز إدماج وتأهيل الجانحين (إصلاحية الأحداث)، عرضت جميعها للجمهور على خشبة مسرح ابن خلدون بدار الثقافة المغاربية في تونس العاصمة، نذكر من تلك العروض مسرحية “كفارة” التي أخرجها سامي الجويني بمساعدة هدى اللموشي، وكانت مع معتقلي السجن المدني بصوّاف. ومن لبنان تأتي تجربة زينة دكاش في العام 2019، وهي فنانة لبنانية ومعالجة بالدراما، قدمت عرضا بعنوان “جوهر في مهب الريح”، قام بتأديته المساجين أمام الجمهور لكن داخل سجن رومية، واعتبر العرض لدى البعض تجربة فريدة، نظرا إلى صعوبة دخول وعبور أسوار هذا السجن إلا بعد الاستظهار بتصريح خاص، كان العرض جزءا من مشروع “قصّة منسيين خلف القضبان” المُنفذ من قبل مركز “كاتارسيس” بدعم من الاتحاد الأوروبي، يؤديه أربعون سجينا في رومية، وتتخلله مشاهد فيديو لسجناء المبنى الاحترازي الذي يعرف بالمبنى الأزرق والذي يضم أربعين مريضا نفسيا. التطهر الأرسطي تعتبر تجربة المسرح والسجون من التجارب القديمة الجديدة سواء على صعيدي الكتابة عنها أو لها، أو على صعيد العرض، لكنها مؤخرا باتت أكثر انتشارا وحضورا في مسرحنا العربي وخاصة في تونس، إلى جانب بعض التجارب التي بقيت وراء جدران السجن، ولم تتمكن من رؤية النور خارجه. ويعتبر حكيم حرب، المخرج والممثل الأردني وصاحب فكرة المختبر المسرحي الجوال، أول مسرحي أردني يطرق باب الإصلاحيات. بدأت علاقة السجناء بخشبة المسرح والجمهور منذ زمن بعيد، لكنها لم تكن علاقة وردية ولا حتى إيجابية على الأقل بالنسبة إلى السجناء، الذين كانوا مجرد دمى حيث يقدمون في الساحات العامة للجمهور الحاضر لمتابعة محاكماتهم أو إعداماتهم. في كتاب بعنوان “المسرح والسجن”، صدر في العام 2018 عن المركز القومي للترجمة في مصر للناقدة الاجتماعية البريطانية والمحاضرة الآن بكلية “الملكة ماري” كايومي مكافنشي، أنجزته لنيل درجة الدكتوراه حول المسرح والسجن، تذكر فيه، أنه منذ القرن الثامن عشر كانت الخشبة مكانا استعراضيا للإعدامات العلنية في الساحات، أو بشكل أدق لتلك الفعاليات الكرنفالية التي حددت شكل العلاقة بين الدولة والعامة، وتستشهد على ذلك بكتاب “المسرح القاتل” الذي يشير إلى أن عقوبة الإعدام العلني في أميركا أو ما يمكن تسميته بـ”الاستعراض المأساوي”، ظلت لمئات الأعوام عرضا جذابا للجمهور. التجربة الصعبة علاقة المسرح بالسجن علاقة متشعبة وليست ذات اتجاه واحد، فهناك أدب للسجون كنصوص كتبت داخل السجن، حاول كتابها تصوير حياتهم داخل قضبانه من خلال الرسائل التي كانوا يكتبونها سواء لحبيباتهم أو زوجاتهم، كما حصل مع الفرنسي جان جينيه الذي أصبح لاحقا وبعد العفو عنه من أهم كتاب فرنسا. ونجد كذلك رسائل المسرحي والروائي الأيرلندي أوسكار وايلد الذي صدر له مؤخرا كتاب بعنوان “في الأعماق” عن ل تم تحويلها إلى عرض مسرحي، كما فعل المخرج الفلسطيني بشار مرقص، حين اختار أن يقدم في مسرحية “الزمن الموازي” الجانب الإنساني من حياة المعتقلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، والتي استندت إلى رسائل المعتقل وليد دقة لحبيبته. أما الشكل الثاني فتجسد عبر عروض مسرحية استثنائية ظهرت تحت مسمى “المسرح داخل السجن” يقدمها مسجونان، وتعرض أمام جمهور عام داخل السجن أو خارجه في أماكن عرض رسمية أو ضمن تظاهرات فنية، ويعتبر هذا النوع من العروض تجربة مثالية لإعادة إصلاح وتأهيل المدان، في حال اعتُبر السجن حقيقة مكانا للإصلاح والتأهيل، كما تطلق عليه على سبيل المثال المملكة الأردنية الهاشمية. تجارب مسرح السجن ليست بالسهولة التي