لم يّكُنْ "يحيي حقِّي" مُجَرَّد رائِد مِن روَّاد أدب "القصة القصيرة" إلي جِوار "محمود البدوي" و "عبدالقادر المازني" و "سعد مِكَّاوي" و "يوسف جوهر" وغيرَهم مِن روَّاد هذا الفن – إنَّما كان يهْدِف إلي إصلاح المُجتَمَع والنهوض بِهِ بعْد أن يتَخلَّص مِن عادات وأعراف مذمومة تُكَبِّلُهُ و تَعوق حرَكَتُهُ – وكانَ يُدْرِكُ أنَّ هذه المُهِمَّة لنْ تؤتي ثِمارِها عن طريق النُصْح والإرشاد، وإنَّما مِن خِلال تقديم نَماذِج حَيَّة يُعايشُها الناس في حياتِهِم اليومية – في مسْعاه لإعادة الوعى إلي أهمية قيم الإيمان الصحيح وإتقان العمل– فالكَلِمة عِنْدَ يحي حقِّي لا تنْفَصِل عَن السلوك والأداء...بينما كانت روحُهُ الشفَّافة و نَفْسِهِ التوَّاقة لِلمعرفة تسْري دومًا مِن نسيم "عِطْرِ الأحباب" في كُلِّ ما كانَ يَكْتُبْ، وكانت حياتُهُ ترجمة عملية لِكتاباتِه وإبداعِه.•في كِتابِهِ "كُناسة الدُّكانْ" يدعونا الكاتِب الكبير إلي التخلُّص مِن كُلِّ ما يَعوق حركة الحياة مِن سلْبيات في مجالات التربية وعلاقات الناس بِبعْضِهِم البعْض– يحكي لنا بِخفَّة ظلِّهِ وروحِهِ السَمِحة– أنَّهُ في طفولَتِهِ و بِداية صِباهْ أُلْقيَتْ علي رأْسِهِ كَمِّية هائِلة مِنَ الحِكَمْوالمواعِظ "عامِّية وفُصْحي– نِثْرًا وشِعْرًا" علي لِسانِ بني آدم أو لِسان الحيوان والطير – رصيد ضخم مِنَ الأمثالِ الشعْبية – يسْمَعْ مَنْ حَوْلَهُ يُردِّدونَها صباحَ مَساءْ... ورصيدًا آخر ينحَدِر مِن "التُّراث" يحشو الكُتُبْ والمُجلَّدات ويتَناثَر علي صفحاتِها – فَنَحْنُ في الشرق مُصابون بِهَوَس تَصَيُّدْ الحِكمة والتَفَنُّن في صياغتِها، نَقولَها ونَحْنُ نُحَرِّكُ الرُّؤوس طَرَبًا أو شُعورًا بِالحسرة "إقرارًا واستِحْسانًا واعتِذارًا"– بينما في "مُجتمعات الغرب" لايُمْكِن لِصبي في مُقْتَبَل العُمْر أن يواجِه مِثْل هذا الشلَّال مِن الكَلِمات والأقوال، لِأنَهم يَتْرِكونَهُ يعْمل ويلْعَب ثُمَّ يَرقُبونَهُ، فإن وجدوهُ أخطأ أرشدوه إلي الصواب، لِتكونُ النصيحة عملية مُستَمدَّة مِنَ الواقِع – ومِنْ ثَمَّ تدريبَهُ خُطوةً خُطوة – أمَّا أهالينا ومدارِسُنا فكأنَّما أرادوا لنا "أن نكونَ فلاسِفة" قّبْلَ أن تَكْتَمِل أسْناننا وفي مُحاولاتِهِم تِلْكَ أورَثونا الحيرة بديلًا لِلفلسفة.•العجيب في أمر هذا "الشلَّال" مِنَ الحِكَم والامثال – أنَّ تَتَّسِم بالتناقُض– فأمثال تدعو إلي الاقتصاد "القِرش الأبيض يِنْفَعْ في اليومِ الأسود"... وأُخري تدعو إلي التبذير "اصرِف ما في الجيب يأتيكَ مافي الغيب"... وبعضُها يَحُثُّ علي السعي والجِدْ إلي حد إهدار الكرامة "المِحتاجة غنَّاجة"...وغيرَها يدعوإلي التواكُلْ "اجري يا بني آدم جري الوحوشْ، غير رزقَك ما تحوش" – فالضِد والضِد جَنْبًا إلي جَنْب – وليس هُناك مَن يُرشِدُك ويقول لك ماذا تأْخُذ وماذا تَتْرُكْ من هذا أو ذَاك – فلا عَجَبْ أن تَقَع هذه الحِكَم والمواعِظ علي "أُذُن مِن طين وأُذُن مِن عجين" بما يؤدي إلي حالة مِن بلبلة الفِكْر وتضارُب المشاعِر.