يدرك أطراف الصراع الليبي وحلفاؤهم الدوليون أن من يسيطر على الأجواء يكسب الأرض، لذلك احتدم التنافس على المجال الجوي ما أدى إلى انتشار مختلف أنواع الطيران الحربي، ما حوّل البلاد الغارقة في الفوضى منذ سنوات إلى مختبر لتجربة قدرات الحرب الجوية الحديثة بين مختلف الأطراف الدولية. طرابلس- باءت كل محاولات الميليشيات الموالية لما يسمى بـ”حكومة الوفاق” الواجهة السياسية للإسلاميين، طيلة أشهر، للتصدي للهجوم الذي شنه الجيش الوطني بقيادة المشير خليفة حفتر على العاصمة طرابلس بالفشل، بفضل التفوق الجوي للجيش وسيطرته التامة على الأجواء الليبية. كان ذلك قبل أن تتدخل تركيا نهاية العام الماضي لتبدأ في ما بعد بتثبيت أجهزة تشويش ونظام دفاع جوي شل حركة الطيران المسير التابع للجيش، مستفيدة من الهدنة التي فرضتها بالاتفاق مع روسيا في 11 يناير وحظيت بدعم المجتمع الدولي. واجه الجيشُ الهجوم التركي الذي كان الطيران المسير أحد أهم عناصره، منفردا، حيث امتنعت الدول الحليفة له عن التدخل جويا للتصدي للأتراك ما أعطى انطباعا بوجود اتفاق دولي على تكليف تركيا بمهمة إحباط هجوم الجيش على العاصمة لإقناعه بالتسوية السياسية، حيث كان يرفض دعوات دولية لانسحابه من محيط طرابلس لبدء المفاوضات. وأفضى التدخل التركي المباشر لإحباط هجوم الجيش على العاصمة وانسحابه من كامل المنطقة الغربية، لكن المعركة مازالت مستمرة اليوم، حيث يسعى الإسلاميون ومن خلفهم تركيا وقطر للسيطرة على سرت والموانئ النفطية. حاولت الميليشيات عقب انسحاب الجيش من طرابلس شن هجوم على سرت مستخدمة الطيران التركي المسير، وكادت المدينة أن تسقط في أيدي الميليشيات قبل أن يتدخل طيران يرجح مراقبون أن يكون أجنبيا نظرا لدقته في توجيه ضربات استهدفت أرتال الميليشيات، في حين لا يستبعد آخرون أن تكون روسيا قد استخدمت الطائرات التي تتهمها “الأفريكوم” بإرسالها لدعم الجيش في تلك المعركة في رسالة مفادها أن سرت وما بعدها خط أحمر لن تسمح روسيا أو غيرها من الدول الداعمة للجيش بتجاوزه. امتلأت سماء ليبيا منذ أبريل 2019 بطائرات ذاتية القيادة تركية وصينية الصنع، وطائرات “ميغ 29” و”سوخوي 24” الروسية الصنع وذلك في نفس الوقت الذي تتخذ فيه طائرات “أف 16” التركية وطائرات رافال المصرية مكانها في وضع الاستعداد. يقول دوغلاس باري، زميل أول في مجال الطيران العسكري في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في لندن “على أحد المستويات، تؤكد ليبيا ببساطة على قيمة القوة الجوية، وعلى أهمية عدم خوض معركة دونها”. برع الصينيون في بيع الطائرات ذاتية القيادة لدول الشرق الأوسط. وقال باري لموقع “دفانس نيوز”، “مع تقييد الولايات المتحدة لأنظمة البيع، رأى الصينيون فجوة في السوق”. ولكن أثبتت تركيا الاستثناء. ففي مايو الماضي، أدخلت تركيا طائرتها “تي.بي 2” ذاتية القيادة في المعركة، وهاجمت قوات حفتر، ودمرت أنظمة الدفاع الجوي الروسية “بانتسير” التي تدعمه وساعدت في إنهاء طموحاته للسيطرة على طرابلس. يقول باري “تخصصت تركيا في تصميم وتصنيع الطائرات ذاتية القيادة ومن المحتمل أن تستخدم ليبيا بشكل جزئي كمختبر، لاسيما وأن أنظمتها الآن مؤهلة للقتال. وقد طورت الشركات التركية المنوطة بهذه الصناعات، مثل روكيتسان، أيضًا ذخائر صغيرة موجهة بشكل دقيق للطائرات ذاتية القيادة”. ويرى محلل ثان أن استخدام تركيا لطائرات “تي.بي 2” في ليبيا غيّر من قواعد اللعبة. وقال جليل حرشاوي “لقد كلفت الطائرة الواحدة الأتراك لبنائها ما بين 1 و 1.5 مليون دولار، ولكن بفضل وفورات الحجم مع زيادة أحجام الإنتاج، انخفضت التكلفة إلى أقل من 500 ألف دولار، باستثناء محطة التحكم”. وأضاف أن البرمجيات والتغييرات التقنية الأخرى عززت من كفاءة طائرات “تي.