نتوقعها، خاصة بالنسبة إلى الواقع العربي من حيث تقبلها اجتماعيا وإداريا لكن هذه التجارب ليست باليسر أو السهولة اللذين نتوقعهما، وخاصة بالنسبة إلى التجربة العربية، سواء من حيث تقبلها السريع والإيجابي من قبل المسجونين أنفسهم أو من قبل الجمهور أو حتى من قبل إدارات السجون التي تخشى بالدرجة الأولى من تمرد المسجونين لاحقا. في مقال لعادل درويش نشر في الشرق الأوسط من العام 2018 يشير إلى الجدل الذي دار في بريطانيا بعد إعداد وتحويل مجموعة من السجناء البريطانيين لرواية الفرنسي فيكتور هيجو “البؤساء”، وقد قدم العرض بشكل استعراضي موسيقي، يقول درويش بعد شهر من البروفات، أصبحت المسرحية جاهزة وكان ثمن التذكرة سبعين جنيها، مثل أفخم المسرحيات في منطقة الويست إند في لندن، ولكن المسرحية تعرضت لجدل ما بين معترض على التجربة ومتحمس لها، بسبب الاختلاف في تفسير مفاهيم كل من التأديب والتهذيب والإصلاح، مشيرا إلى أن اختيار مسرحية البؤساء في حدّ ذاته يعتبر هدفا لتهذيب وإصلاح السجناء، ويضع المفاهيم المعقدة عن العدالة بمفهوميها الإنساني والقانوني. أما عن التجارب العربية في السجن، فقد بدأت من العراق بداية من الخمسينات، ورغم أن التجربة توقفت نهائيا منذ سنوات، حتى أن الكتابات عنها نادرة، إلا أن المسرحي العراقي لطيف حسن وفي مقال له بعنوان “مسرح السجون المنسي” (2009)، نشر بمناسبة يوم المسرح العالمي، تحدث حول تلك التجربة التي بدأت كمنجز من منجزات الحزب الشيوعي العراقي في دعم الثقافة الوطنية الديمقراطية. وتناول المقال الدور الريادي لرفاق الحزب في إرساء تقاليد العرض المسرحي في كل مكان متاح، حتى في قاعات السجون “فمثلما حوّل مناضلونا الأوائل قاعات السجون التي دخلوها إلى مدارس فكرية ماركسية للتنوير والوعي الاجتماعي الثوري، حوّلوا أيضا تلك القاعات إلى مسارح، وأرسوا تقاليده (المسرح) حتى أصبح معروفا وجود عروض مسرحية مقامة في القاعات التي زجّوا بها”. للمسرح تأثير قوي قد يتجاوز أحيانا عقوبة المؤبد أو الأشغال الشاقة أو غيرهما من العقوبات السجنية ويضيف “كان الحزب آنذاك يولي اهتماما كبيرا واستثنائيا بمسرح السجون، فعلى سبيل المثال في بداية الخمسينات كان يخصص شهريا ثلاثين دينارا من مالية (ميزانية) السجناء الحزبية في سجن الكوت تحت باب: صرفيات الندوات والنشاط المسرحي. وكان يعتبر هذا المبلغ كبيرا في ذلك الوقت، وكانت المسرحيات التي تقدم في السجون، مسرحيات متكاملة فنيا وتقنيا، وقد قدم اليساريون في هذه السجون مسرحيات مهمة، مثل مسرحيتي: المفتش العام وبزوغ القمر، في العام 1953، أي قبل تقديم هاتين المسرحيتين للجمهور العادي في مسارح بغداد خارج السجن بسنوات، إضافة إلى مسرحيات يوسف العاني وشهاب القصب، النقدية الساخرة ذات الفصل الواحد، وكان الكثير من نزلاء السجون آنذاك قد تعرف وشاهد فن المسرح لأول مرة في حياته في السجن، أو في مناطق الإبعاد كمعسكر السعدية وأصبحوا في ما بعد من عشاقه ومتذوقيه وجمهوره الدائم”. أما التجربة الثانية المهمة فتأتي من تونس، وهي تجربة حديثة ورائدة، على اعتبارها قدمت لجمهور واسع ضمن فعاليات أيام قرطاج المسرحية منذ العام 2017 وأثمرت أعمالا مسرحية من إنتاج وحدات سجنية وإصلاحية مختلفة، وتطورت هذه الشراكة وأسهمت فيه المندوبيات الجهوية للثقافة ومراكز الفنون الدرامية والركحية بالجهات القريبة جغرافيا من الوحدات السجنية والإصلاحية، من بين تلك العروض كان عرض للمختبر المسرحي بسجن برج الرومي في محافظة بنزرت بمسرحية عنوانها “الوجيعة” للمخرج