على طريق الحرير البري حكايات .. ومحطات .. ومدن كثيرة؛ بعضها تبتهج بزيارته والتعمق في تفاصيله، والبعض الآخر يُكبل الروح بمشاعر متضاربة؛ فتتمنى لو كنت ضللت الطريق ولم تصل قدمك إلى مدينة جريحة، أو أن تملك آلة زمنية تُعيدك لزمن مجدها وتألقها الغابر؛ فلا تقف اليوم على أطلال بعض المدن ولا تستجدي أحجارها لتبوح بأسرارها .. وتقف قافلتنا اليوم في محطة مدينة «أُترار»؛ واحدة من أهم مدن آسيا الوسطى، في المنطقة الجغرافية التي اشتهرت تاريخيًّا باسم «بلاد ما وراء النهر». وتقع «أُترار» الآن ضمن حدود دولة كازاخستان في الجزء الجنوبي منها. وللأسف «أُترار» الآن أثرٌ بعد عين؛ أطلال من حجارة منثورة، وأبواب حصينة كانت يومًا تعج بالمارين، وبيوت رحل عنها أهلها تاركين بقايا جدران متشبثة بالأرض بقوة؛ كما تشبثت الأرض بدماء أهلها؛ فتحولت من مدينة من مدن الحرير الزاهرة إلى مدينة منكوبة .. ولكن مدينة لن ينساها التاريخ، ولن تُمحى من ذاكرة التاريخ الإسلامي خاصة في بدايات القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي. «هل جنى طريق الحرير على «أُترار» أم أن مصادفة بائسة هي من دفعت بها إلى مصيرها الدامي؟»؛ سؤال يتبادر إلى ذهني كلما تعمقت أكثر في جذور المدينة وحكاياتها. وإن كنت أعلم أن إجابته اليوم لن تغير من الأمر شيئًا، فهي على الأقل محاولة لتذكر هذه المدينة الباسلة ورجالها. فلا نمر عليهم مرور العابرين، ونقف على أثرهم طويلاً لنقص عنهم ما يستحق أن يروى. عُرفت «أُترار» أيضًا باسم «فاراب» وإليها ينسب الفارابي؛ أبو نصر محمد الفارابي الفيلسوف الشهير في القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي ..وكانت يومًا محطة تجارية مفصلية على طريق الحرير تربط بين مدن الصين وآسيا الوسطى .. مدينة لها ثقل كبير ودور محوري في تاريخ العالم الإسلاميحتى وإن كانت صفحة مكبلة بذكريات مريرة، مسطورة بمداد من دماء أهلها. فقد اقترن اسمها بواحدة من النكبات الكبرى التي طالت المسلمين وقضت فيما بعد على خليفتهم؛ هم جحافل المغول في هجمتهم الأولى الأكثر شراسة ووحشية، فمن «أُترار» بدأت شرارة القتال والعداء المسلح بين المغول والمسلمين، ومن «أُترار» أعلن المغول عن دمويتهم وبثوا الرعب في نفوس أهالي المدن المجاورة، ومنها أيضًا اتخذ التاريخ مسارًا مغايرًا ومسرحًا لأحداث جسام ألقت بظلالها الكئيبة على العالم الإسلامي ككل. لذا؛ عندما تخطو بقدميك على أطلال «أُترار» اليوم تذكر ذلك اليوم الدامي الذي أمر ينال خان حاكم مدينة «أُترار» بقتل التجار المغول الذين حلوا بالمدينة للتجارة ونقل الحرير الصيني متذرعًا بأنهم جاءوا بغرض التجسس؛ فثار غضب تيموجين – جنكيز خان – لمقتل ما يقرب من خمسمائة تاجر ونهب أموالهم وبضاعتهم، فأرسل للسلطان محمد بن خوارزم رسالة تفوح من بين سطورها رائحة الدم، مطالبًا بتسليم حاكم أُترار لقتله لكي تستمر العلاقات الودية التي تربطهم قائمة، وحرصًا على حقن دماء أهل المدينة، وقد أشارت المصادر لفحوى هذه الرسالة: «إنك قد كتبت خطك وأمانك للتجار أن لا تتعرض إليهم، وقد غدرت ونكثت، والغدر قبيح على الملوك، فإن زعمت أن الذي ارتكبه ينال خان كان من غير أمرك؛ فسلمه إلىَّ لأجازيه على فعله، وإلا فإذن بالحرب». لم يمتثل خوارزم لغضب جنكيز خان ووضع ثقته في قواته ورجاله وتحصن بأهم المدن التي ربما تكون مطمعًا لعدوان محتمل وهنا كان خطأ عسكري جسيم بتشتيت قوته وتفريقها على المدن بدلاً من توحيد صفوفها.. وعلى كلٌ .. سرعان ما وصلت جحافل المغول بقيادة جنكيز خان إلى أسوار «أُترار» و«سمرقند» و«بخارى»وحاصروهم .. سقطت سمرقند وبخارى سريعًا بعد محاولات يائسة من حاميتها وأهلها في الدفاع عنها. وصمدت «أُترار» لخمسة أشهر – وفي أقل تقدير شهرًاكاملاً كما ينقل لنا بعض المؤرخين – وإن كانت الرواية الأرجح هي صمود المدينة شهور تحت الحصار.. ليال طويلة يصوب حامية المدينة ورجالها بسهامهم