مدن الحرير ودروبه: «شهر سَــــبز» … «خضراء الحرير» المنسية في آسيا الوسطى

  • 8/13/2020
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

مدينة صغيرة تخبئ كثير من تاريخها وميراثها، تتلألأ في آسيا الوسطى وتحديدًا في أوزبكستان حاليًّا، هي «شهر سَبز» أو «المدينة الخضراء»؛ واحدة من مدن طريق الحرير البري الذي تغلغل جزء منه في وسط آسيا مارًا بمدن كثيرة بعضها كان ذو شهرة ذائعة والبعض الآخر كان بمثابة محطات للاستراحة والتقاط الأنفاس والتزود لمواصلة السير. وشهر سَبز واحدة من هذه المدن التي لم يذع صيتها بالشكل الكافي، ربما لمنافستها لمدن أكبر في هذه البقعة ذي تاريخ وإرث ثقافي وفكري وديني كمدينتي سمرقند وبخارى. في شهر سبز اليوم؛ ستشعر بأنك في مدينة بسيطة قاومت التاريخ وتقلباته، وتختزن في شوراعها طيات وتجاعيد الزمن وأحداثه وتنقضاته. ففي وسطها سيطل عليك الأمير تيمور المعروف لدى الأغلبية بـ تيمورلنك – من أمام بقايا قصره الأبيض «آق سراي» ربما ليذكرك بأن له هنا حكايات لا بد أن تُروَى؛ فلا تمر ببقايا ميراثه الحجري مرور الكرام تاركًا مدينته إلى مدينة أخرى تُغريك ببهاءها ورونقها وزُرقتها. فشهر سَبز أو المدينة الخضراء كانت موطن الأمير تيمور ومحل ميلاده؛ فسعى جاهدًا أن يرتقي بها ويزينها بالمساجد والقصور واتخذها مقرًا صيفيًا له؛ فنافست العاصمة «سمرقند» وأصبحت محط القوافل والتجار ومزار الرحالة والمسافرين. تقع شهر سبز على طريق الحرير في الجزء الواصل بين شمال أفغانستان وتحديدًا من بلخ إلى سمرقند وترمذ وبخارى. قابعة في جنوب سمرقند، وكانت تعرف قديمًا باسم «كِش» وتغير اسمها إلى «شهر سَبز» أي المدينة الخضراء لكثرة مراعيها وحدائقها. إلا أن شهرة المدينة ورواجها الثقافي والفني كان في عهد التيموريين في الربع الأخير من القرن الرابع عشر وبدايات القرن الخامس عشر الميلادي. ففي إحدى قراها ولد الأمير تيمور فاكتسبت المدينة مكانة مميزة في قلبه، تمثلت على أرض الواقع في عمائر شتى نافست عمائر سمرقند وأبنيتها آنذاك. وربما زيارتنا اليوم لن تفي المدينة حقها ولن تساعدنا على رسم صورتها وهي في أبهى صورها؛ جراء ما تعرضت له المدينة من عوامل تخريب وإهمال على مدار القرون الأخيرة. لذا لن نجد أوفى من زيارة حية معاصرة للمدينة في مرحلة إعمارها والنهوض بها، قام بها كلافيجو في (1403-1406م) والذي كان مبعوثًا في سفارة دبلوماسية من هنري الثالث ملك قشتالة إلى بلاط الأمير تيمور في سمرقند. وفي طريقه إلى سمرقند نزل واستقر بالمدينة الخضراء ومكث أيام بها، تجول في شوراعها وتفقد قصورها ومساجدها، وأسوارها؛ تاركًا لنا وصف دقيق يفي لإعادة تشكيل صورة المدينة في أذهاننا. لا سيما وبقايا هذه العمائر ما زال قائمًا يحمل جزء من الرواية التي قصها علينا كلافيجو لتؤكد وتصدق على شهادته في حق المدينة. ارتحل كلافيجو – وزملائه المبعوثين برفقته – من مدينة «ترمذ» عابرًا بالقرى الصغيرة وبيوت القوافل والاستراحات وصولاً إلى «شهر سَبز» الخضراء المحاطة بكثير من القنوات العذبة التي تروي الحدائق والمراعي وحقول الذرة والفواكه. واصفًا المدينة بأنها مستطيلة الشكل/ التخطيط، ومحاطة بسور مرتفع ومحصن بأبراج وبخندق عميق من كل الجهات، فلا يستطيع أحد الدخول إليها إلا عبر العبور بقنطرة تنقله فوق الخندق إلى أحد أبواب المدينة. وهي قنطرة متحركة يتم رفعها وإنزالها وفقًا لحاجة الحراس الماكثين على أبواب المدينة، كأحد أنواع التحصين والدفاع المبكر عن المدينة في حال نشوب أي هجوم مباغت عليها لمنع المهاجمين من الوصول