الشاب محمد أمين الزاوي، الذي قدمها على مسرح “تياترو” في وسط العاصمة، تبعتها في العام 2018 أربعة عروض، نذكر منها مسرحية “الدبو” لسجناء برج الرومي، و”داموس 34″ لسجناء السجن المدني بالهوارب من محافظة القيروان. كما تم تكوين عشرة نواد مسرحية في السجون، وتطوع عدد من الممثلين والمخرجين وأساتذة المسرح لإنتاج وإخراج أعمال مسرحية على مدار السنة، ممّا أثمر 11 عرضا مسرحيا في الدورة الماضية من أيام قرطاج المسرحية 2019، كانت بمشاركة 120 سجينا، 7 عروض منها كانت عروضا لسجناء رجال و3 عروض لسجينات نساء، بالإضافة إلى عرض واحد من مركز إدماج وتأهيل الجانحين (إصلاحية الأحداث)، عرضت جميعها للجمهور على خشبة مسرح ابن خلدون بدار الثقافة المغاربية في تونس العاصمة، نذكر من تلك العروض مسرحية “كفارة” التي أخرجها سامي الجويني بمساعدة هدى اللموشي، وكانت مع معتقلي السجن المدني بصوّاف. ومن لبنان تأتي تجربة زينة دكاش في العام 2019، وهي فنانة لبنانية ومعالجة بالدراما، قدمت عرضا بعنوان “جوهر في مهب الريح”، قام بتأديته المساجين أمام الجمهور لكن داخل سجن رومية، واعتبر العرض لدى البعض تجربة فريدة، نظرا إلى صعوبة دخول وعبور أسوار هذا السجن إلا بعد الاستظهار بتصريح خاص، كان العرض جزءا من مشروع “قصّة منسيين خلف القضبان” المُنفذ من قبل مركز “كاتارسيس” بدعم من الاتحاد الأوروبي، يؤديه أربعون سجينا في رومية، وتتخلله مشاهد فيديو لسجناء المبنى الاحترازي الذي يعرف بالمبنى الأزرق والذي يضم أربعين مريضا نفسيا. التطهر الأرسطي نتوقف عند التجربة الأردنية بشكل مفصل على اعتبارها تجربة لم تنل بعدُ حضورا جماهيريا، واكتفت بكونها مجرد تمارين أو ورشات عمل، والهدف المباشر منها تحويل السجن إلى مركز إصلاح وتأهيل. المخرج والممثل حكيم حرب مؤسس مشروع المختبر المسرحي الجوال، يديره ويشرف على التدريب فيه بالتعاون مع وزارة الثقافة الأردنية، وكان المشروع قد بدأ عام 2014، بهدف اكتشاف الطاقات المسرحية الجديدة لدى الشباب والشابات في المناطق النائية والمحافظات الأردنية الأقل حظا، كنوع من ردّ الفعل على تمركز المسرح الأردني في العاصمة الأردنية عمّان. يقول حكيم؛ وفي محاولة منا لإخراجه من هذا الإطار، وبالتالي ألّا يبقى نخبويا، ولكن مع مرور الوقت “وبانتقالي إلى المحافظات بدأت أتواصل مع عدة شرائح، كان البعض منها نماذج لأشخاص يعيشون معاناة نتيجة دخولهم إلى مراكز الإصلاح والتأهيل أو الأحداث أو دور الأيتام، إلخ. حدثوني عن تجاربهم سواء على المستوى الإنساني أو على مستوى الشغف المسرحي، ولاحظت لاحقا أن بعضا من نزلاء مراكز الإصلاح كانوا يعانون من بعض المشاكل النفسية والتراكمات، ففكرت في تلك النماذج وقررت أن أتجه إلى معقلها، وأن أخترق مراكز الإصلاح والتأهيل ودور الأحداث”. ويتابع حكيم “نحن في الأردن نسمي السجون مراكز إصلاح وتأهيل، لإيماننا بأنها مجرد مرحلة وليس الهدف منها العقوبة، بقدر ما الهدف منها هو الإصلاح والتأهيل للنزلاء وإعطائهم فرصة جديدة للحياة”. لكن تجربة دخول السجن لم تكن بالسهلة، فإدارة السجون كان لديها تخوفها من التجربة وفشلها في حال لم يستجب النزلاء، فطلب منحه الفرصة لخوض التجربة، على أن ينهيها فورا في حال فشلت. بدأ حكيم رحلته من “ماركا” وهو مركز إصلاح وتأهيل موجود داخل العاصمة عمّان، ثم ذهب إلى “الموقر”، لكن التجربة الأقوى كانت داخل سجن النساء في مركز إصلاح وتأهيل النساء في منطقة “الجويدة”، حيث ألهمته تلك التجربة وفتحت له نوافذ وأفقا جديدا، إلى درجة بات يعمل في ذلك