بَادَرتُ صاحبى عندما التقيتُهُ و قد لمحتُهُ قادمًا في طريقه إلى مكان لقائنا الأسبوعى – قائلًا له مالك تبدو و كأنك تحمل هموم الدنيا علي كتيفيك...!!! أجابنى بابتسامته الرائقة التي تعلو شفتيه...طيب أحل مشاكلي أنا الأول...!!! هذا الصاحب الأثير إلى قلبي يتمتع بشفافية روحه و مشاعره الصادقة...التى يُغدِقُها على كُل من حوله – كُنَّا عندما نلتقى في موعدنا الأسبوعى نتبادل أطراف الحديث حول انطباعاتنا عما جرى في الأسبوع الفائت من أحوال...و لا نفترِق إلاَّ على موعد لقاء جديد.•فى أحد اللقاءات... تبادلنا الحديث عن أحوال الأولاد "صبيان و بنات" و انتهينا إلى أن الآباء و الاُمهات ينبغى عليهم عدم التفرِقة بينهم، وٍإسباغ العطف عليهم و الرعاية لهم بالتساوى – لكنَّه استدرك بِقوله – لكننى أعطف على البنات أكثر – سألته عن السبب – أجاب – لِما قرأتَهُ من سيرة عالم البصْرة المُتَصوِّف الزاهد "مالك بن دينار" فمحبتى للبنات أكثر لم تأتِ من فراغ – يقول عالم البصرة "كُنْتُ في مطلع شبابي أعمل شُرطيًَّا، أتعامل من الناس بالشِّدة و الغِلظة دون رحمة – و في يومٍ و أنا أتجوَّلُ في السوق شاهدتُ شخصان يتشاجران على ثمن بعض الأشياء، اشتراها أحَدَهُما من الآخر – فسَمِعْتُ المظلوم يقول "لقد سَلَبْتَني فَرَحَ بُنياتي، فسيدعون الله عليك – فلا تُصيبُ من بعدِها خيرًا أبدًا..." ولم أكُنْ قد تزوجتُ بعد – لكن دواعى الرحمة تحرَّكتْ داخلى، فدخلتنى رِقَّةً شديدة لحاله و حال بناته، فتَدَخْلتُ بينهما و أخذْتُ له حقَهُ من الآخر – طمْعًا في دعوةٍ صالحة من بناته المسكينات، و أغْدَقْتُ عليه هديةً من المال لهنَّ من عندى لأُزيدَ في فرْحَتهنّْ – و طلبت منه أن يجعلهُنَّ يدعون لى دعوة خيرٍ، فإن رأَيْتَهُم فَرِحَات بما أعْطيتُ لك، أخبِرهُم عن اسمى "مالك بن دينار" – و بعد زواجى رزقنى الله بإبنة لطيفة تعلَّق بها قلبى، لكنها توفيت وهي صغيرة – فزهَّدت نفسى في الدُنيا و سأْلتُ عن إمام التابعين في زمانه "حسن البصرى" فصِرت تابِعًا له في التصوُّف و العِبادة والزُهد – بفضل تِلك البُنيَّة التي فارقتني و أدركتُ بموتِها حقيقة الحياة".•في اللقاء التالي تأخَّرَ صاحبى عن الموعِد...جلسْتُ أنتظره، لمَحْتهُ قادمًا من بعيد يمشي على مهل و ما إن وصل حتى رأيتُ التأثُّر باديًا علي وجهه – سأَلْتُهُ عن سبب التأخير – قال أنه كان في زيارة لدار من دور "رعاية الفتيات" قريبه من منزله – علَّقتُ ضاحِكًا – ها قد رَبِحَ "مالك بن دينار" تابعًا جديدًا...قال و قد أضَاءَ وَجْههُ...ليست إلي هذه الدرجة...وأضاف قوله – لقد اعتدت الذهاب إلي تلك الدار، وبعد كل زيارة أشعر و أنني قد غسلتُ روحى بالرحمة والحُب – لكم يَعْصُر الألمُ قلبي عندما أرى هؤلاء الفتيات مُنكَسِرات، لذا فقد أَخَذْتُ علي عاتقى أن آتي إليهنّْ كلما سَمَحَت الظروف لِأحْمِلَ إليهنّْ بعض الهدايا البسيطة التي تُدْخِل الفرح على قلوبهنَّ – ردَّدت قائلًا وقد نقل إليَّ شُحنةٍ من المحبة و الامتنان لما يقوم به – أصحبني معك في زيارتك القادمة لِأُشارِكُكَ هذا العمل الطيب الذى لا يقوم به إلاَّ من رزقه الله حُسْن السريرة و نقاء القلب...ومن حينها كُنْتُ أُشارِكُهُ بعْض الزيارات بينما كان هو يواظِب علي الزيارة – فقد بات من المُرَحَّب بِهِم من جانب المُشرِفات علي الدار – فضلًا عن الفتيات وقد اعتبروه و كأنه العائل الوحيد لهم الذي ينتمون إليه و المسؤول عنهم.