إلى أسوارها وأبوابها. ما أن دخل كلافيجو المدينة؛ وجدها عامرة بالحدائق والبساتين وأعمال البناء والتعمير تجري على قدم وساق للانتهاء من أبنية كثيرة أمر ببنائها الأمير تيمور. ومنها «آق سراي» أو القصر الأبيض الذي أشار كلافيجو أن العمل فيه قد بدأ منذ عشرون عامًا وما زال مستمرًا إلى اليوم، وأن الصناع والحرفيين والمزخرفين مازالوا في موقع القصر يعملون على إنهاء القصر وبلاطاته الخزفية البراقة وفقًا لرغبة الأمير تيمور. ووصفه بقصر فسيح له أربع إيوانات وله مدخل ضخم عبارة عن عقد مرتفع لا باب، وعلى العقد توجد نقوش مختلفة ومنها رسم لأسد وشمس. ويؤدي المدخل إلى صحن القصر حيث يتوسطه بركة مياة عذبة وأشجار مغروسة حولها، وتوجد أماكن مخصصة للحريم. ومن القصر الأبيض إلى دار السيادة حيث زار كلافيجو مبنى ضخم وصفه خطأً بمسجد، ويعرف باسم «دار السيادة» حيث أمر الأمير تيمور بدفن ابنه الأكبر جهانجير المتوفي في 1372م وكذلك والده. ويشير كلافيجو أيضًا إلى وجود مبنى مزخرف ومنمق أمر تيمور ببنائه لكي يُدفن هو فيه بعد ذلك ليكون بالقرب من ابنه ووالده. وأثناء تفقده لدار السيادة حكى له العمال أن الأمير تيمور جاء في زيارة من قبل لتفقد سير العمل، فوجد المدخل منخفض بعض الشيء فلم يعجبه الأمر، وطلب إعادة بناء المدخل من جديد ليكون أكثر ارتفاعًا وبهاءً وزرخرفة. ويشير كلافيجو أيضًا إلى ذبح عشرون كبشًا يوميًا في هذا المكان لتوزيعهم على الزوار وفقراء المدينة بأمر من الأمير تيمور ترحمًا على ابنه ووالده. جولات عديدة قام بها كلافيجو واصفًا لنا حال المدينة وأهلها وسوقها الكبير وسير العمل بها. إلا أن أغلب هذه الجولات لم يعد لها صدى اليوم؛ فالقصر العامر الذي وصفه كلافيجو ببراعة لم يتبقى منه سوى بقايا من المدخل وزخارفه الخزفية. جراء أعمال الهدم والتخريب التي تعرض لها في القرن السادس عشر على يد عبد الله خان الثاني أمير بخارى في صراعات الأسرة الشيبانية على الحكم وفرض النفوذ والسيطرة. وكذلك تغير شكل المدينة وعمرانها إثر وفاة الأمير تيمور – والذي دُفن بسمرقند عاصمته، وليس إلى جوار ابنه ووالده كما كان يرغب – وحاولت شهر سبز وحكامها من بعد تيمور أن يتولوا أمر تعميرها والحفاظ عليها وعلى رأسهم أولغ بك. إلا أن أغلب هذه المحاولات لم تأتي بثمارها المرجوة. لنجد أنفسنا في النهاية أمام مدينة صغيرة نسبيًّا مقارنة بمدن أخرى؛ إلا أنها شكلت جزء مهم من تاريخ التيموريين ونشأتهم الأولى. فرغم مكانة المدينة وقربها لقلب تيمور؛ إلا أن الثقل السياسي والتجاري والثقافي والفكري كان في صالح مدينة سمرقند. التي فازت في منافسة شرسة بينها وبين بخارى لتكون هي العاصمة الأولى ومقر الحكم والقرار. ورغم الثقل الديني الضارب بجذوره في أرض بخارى إلا أن موقع سمرقند التجاري وتوسطها لدروب مختلفة على رأسها طريق الحرير؛ جعل فكرة إعادة إعمارها عقب الغزو المغولي وسيطرة المغول الجغتائين عليها أمر أكثر أهمية بالنسبة للأمير تيمور من اتخاذ مدينته شهر سبز أو بخارى عاصمة لحكمه. وسعى جاهدًا لاستقطاب الثقل الديني الملازم لبخارى بدعوة رجال الدين والفكر إلى الانتقال والسكن بسمرقند. واجتذب إليها الصناع المهرة من كل البقاع التي سيطر عليها ليصنعوا له درة جديدة تنافس بقوة وتكون مثار إعجاب كل من يمر بها. ومع ذلك ورغم المنافسة الشرسة؛ حازت «شهر سبز» أيضًا بالاهتمام وأصبحت محل البناء المفضل له ومقره الصيفي للاسترخاء والتنزه. تاركًا لنا ميراث معماري محفوظ في كتابات المؤرخين وشهادات الرحالة، وبقايا رصات من البناء تنطق بما كان.

مشاركة :