•الأنكي مِن ذَلِك أنَّ هُناك شُعْبَتِين مُتلازِمَتين مِن تِلْكَ الحِكَم والمواعِظ"فمجموعة تَحُضُّ بِشدَّة علي سوءِ الظن بالناس"، بل والحذر منهم، ويذهب بعضُها إلي حد التحذير مِن الأصدقاء والأقارِب، والتأكيد علي أنَّ خطر الأصدقاء، أشد مِن خطر الأعداء...فَهُناك المَثَل القائِل "الأقارِب كالعقارِب" وقولهم بِالشِعْر "احذر عدوَّك مرَّة واحذر صديقك ألف مرَّة".و"مجموعةأُخرى تدعو إلي ترتيب الفضائِل"استقرَّت على وضع فضيلة "الكِتمان والصَمْت" على رأس القائِمة – فَالأدب العربي مِن أغنى آداب العالَم في الإشادة بِفضيلة "عَقْد اللسان" فإذا كانت المجموعة الأولى تدعو إلي سوء الظن والحذر فإنَّ تِلْكَ المجموعة لصيقةً بِها –فَمِن شروط الحَذَر كِتمان السِر وإطباق الفَم،فَالصَمْتُأفضل مِن البَوحِ، لِأن الحِكمة الشائِعة تقول: "مُتْ بداء الصمتِ...خيرٌ لَكَ مِنْ داءِ الكلام".•وهَكذا –يدعونا"يحيي حقِّي" إلي رَفض كُلِّ ذَلِكْ – لأنَّهُ يَجِبُ علينا أن نلقى الناس بِقلبٍ مفتوح، فالتسامُح خيرٌ مِنَ النِفاق مَعَ الأقارِب والأصدِقاء–لِأنَّ الإنسان مدين لِأصدقائِه وأقارِبِه بِأكبر قدْر مِنِ السعادة يلقاهُ في الحياة...فما أفْظَع "جُدران الصمت" التي نُقيمَها مِن حولِنا – بديلًا لِلتواصُل وتبادُل الآراء والأفكار. فالأخبار تأتينا عاجِلًا أم آجِلًا، ومَن يتعاملون بِسوء الظَن والحَذَر، أو يُقيمون جُدران الصَمت مِن حولِهِم – فإنَّهُم يستَحقِّون الرِثاء –فيالَها مِن حِكَمْ وأمثال بعيدة عَن الحِكمة لِتقديمها صورة مُخيفة لِدُنيا الناس تُكَدِّرعليهِم صفو الحياة.•وعَن "أنماط البَشَر" يُقدِّم لنا "يحيي حقِّي" ثلاثة أنماط – فَنَمَط لا يري في الحياة إلَّا "فريسة" يجِبُ التحايُل عليها والالتفاف حولها بِالمَكر والحذيعة بُغْية التهامِها – هذا النَمَطْ يَتَّصِف بِالدَّهاء وأدواتُه الريبة والشك والحَذَر فهو "بنى آدم حويط" يلوذُ بِالصَمْت والتكتُّم والمُداراة...ونَمَط آخر لا يري في الحياة سوى أنَّها عملية "نَصْب واحتيال" وأنَّها لا تعدو كونَها مُجرَّد "مسرحية هزلية" لا معني لها – هذا النَمَط مِنَ البَشَر لا يعيش الحياة، إنَّما يتَقمَّص دَوْرَهُ فيها، فحياتَهُ خاوية – لا معني لها ولا يَعْرِف ماذا يُريدُ؟؟ لِذا تراهُ أتعَسَ خَلْقِ الله...أمَّا النمط الثالِث مِن أنماطِ البَشَر –فَتبدو الحياة أمامهُ وكأنَّها "حيوانٌ ضَخْم" فهو ماديّْ الطَبْع – لا يَهْتَم بِغَيرِ المأكل والمشرَب وإشباعِ الرغَبات –ولا مكان عِندَهُ لِمشاعِر أو أحلام – يراها ضَرْبًا مِنَ الأوهام.•...هَذِهِ الأنماط الثلاثة التي رصَدَها "يحيي حقِّي" لِلأحياء – لا عِلْمَ لها بِالمعنى الحقيقي لِلحياة...فالحياة لا تؤْخَذ بِالمَكر والحيلة...ولا بالاحتيال أو تمثيل دورًا مِنَ الأدوار...أو لِمُجرَّد اِشباع الحواس والرغبات– فالحياة هِبة مِن هِبات الرحمن لِلأحياء – ويتمنَّى هذا الرَّائِد الكبير رغْمَ كل ماكَتَبَهُ في "أُنشودَة البساطة" و"عِطْرِ الأحباب" و "خلِّيها علي الله" وغيرِها مِنَ الكِتابات البديعة التي تُخَلِّدُها الأيام..."يتمنَّي رغْمَ شاعِريِّتَهُ"... أنْ لو كان شاعِرًا يتَغنَّي بِمباهِج الحياة.
مشاركة :