المركز لعدة شهور بدل عدة أيام. ونظرا إلى نجاح تلك التجربة والإقبال الكثيف عليها، قام بتعميمها على معظم سجون ومراكز إصلاح وتأهيل الأردن. ويوضح حرب “الإقبال بداية كان قليلا ولم يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، وكان سببه التردد، ولكن بعد الاطلاع على التدريبات، بدأ العدد يزداد إلى أن وصل إلى الخمسين، بدأ السجناء يشعرون أن هذه الورشة المسرحية نافذة لهم نحو الحياة والحرية، فمن خلالها أو من خلال المسرح يمكن أن يتجاوزوا أسوار السجن ويلتقوا بالأشخاص الذين تربطهم بهم علاقة قربى أو صداقه، كما أن مديرة السجن التي كانت تعترض على التجربة وتتخوف منها وتراهن على فشلها، كانت تراقب الورشة، وتستدعيني في نهايتها إلى مكتبها لتسألني عن الطريقة التي سيطرت بها على النزلاء، وكيف تلتزم أكثر من 20 أو 30 فتاة الصمت أثناء التمارين، فكنت أضحك لأن كل ما أفعله في الحقيقة لتلك الفتيات هو تحسيسهن بإنسانيتهن فقط لا غير، دون عنف أو استخدام لأساليب قاسية”. ويضيف “كنت أفاجأ حين يستحضر بعض السجناء والسجينات أشخاصا من خيالهم، فالأم السجينة تستحضر ابنتها، أو الابنة السجينة تستحضر أمها أو أختها أو صديقتها، والشاب يستحضر أخاه أو والده، وتصبح هناك حالة من التداعي الحر، أشبه برغبة في التخفيف والتطهير على الطريقة الأرسطية، كانوا يذرفون الدمع للوصول إلى الخلاص وبسبب الشعور بالذنب، وهذا كان يذكرني تماما بمسرحية هاملت، عندما أراد التأكد من أن كلوديوس هو قاتل أبيه لجأ إلى المسرح، وقدم عرضا مسرحيا أمامه، فما كان من كلوديوس إلا وأن شعر بالفزع والهلع، ثم ذهب إلى غرفته وهو يصرخ وأغلق الباب على نفسه وبدأ يصلي ويذرف الدموع، شاعرا بالذنب والخطيئة من الجريمة التي ارتكبها”. في النهاية للمسرح تأثير قوي قد يتجاوز أحيانا عقوبة المؤبد أو الأشغال الشاقة أو حتى الإعدام، وهذا ما يدفعنا بحسب حكيم حرب إلى “أنسنة العقوبة، أي أن نجعلها تأخذ طابعا إنسانيا، بحيث تتيح لنزلاء مراكز الإصلاح والتأهيل أن يتخففوا من آلامهم وأن يتطهروا ويشعروا بالذنب، أن يفرغوا الطاقة السلبية والعدائية كي يعودوا إلى المجتمع أكثر عطاء وإيجابية، بدلا من أن يعودوا إلى المجتمع بعد سنوات سجنهم، كأشخاص حاقدين ومدمرين لهذا المجتمع بسبب السلوك اللاإنساني الذي مورس عليهم”. يرى المخرج الأردني أن الحل لدينا أكثر ذكاء؛ بحيث يجب أن نبحث عن الدوافع ونحاول أن نخلص النفس البشرية من آلامها ومن الشوائب والتراكمات الذهنية والنفسية ونبحث عن الدوافع التي أدت مثلا إلى ارتكاب فتاة ما لجريمة ما، كتعرضها للتحرش أو للاغتصاب أو للتفوق الذكوري والقمع من قبل الأب أو الأخ أو حتى الزوج، بحيث تلجأ إلى السجن الصغير لخلاصها من السجن الكبير المتمثل في الحياة والمجتمع الذي لم يرحمها، بل تعامل معها بنوع من الافتراس فتحولت إلى ضحية. لم يستطع حكيم حرب إخراج تجربته إلى النور، فاقتصر عرضها على إدارة السجن، واكتفت بمجموعة مشاهد ينسجها السجناء من خيالهم وآلامهم أو عبر طقوس أو حالات تعبيرية (تستخدم فيها الشموع والجسد والموسيقى والترانيم) دون وجود حوار في بعض الأحيان، وكان دوره ليس بمخرج، بقدر ما هو منظم وموجه درامي. يقول حكيم “حاولت قدر الإمكان أن أخرج بهؤلاء السجناء إلى خارج الأسوار، بحيث يقدمون عروضهم أمام الجمهور كما يحصل في تونس مع الزميلة منال عبدالقوي التي دعتني لمشاهدة هذه الفعالية ضمن أيام قرطاج المسرحية، لكن هذه التجربة في الأردن كانت وما زالت صعبة، واليوم توقف المشروع برمته بسبب كورونا”.
مشاركة :