بي 2” وقدرات الاستطلاع، مما سمح لها باستنتاج الارتفاع المناسب لتجنب أنظمة “بانتسير” الروسية. وقال باري إن ليبيا تعتبر مثالاً على تطبيع استخدام الطائرات ذاتية القيادة في الحرب الحديثة. وأضاف “الطائرات ذاتية القيادة هي قدرة تسعى إليها الآن الجهات الفاعلة الحكومية وغير الحكومية على حد سواء. من الواضح أن الدول تستطيع تحمل تكاليف أنظمة أكبر وأكثر قدرة، في حين أن الجهات الفاعلة غير الحكومية قد تضطر إلى الاكتفاء بأنظمة مبنية محليًا تشبه صنعها بمكونات تشبه راديو شاك، أو الحصول على أنظمة من شركات ترعاها الدولة”. وتابع “في ليبيا كانت الطائرات ذاتية القيادة مناسبة لهذا النوع من حرب الاستنزاف ضد الوحدات الصغيرة المسلحة بأسلحة خفيفة”. وفي هذه الأثناء، قامت القوى الكبرى باستخدام المقاتلات المأهولة في ليبيا من خلال إرسالها في هدوء، ومن دون إعلان. وتعرضت قاعدة مصراتة الجوية، التي استضافت الطائرات التركية ذاتية القيادة “تي.بي 2″، للقصف عدة مرات العام الماضي من قبل طائرات ذاتية القيادة وطائرات دول حليفة للجيش حتى جلب الأتراك أنظمة الدفاع الجوي “كوركوت” و”أم.آي.إم 23 هاوك”. وفي 4 يوليو، هاجمت الطائرات المقاتلة قاعدة الوطية الجوية، بعد أن جلبت تركيا صواريخ الدفاع الجوي “أم.آي.إم 23 هوك” إلى هناك. وقال حرشاوي “من خلال سماع دوي اختراق الصوت فوق سبها، جنوب غرب ليبيا، يشير إلى أن الطائرة أقلعت من مصر ثم توجهت إلى ليبيا عبر الصحراء لتجنب رصدها من الفرقاطات التركية قبالة الساحل الليبي. هل يمكن أن تكون رافال المصرية؟ إنهم جيدون ولكن ليس لديهم الخبرة الكافية للقيام بمهمة فائقة الدقة مثل هذه”. وقال إن الطيارين الفرنسيين الذين يقودون طائرات رافال مصرية كان احتمالاً ضعيفاً بسبب إمكانية أسر أحدهم، مما يوجه غالبية الاحتمالات نحو طائرات ميراج الإماراتية. وأضاف باري “من بين جميع دول الخليج، الإمارات هي الأكثر قدرة على القيام بهذا النوع من المهام – فلديهم خبرة قتالية ويمكنهم القيام بذلك”. وفي الوقت نفسه، ذكرت القيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا في أواخر مايو أن صور الأقمار الصناعية أظهرت وصول طائرات روسية إلى ليبيا لدعم حفتر. وقالت القيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا “تم نقل ما لا يقل عن 14 طائرة من طراز ‘أن.آي.جي 29’ وعدة طائرات ‘سو 24’ من روسيا إلى سوريا، حيث تم إخفاء علاماتهم الروسية لتمويه أصلهم الروسي”. حاولت الميليشيات عقب انسحاب الجيش من طرابلس شن هجوم على سرت مستخدمة الطيران التركي المسير، وكادت المدينة أن تسقط في أيدي الميليشيات قبل أن يتدخل طيران يرجح مراقبون أن يكون أجنبيا نظرا لدقته وبحسب ما ورد تُستخدم الطائرة لدعم مجموعة فاغنر، وهي مجموعة مرتزقة برعاية روسية على الأراضي الليبية، والتي تنفي موسكو صلتها بها. وحذرت القيادة الأميركية من أن الطائرة قد يقودها مرتزقة “عديمي الخبرة” “لن يلتزموا بالقانون الدولي”. وبحسب حرشاوي، أفاد شهود عيان في ليبيا بوقوع عدد من الأخطاء خلال غارات القصف التي شنتها الطائرات. وقال “هذا يشير إلى أنهم لم يكونوا طيارين من القوات الجوية الروسية”. تباطأ الصراع هذا الصيف، مع انسحاب قوات حفتر من طرابلس واتخاذ مواقع للقتال من أجل مدينة سرت الساحلية، والتي تعد أساسية للسيطرة على تجارة النفط الليبية. وبعد إصلاح قاعدة الوطية الجوية الآن وتشغيلها مرة أخرى بعد الغارة الجوية التي ضربتها في يوليو، ربما تفكر تركيا في إرسال طائرات “أف 16” إلى هناك، مما يمنحها ميزة التفوق بمقاتلاتها في ليبيا. ومع ذلك، فإن جلب طائرات أميركية الصنع يمكن أن يعتمد على موافقة الولايات المتحدة. يقول حرشاوي “هل تشعر الولايات المتحدة بالقلق بشأن التدخل الروسي في ليبيا لدرجة أنها ستدعم نشر مقاتلات ‘أف 16’ التركية لوقف ذلك؟. أم ستقف إلى جانب مصر، حليفة الولايات المتحدة؟ الكرة لا تزال في ملعبها”.
مشاركة :