•كان موعد لقاءنا الأسبوعى لا يتغير، إلَّا إذا جدَّت ظروف لِأحدٍ منَّا تَحُولُ لقاءنا – فضلًا عن شهر رمضان المُبارك – كُنَّا نلتقي علي الإفطار أو بعده بِساعات لتناول السحور مع عدد من الأصدقاء...في إحدى تلك اللقاءات الرمضانية التي تُبهِج القلب، وكان الشهر المُتعَجِّل بالذهاب قد أوشك علي الرحيل – لتتوارى أجواءه و يستعِد الناس لِقدوم العيد و قد هلَّت بشائرُهُ تكسو واجهات المتاجر والحوانيت، و تُعلِن عن نفسها في الشوارع و الطُرقات...في ذلك اللقاء الأخير قبل انقضاء الشهر الفضيل – تواعدنا علي تناول الإفطار سويًا في أحد المحلات التي اعتدنا الذهاب إليها في مِثل هذه المُناسبات – بعد وصولى لِمائدة الإفطار قبل اندفاع مدفع الإفطار بقليل اتصل بي يُخبرَنى أنه قادم في الطريق بعد زيارته لدار الفتيات و سألونى عنك أخبرتهم بزيارتك لهم يوم العيد، بعد وصوله و قبل أن نشْرَع في تناول الإفطار، نظْرت إلي وجهه – والعجيب أنني استشعَرت حينها كأنني أراهُ لِلمرة الأولي...كانت تكْسوهُ علامات السكينة والوقار – علي غير العادة – فقد كان دائِم التَبَسُّم و التعليق علي كل موقِف طارِئ فَيُدْخِلُنا في موجة جميلة من الضحكات المُبهِجة – وجدته شارِدًا هادِئًا – سألته ما الخبر: استطرد يحكي ليزداد صَوْتَهُ عُمْقًا..كأنه آتٍ من مكان بعيد...... قال – حدث لي موقف مُنْذُ قليل بعد زيارتي لدار الفتيات لا أعرِف له تفسير، استعجلته الكلام، وقد أثار فضولي – أخذ يحكي ذهبت لِفتيات الدار اُبارِك لهم قُدوم العيد وإعطاؤهم العيديَّات من أوراق النقد الجديد التي كُنْتُ أحرِص على إحضارها لهم خِصِّيصًا لِإسعادِهِم – بعد أن قُمْت بتوزيعها عليهم أخذتُ أمسح على رؤوسهم، وما إن فَرغْت حتى هَرْوَلت إلىَّ أصغر الفتيات باكية تَطلُب منى المكوث معهم إلي أن يأتي العيد مَسْحتُ دموعها و أخبرتها بأنني قادم إليهم في العيد ودعْتُها بقولي لا أُريد أن أري في عينيك في مُقتَبَل الأيام عندما تكبرين سوي دموع الفرح في وجهكِ الجميل.•..ما إن خَرجْتُ من الدار حتى انهمرت دموعي من شَدَّة التأثُّر، عَبَرْتُ الباب مُتَجِهًا إلي سيارتي بجوار السور العالي للمبني – وقبل أن أمسح دموعي وجدثُ قطرةً كبيرة تهبط من أعلي لِتَغْمُرَ عَيْنَاى، نَظَرْتُ في كافة الاتجاهات أبحث عن مصدر هذه القطرة – لم أجِد ما يدُل علي وجود أي أثر لمياه في ذلك الشارع الواسع بِحالٍ من الأحوال...اختلطت قطرة الماء بدموعي...وإلي أن جِئْتُ إليك لا أَعْرِفُ من أين جاءتني قطرة المياه تلك – رَبَتّْتُ علي كَتِف صديقى موضِّحًا له – ما غابَ عنه – بقولي...هنيئًا لك...إنها "قطرة مِن السماء" حمَلتها إليك إحدى سحابات "ملائِكة الرحمة" وقد أمرها الرحمن أن تُشارِكُكْ الدمع عطفًا علي هؤلاء اليتيمات...ألَّا تذكُر قول الرسول الرحيم..."إرحموا من في الأرض يرحَمَكُم من في السماء"...طابت نفسه لِهذا التفسير، وشَرَعْنا نتناول إفطارنا بِشهيَّة لم نعرِفُها من قبل، و كأن الملائكة جاءت تَحُفَ به تُبارِك طعامُنا الذي لم نعرِف له حلاوةً من قبل....وكانت الدموع تترقرق في عيونِنا معًْا .... يالها من دمْعة .... تُساوى كُل كنوز الأرض ... !!! ... إنَّها دَمْعَةٌ مِنَ السَّماء ... !!! ودَعْوةٌ لِلْمَحَبَّة والتَراحُمِ والوَفاء ... !!!.
مشاركة :