آلة زمنية.. تُعيدك إلى مدن العصور الوسطى وعالمها الساحر (1) أتذكر جيدًا تلك الليلة التي شاهدت فيه النسخة الإنجليزية من فيلم «الرسالة» للمخرج السوري مصطفى العقاد (رحمة الله عليه) والذي جاء ختامه مميز بالنسبة لي، تاركًّا أثره إلى اليوم.. ففي مشهد مُلهم لخُطبة الوداع للرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم)، يعقبها صوت عذب لنداء الصلاة «الآذان» من بلدانٍ مختلفة في إشارةً ضمنية لانتشار الرسالة من قلب مكة، حيث كانت البداية – إلى بلدان العالم شرقًا وغربًا.. في ذلك اليوم توَّلد بداخلي ولع بسماع الآذان في مساجد المدن التي أزورها. فاستمع إلى اللكنات ومخارح الحروف بصوت أهل المدينة.. فيستدعي ذهني مشهد الختام؛ فأقرئ النبي الكريم السلام، وأتوجه لله بالدعاء بالرحمة والمغفرة للعقاد.. ومن بلدٍ طيب من البلدان التي وصلتها الرسالة حتى اشتهرت مدينة من مدنها بأنها «مدينة الألف مئذنة»؛ من «مصر» المحروسة دائمًا؛ ارتحلت من مدينتي الساحلية المتمركزة ثغرًا على طريق الحرير وبحر المتوسط؛ «الإسكندرية».. متجهة إلى بلدان ومدنٌ لا تتحدث العربية وإن كانت تكتُب بأبجدية تتشابه معها أحيانًا، إلى أن التقيت بــها؛ «نصف العالم» أصفهان. في «مهمانسراى عباسي»؛ كانت إقامتي طيلة الأسابيع التي أمضيتها بأصفهان، والتي استقبلني موظفها بترحاب ولطف، أعقبهم بدقيقة صمت ونظرات اندهاش، وهو يتصفح جواز سفري؛ متعجبًا من تسميتي بـــ «سوزان»، وسألني إن كنت أعلم معناه في الفارسية أم لا؟ ودون انتظار رد، بادر بالإجابة بأنه «احتراق» و«نيران» و«لهيب» وابتسم مستدركًا؛ لكن (سوزان.. نيران لا تحرق)، إنها «نيران العشق» وكل نار تلامس الإحساس والوجدان.. نيران نشعر بها دون أن نرى ألسنتها، كنيران الشمس «آفتاب سوزان» نارٌ لا لهيب لها، تحرق في صمت.. ثم ألقى على مسامعي بيت شعر من نظم حافظ: «صبا بگو که چها بر سرم در این غم عشق ز آتش دل سوزان و دود آه رسید».. فضحك يمازحني؛ لماذا أحرق قلوب أحبتي؟ هنا.. أدركت أنني أمام تجربة مختلفة، وشعب مثقف واعٍ، وفي كنف مدينة تستحق عناء السفر الطويل في سبيل الوصول إليها.. شكرته، وسألته عن اسمه؛ فأجاب «فيروز».. فوجدتها فرصة لأن أرد له الجميل المعرفي الذي أسهب فيه، فابتسمت له موضحة بأن «فيروز» في العالم العربي ومجتمعاته؛ اسمٌ للإناث لا الذكور، فكيف تبدل الأمر في فارس؟! وتبادلنا حديث شيق عن أسماء الإناث والذكور بين الفارسية والعربية، كان ختامه أن «إيمان» كفيروز اسمٌ للذكور لا الإناث!! في الساعات الأولى لي بالمدينة؛ لقنتني «أصفهان» درسًّا عفويًّا؛ مغزاه أن لا مُسلمات في «الرحلة».. وعليًّ أن أُدرك مبكرًا أن الرحلة الورقية بين صفحات الكتب قد انتهى دورها، وحان الآن وقت العبور إلى «نصف العالم»/ «الحياة» واستكشافها بنفسي، في تجربة متفردة آراها بعيني بعيدًا عن كل ما قرأت. وهو درسٌ صالح لكل رحلة أو تجربة يخوضها الإنسان. لذا.. نحيت