من القلعة ليصيبوا جنود المغول المختبئين في جلود الحيوانات، فأسقطوا منهم عدد كبير أثار غضب قائد المغول فأمر رجاله بقتال أشرس وأن يتمكنوا من المدينة ليبيدوا أهلها ويمحوا تاريخها. وأطلق أيديهم ليفعلوا فيهم أفعاليهم الوحشية من قتل وتمثيل بالجثث وإحراق للأحياء كما فعلوا بأهالي بخارى وسمرقند وأكثر، فشراسة أهل «أُترار» كبلتهم أضعافًا من الدمار. لينتهي بهم الحال كحال بخارى وسمرقند، مدن تفوح منها رائحة موت تزكم الأنوف ودخان أسود يغطي سماء المدينة مُعلنًا عن أفول نجمها لوقت ليس بالقليل. يُعيدنا هذا الدمار للتساؤل السابق متشابكًا مع أسئلة كثيرة؛ هل جنى طريق الحرير على «أُترار»؟ هل لو كانت «أُترار» مدينة صغيرة بعيدة عن الطريق التجاري الدولي آنذاك ما كانت شهدت مثل هذه الواقعة؟ أم هل دفع حاكم «أُترار» بالمدينة وأهلها إلى الهاوية؟ وهل ساهم خليفة المسلمين ببغداد في ما آل إليه مصير «أُترار» والمدن التي سقطت من بعدها؟ لنجيب عليها واحدة تلو الأخرى؛ ونجد أن موقع المدينة التجاري ساهم بشكل كبير في اختيارها مسرحًا للأحداث ولكن وقوعها بمنأى عن هذا الطريق لم يكن ليضمن حمايتها وسلامتها؛ فمدن كثيرة اجتاحتها خيول المغول وجحافلهم لم تكن بموقع تجاري مهم أو أهمية سياسية تذكر. وإن كان الأمر كذلك لاكتفى المغول باقتحام «أُترار» وسلب خيراتها ومعاقبة حاكمها ينال خان – القاتل لتجارهم – وما نال بخارى وسمرقند ما نالهم من المصير ذاته. فنجد أن حاكم أُترار ساهم بشكل كبير في اختيار مدينته لتكون هي كبش الفداء وبداية التحركات العسكرية المعدة سلفًا والتي وضعها جنكيز خان نصب عينيه وخطط لها وانتهز الفرصة لتنفيذها. فالعلاقات الودية القائمة بين محمد بن خوارزم وجنكيز خان كانت مؤقتة وغير صادقة بأية حال ولن تدوم طويلاً. فاستراتيجية المغول العسكرية قائمة على التوسع ونهب الثروات واستخدام «الرعب» كوسيلة إعلامية هجومية تهيء الضحايا لمصير محتوم؛ فأصبح اسم المغول أو «التتر»كافيًا للذعر والهروب بعيدًا عن مرمى توسعهم المحتمل تاركين مدنًا شبه فارغة لن تصمد طويلاً أمام سهامهم. فعمد المغول على اتخاذ المدن المنكوبة ركيزة لالتقاط الأنفاس وترتيب الحملات وتسليحها لانطلاق جديد في سيرهم غربًا صوب بغداد والشام ومصر.وساهم الخليفة العباسي بصمته المتخاذل الناتج عن موقف سياسي عدائي بينه وبين الخوارزميين بإطلاق يد المغول في مدن ما وراء النهر وشمال فارس. ظنًا منه في البداية أن الأمر لن يتعدى مدن ما وراء النهر ومُلك خوارزم، ولكن سرعان ما وصل المغول في غضون سنوات إلى عاصمة المسلمين وقتلوا خليفتهم المستعصم بالله لتسقط عاصمة الخلافة في يد المغول ويتحقق حلم جنكيز خان على يد حفيده هولاكو بالقضاء على دولة المسلمين (السياسية) بقتل الخليفة والاستيلاء على عاصمته. هدأت وطأة القتال وحاولت «أُترار» التعافي بعد نكبتها ومقتل أغلب أهلهاودك حصونها.. تعافي لم يستمر طويلاً وإعمارًا لم يدم كثيرًا فتحولت من مدينة تجارية مكدسة بالتجار والأسواق ولا تتوقف فيها حركة البيع والشراء لمدينة عجوز تتكئ على ذكريات مجدها المكلوم لتسير بخطى بطيئة نحو الحياة.. ولم يمنحها القدر حظ وافر لإعادة إعمارها كما منح سمرقند وبخارى فيما بعد على يد الأمير تيمور. فأُترار لم تكن سوى أطلال وخرائب يتخللها واحات صغيرة مزهرة في الوقت الذي استعادت فيه مدن أخرى رونقها من جديد. وإن كان الحظ أدار لها ظهره مرة في الربع الأول من القرن الثالث عشر الميلادي، فهو لم يكن حليفًا لها مرة أخرى في مطلع القرن الخامس عشر الميلادي عندما اختارهًا مسرحًا لموت الأمير تيمور أثناء مروره بها. لتعاني المدينة بعد ذلك من الإهمال الذي حولها لخرائب مطمورة تحت طبقات من الركام، طبقات من التاريخ المدفون حاولت البعثات الأثرية في منتصف القرن العشرين كشفه ودراسته من بقايا تاريخها المادي المحفوظ في باطن أرضها. فإلى أُترار وأهلها السلام والرحمة.
مشاركة :