لطالما كانت فكرة إرجاع الزمن مادة خصبة في خيال الكتّاب ، ومنها ظهرت فكرة آلة الزمن التي ترجع الزمن أو توقفه ، وصُنعت الكثير من الأفلام وكتبت العديد من الروايات عن هذا الموضوع ، و أسطورة (ماء الحياة ) الخالدة والتي تعيد العجوزة الى فتاة صبية والشيخ الى شاب فتي ، لطالما كان هذا ( الماء ) حلم ومبتغى ، واليوم في القرن العشرين تم اكتشاف (فيلر الحياة )و ( بوتكس الزمن )للحفاظ على النضارة وعمليات الشباب الدائم ، فصار الخيال واقع، وأقبل الميسورين وشبه الميسورين والمنتوفين أيضا لعمليات شد و حقن بمواد تزيل او تخفي خطوط العمر و النتائج باهرة ، و مع تقدم العلم ، أصبح لزاما لابن السبعين ان يبدوا بالخمسين وابن الخمسين عليه أن يبدو بالثلاثين ، يحب أن لا ينكشف عمرك الحقيقي ، ومع انتشار هذا الفكر الجديد أصبح اليوم من المستغرب ظهور الخطوط وتقدم العمر على أحد ، الناس يتعاملون مع هذا التقدم بإستنكار وإستعلاء أو قد يكون بإشفاق ،فمن يترك عمره على وجهه دون تزوير ، يُبادر بسؤاله لماذا لاتهتم بنفسك ؟ أو قد يتم تقديم المشورة عليك أن تفعل كذا أو كذا .. وكأن هذه الخطوط أصبحت نُدَب مُعيبة ويجب التخلص منها ، أو تشوه ويجب تصحيحه . فكر جديد عن التقدم بالعمر بأنه خطأ لابد من تفاديه ، أو إهمال يدل على شخصية مكتئبة أو شخصية فوضوية. انجذب الكثير ممن رحل شبابهم نحو هذه الخدع بهوس وإدمان ، نعم خدع فلا هي علاج حقيقي ولا هي تعطي صورة حقيقة ، فقد تشل حركة العضلات ولا تعالجها ، أو تشد الجلد و ستبقى الخلايا مسنة ، أيا كان فهو خيار متاح يقبل عليه من أقبل و يدبر عليه من أدبر ، والإنسان منوّط بخياراته وإعتقاداته ، لكن المشكلة لا تتوقف في اتخاذ هذا الخيار !! أبداً فقد نقول تحسين مظهر أو إرضاء ذات أو أي من الكلمات المسعفة ، لكن المشكلة الأعمق هي أن بعض من يقوم بها قد بالغوا جدا في خداعهم لأنفسهم ، فنرى الكثير اليوم لديهم إنفصام حقيقي عن عمرهم ، يكرهونه ولايصرحون به ، يخفون الزمن عن ملامحهم ويتصرفون بطريقة لا تتناسب مع عمرهم ظنا منهم إنهم فعلا قد صغروا في العمر !! يقول علي بن ابي طالب كرم الله وجهه ( خير شبابكم من تشبه بكهولكم وشر كهولكم من تشبه بشبابكم) صادفت في أحد المناسبات امرأة يفترض انها مسنة ، كنت أحادثها ولا أعرف ما تقول واضطربت ملامح وجهي لتتماهى مع حديثها، فشلت في حسن الإنصات ، فقد تجمدت ملامح وجهها تماما ، ولم أكن أقرأ تعابيره حين كنت احادثها ، فلا يتبين لي هل هي راضية أم غاضبة ، هل تؤيد أم تستنكر ، فالحواجب توقفت عن الصعود والنزول ،يقولون العين لا تكذب ، لكن كيف إن كانت لاتنطق !! أعجبتين عبارة للممثلة الراحلة والأنيقة شكلا وقالبا (رجاء الجداوي )حين سُئِلت لماذا لا تخفين تجاعيد وجهك ؟ قالت : إن أخفيتها فمن يخفي تجاعيد القلب . ياااه ما أجمل الكلمة ليت كل من سنينه وتصابى أدركها . رجل سبعيني يعلق بعد سؤال عن عمره بأن العمر هو ماتشعر به بقلبك ، لا بعدد سنينك !! أرهق نفسه بالتشبب وظن نفسه قد عاد فتيا ، لايكف عن التصرف بفوضى شبابية وتهور مراهق ، يرتدي ما لا يناسب زمنه، يتكلم بطريقة لا تلاؤم عمره ، ويتصور مع ابنائه صور لا تليق بمكانة الأب ،وليثبت للجميع أنه لا زال شاب يتزوج بفتاة بعمر أحفاده ،متناسيا أن البوتكس لايصلح ما أفسده الدهر ، فإن بدوت شابا وظننت قلبك شابا فلن يكون القادم من سنينك أكثر من الماضي . وأخرى تجاوزت الستين تقول العمر مجرد رقم ، لا أعلم ماهي مشكلتهم مع هذا الرقم !! يظنون أن بتقليل شأن العمر والميلاد قد نفوا عن أنفسهم التقدم في العمر ، أبدا أنت تقلل فقط من احترامك لعمرك وإحترام الآخرين لهذا العمر . فالعمر ليس مجرد رقم ، العمر استحقاق تناله من انقضاء السنين ، تجارب تمر و حياة تمضي بك ، سنوات مرورها يهيأك لمرحلة قادمة من حياتك ، العمر يحدد تعامل الغير معك و تعاملك أنت تجاه الغير وتجاه نفسك وتجاه الحياة برمتها ، العمر حافل وليس فارغ لتنفيه ، العمر حق تجهر به وليس باطل تخفيه . أريد أن اعيش عمري كما ينبغي له ، أحب الأم باحترامها وهيبتها ووقارها تعيش مع ابنائها سعادتهم ولا تنسى دورها كمربية وقدوة لهم ، تفصل بين عمرها وعمرهم ، لا تخلط عمرها بعمر بناتها ، تحافظ على درجة الإحترام ، ولا ترفع الكلفة بينها وبين الأبناء . أحب أن أصبح كجدتي ، كانت جدة حقيقية ، التجاعيد ترتسم على الوجه واليدين ، الكفين مخضبين دوما بالحنة ، التأني والتؤده في الكلام والانفعال ، الحكمة قرينة الكلام ، التسبيح والذكر يرطب اللسان ،النصح بحب وحنان يخفف من شدة الأم المربية . هل سنرى هذه الصور الجميلة في الأجيال القادمة أم ستندثر برفض جماعي للعمر الحقيقي . ويكون جيل يحتال على الزمن كي لايبدو كما يجب أن يكون !! بقلم : منيرة المخيال
مشاركة :