توقعاتي المسبقة عن المدينة جانبًا، وخلعت عني انطباعتي ووضعتها إلى جانب الحقائب.. وهيأت نفسي للمغامرة ؛كرحالة زميلةً لناصر خسرو، وابن بطوطة، وماركو بولو، وباسكال كوست، وشاردين.. أو ربما جئت أتتلمذ لهرتسفيلد وآرثر بوب، وجودارد وغيرهم.. لا أملك من المدينة وعنها إلا قليل من المعرفة؛ فآراها بعقل حُر، وفكر منفتح لقبول الاختلاف والتعمق في ثنايا المدينة وعمرانها، ووجوه أهلها وموروثهم، لأرى أهي بالفعل «نصف العالم»؟ وضعت حقائبي وأوراقي.. واتجهت نحو «المسجد الجامع» أو كما يقول أهل المدينة «مسجدي جمعه عتيق»، قبيل صلاة العصر، وارتديت «الشادور» لأداء الصلاة.. وهيأت ذهني وقلبي لتلبيبة نداء الصلاة؛ فاستمعت للآذان بصوت إمام المسجد بلكنة إصفهانية مميزة تلامس الروح، ما زال رنينه في أذني إلى اليوم.. وحمدت الله كثيرًا على جزيل عطاياه واستجابته لكثير من الدعوات التي دعوتها منذ اليوم الأول لي بقاعة الدرس لمادة العمارة الإسلامية؛ بأن أزور هذا المسجد، والمساجد المبكرة في العالم أجمع.. وما أن انتهيت من الصلاة وجلست بصدر إيوان القبلة المفتوح على الصحن في براح وهيبة، أتامل في صمت أسراب الطيور التي تحط في أرضية الصحن وحواف أحواض المياه، ناشرة أجنحتها معاودة للتحليق عاليًّا.. فإذا بي استعيد ما قرأته واحتفظت به ذاكرتي التي أخذتني لواقعة اندلاع النيران في المسجد فالتهمت جلَّ معالمه. فأصابني الفزع وكأن ألسنة اللهب أمام عيني تلتهم جزء من التاريخ الحي المكنون بين رصات الآجر وطبقات الجص، فتسببت في تغيير هوية المسجد المعمارية وهيئته الأولى من نظام الصحن والأروقة -كأغلب المساجد المبكرة في المدن الإسلامية – إلى نمط جديد مغاير للمألوف.. ففي عهد السلاجقة؛ في القرن الخامس الهجري/ الثاني عشر الميلادي، تم إعادة بناء أغلب أجزاء المسجد من جديد؛ فجاء تخطيطه هذه المرة على نظام الصحن الأوسط والأواوين الأربعة. في صمت.. أحدق في الوجوه، وأتعمق في هيأت البشر وملامحهم وملابسهم، فصوَّر لي خيالي أنني أرى الوزير السلجوقي «نظام الملك» الذي استوزره السلطان «مُلك شاه بن ألب أرسلان» – وإليه تُنسب المدارس التي تبناها في مواجهة التمدد الشيعي والتي عُرفت بـ «المدارس النظامية» – وهو يباشر العمال في مسجد أصفهان أثناء بناء القبة التي عرفت باسمه أيضًا «قبة نظام الملك»، فأردت لو أن أناقشه في أمر إضاءة المسجد التي تكاد تكون معتمة، فالنوافذ المفتوحة في رقبة القبة لا تكفي لإضاءة الداخل، فزيادة قطر القبة وارتفاعها، وكثرة الأعمدة المنثورة في المسجد تحتاج إلى منافذ متعددة للهواء والضوء، وعلى المهندسيين أن يجدوا أفكار ابتكارية لحل هذه الإشكالية التي تواجه المصلين إلى اليوم.. لحظات حتى تذكرت أنه لا يمكننا تغيير ما مضى وكان؛ كل ما نملكه هو أن نستفيد من التجربة ونطورها، فتركته وشأنه بين البنائين يفعل ما يشاء. اتجهت إلى «شبستان أولجايتو» الذي يعود إلى القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي، لأتأمل المحراب الجصي.. محراب بديع يزدان بنقوش كتابية متنوعة بين الثلث والكوفي وبتوقيع صانعه «عمل حيدر» يحمل بين طياته مضامين ورسائل سياسية ودينية متنوعة؛ مؤرخ بعام 710ه/ 1310م. والذي «أُضيف للمسجد ضمن العمارات المضافة في ذلك الوقت في عهد السلطان المغولي محمد أولجايتو خدابنده، وبمساعي وزيره سعد الدولة محمد الساوي ونائبه عضد الدولة الماستري» كما يقول النقش الكتابي. وبالإضافة للقيمة الفنية للمحراب الثري بزخارفه النباتية والهندسية ونقوشه الكتابية؛ إلا أن القيمة الفعلية ممثلة في إضافة مهمة يعكسها هذا المحراب ذو العبارات والدلالات الشيعية التي كانت بمثابة إنعكاس لتحول المذهب الرسمي للسلطان اولجايتو من المذهب السني إلى المذهب الشيعي في عام 709ه.. فجاء هذا المحراب بمثابة إعلان صريح أو ربما إنذار تم تثبيته وسط أكبر مسجد في فارس آنذاك، وفي قلب المدينة التي يعتنق أغلب أهلها المذهب السني.. تحذيرًا لما هو قادم، أو مكايدة ومراهقة سياسية من حاكم أرعن يُكيد لأهل البلد.. على كلٌّ لا شيء يدوم إلى الأبد.. فها أنا قادمة من مصر؛ حيث كان «المماليك» العدو اللدود له، اقف اليوم أمام محرابه، واتجاهل اسمه ردًا لمكايدته الطفولية لأهل أصفهان، وأحدق بامتنان وفخر بأيادٍ كتبت ونفذت وجصصت وأبدعت هذا الفن.. وقد استمرت الإضافات على هذا المسجد من توسعات وزيادات وإضافات متنوعة لعناصر ووحدات معمارية مهمة على مدار القرون التالية لعهد السلاجقة، وإن كان أكثرها جاء في العهد الصفوي بتكسيات خزفية لامعة وبراقة أكسبته صورته الحالية. ومن قلب المسجد العتيق إلى ضفة نهر «زاينده» – «زاينده رود» – فقد كان عليَّ أن أفي بالوعد الذي قطعته على نفسي منذ أعوام عندما تعمقت في دراسة العمارة والفنون الإسلامية في فارس وآسيا الوسطى؛ بأن أزور قبر العالم آرثر بوب؛ العاشق للفن والحضارة والعمارة الفارسية بكل مراحلها خاصة في العصر الإسلامي، وصاحب المؤلفات القيمة والثرية في مطلع القرن العشرين التي ساهمت في تشكيل معارفي بهذا الجمال المكنون.. وقد أراد آرثر بوب أن يُدفن بأصفهان بالقرب من نهر زاينده، وهو ما تم بالفعل. وفها هي مقبرته التي ضمت رفاته وزوجته؛ تنتصب على ضفة النهر؛ شاهدة على علم وإخلاص وعطاء هذا الرجل الموسوعي في تخصصه، وعلى حبه لأصفهان.. ما هذا؟! أين النهر؟! لا أرى مياه هنا، ربما ضللت الطريق؟! لا.. ها هو جسر «پل خاچو» وألمح بعيدًا جسر «سى وسه پل»، نعم، أعرفه جيدًا من الصور التي طالعتها من قبل. لكن.. لا أثر لوجود مياه هنا ويبدو أن هذا منذ فترة ليست قليلة، فالأطفال والشباب يمرحون في مجرى ترابي جاف جدًا، أهذا مجرى النهر؟! استوقفت أحد المارة وسألته أين النهر؟ فأجابني ضاحكًا: «يأتي غدًا».. غدًا!! أمدينة على طريق الحرير هذه أم آلة زمنية أخذتني عنوة، وتركتني بين متون حكايات ألف ليلة وليلة.. لنستكمل الحكاية غدًا.
مشاركة :