لاشك أن ثقافة الحوار، أصبحت اليوم أحد أهم المرتكزات الاساسية التي تُشكل الوجه الحضاري والبعد الانساني لأي مجتمع متحضر يسعى للحصول على تنمية شاملة في مختلف الصعد والمستويات. نجاح الحوار كمبدأ وسلوك في مجتمعنا، يحتاج إلى ارتفاع واضح في منسوب الحرية، ومعالجة للكثير من القضايا والملفات المتعلقة بالحريات والحقوق، ومناهضة خطاب الكراهية والازدراء، والاسراع في سن قوانين وانظمة لتجريم كل من يحاول اثارة الفتن والصراعات الطائفية والمجتمعية الحوار، كقيمة وثقافة وسلوك، يضع المجتمعات التي تؤمن به وتعتبره من قيمها الراسخة على صدارة المشهد الكوني، هذا المشهد المتقدم الذي لا تصله إلا المجتمعات والشعوب الراقية والمتحضرة التي اعتمدت ثقافة الحوار كبيئة صالحة لنشر مبادئ الوسطية والاعتدال والتسامح والمساواة والحرية. بدعوة كريمة من مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني، شاركتُ مع نخبة مميزة من المثقفين والمفكرين والمتخصصين في ندوة بعنوان "تطوير مسيرة الحوار الوطني واستشراف مستقبله"، وذلك في مدينة الخبر على الساحل الشرقي. وكان الهدف من ذلك اللقاء الذي ينظمه مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني في عدد من مناطق المملكة، هو مناقشة مسيرة هذا المركز الوطني الرائع بعد سنوات من تأسيسه، وتلك لفتة ذكية من قبل القائمين على هذه المؤسسة الوطنية المهمة، ومحاولة مميزة لإشراك مكونات المجتمع السعودي، لاسيما الشرائح والنخب والفئات الثقافية والفكرية والمجتمعية، في مكاشفات صريحة وشفافة حول مسيرة هذا المركز، بل والاستفادة من آرائهم وافكارهم ونصائحهم حول عقد كامل من العطاء لهذا المركز. كانت جلسة، غاية في الشفافية والجرأة، سواء من المثقفين أو من المسؤولين عن المركز. امتد "الحوار" لساعات طويلة جداً، ولكنها كانت مفيدة ومثمرة، بل وصادمة في كثير من الاحيان. استعرضت الكثير من الانجازات والخدمات الرائعة للمركز، تماماً كما كُشف النقاب عن الكثير من الاخفاقات والتحديات. مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني، هذا الصرح الوطني الكبير الذي تأسس عام م، وبإشراف مباشر من خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله، قدم الكثير وعلى أكثر من صعيد، ولكنه أيضاً أخفق في الكثير، وذلك أمر طبيعي وظاهرة صحية، لا تستوجب القلق أو الاتهام. منذ بداياته الاولى، رفع هذا المركز سقف التوقعات والطموحات والتطلعات التي تلقفها الشارع السعودي الذي احتفل بتدشين هذه المؤسسة الوطنية التي ستغرس ثقافة الحوار في كل تفاصيل حياتنا، وستعزز سلوكيات المواطنة الحقيقية في فكر ومزاج المواطن السعودي. تلك الخطوة غير المحسوبة، سواء من المركز أو من المجتمع، اصطدمت بصخرة واقع المجتمع السعودي، هذا المجتمع البسيط الذي يُعاني، كغيره من المجتمعات العالمثالثية، من عدم تمظهر حقيقي للحوار، كفلسفة تواصل، ونمط حياة، وحاجة مجتمعية. سنوات، هي كل عمر هذا المركز الوطني الطموح، ليست كافية على الاطلاق لإحداث التغيرات والتحولات الكبرى في قارة مترامية الاطراف، تحوي الكثير من مظاهر التنوع والتمايز الفكري والاجتماعي والمذهبي والقبلي. ولكن في المقابل، هناك الكثير من المآخذ والسلبيات التي يُمكن أن تُرصد خلال مسيرة المركز. اولها، هو غياب الرؤية الواضحة والدقيقة للوظيفة الحقيقية التي يلعبها المركز، فهل هو جهة استشارية أم وسيط محايد أم جهاز تنفيذي؟ ولكل تلك الوظائف والادوار طبيعة مختلفة كما هو معلوم. أيضاً، هناك من يرى بأن المركز انشغل كثيراً بقضايا وملفات الخدمات، كالصحة والتعليم والاسرة، بينما ابتعد كثيراً عن القضايا الكبرى والحساسة التي أنشئ من اجلها، والتي تُهدد أمن وسلامة واستقرار الوطن، كالطائفية والتعصب والاقصاء والقبلية. كذلك، يُنتقد المركز لأنه لم يصل إلى المستهدفين الحقيقيين، وهم الطبقات البسيطة والمتوسطة من المجتمع السعودي، والتي تحتاج أكثر من غيرها لتلك القيم والمضامين والسلوكيات المهمة، كالحوار والتسامح والانفتاح والقبول بالآخر. الحوار، كعنوان كبير وملهم، لم يجد له حتى الآن مكاناً بارزاً في واقع مجتمعنا الذي يُعاني من الاستقطاب والتعبئة والوصاية من بعض التيارات والتوجهات. الحوار، هذه القيمة الراقية، وذلك السلوك الحضاري المتقدم، يحتاج للكثير من المعطيات والاعتبارات والمقومات التي تضمن نجاحه في مجتمعنا. يحتاج لحزمة متكاملة تحوي الكثير من القيم والسلوكيات الايجابية كالتسامح والاعتدال والوسطية والمساواة والحرية، وغيرها من الصفات والقيم التي يؤطرها ويُفعّلها الحوار المثمر الذكي. أيضاً، نجاح الحوار كمبدأ وسلوك في مجتمعنا، يحتاج إلى ارتفاع واضح في منسوب الحرية، ومعالجة للكثير من القضايا والملفات المتعلقة بالحريات والحقوق، ومناهضة خطاب الكراهية والازدراء، والاسراع في سن قوانين وانظمة لتجريم كل من يحاول اثارة الفتن والصراعات الطائفية والمجتمعية. الحوار، هو سر النجاح الذي يحتاجه مجتمعنا، بل كل المجتمعات، لأنه طريقنا الوحيد باتجاه التطور والتقدم والنماء، بعيداً عن مظاهر ومصادر الاحتقان والصراع والتأزم. الحوار، ليس غاية، ولكنه وسيلة. إن ممارسة الحوار في كل تفاصيلنا الصغيرة والكبيرة، هي الضمانة الحقيقية للوصول لمجتمع الرفاهية والعيش الكريم والحياة السعيدة.
مشاركة :