عرفت حضارة بلاد الرافدين أو بلاد ما بين النهرين على مدى تاريخها القديم تمازجا وتواصلا حضاريا مع مختلف الحضارات والأقوام التي مرت بها، الأمر الذي جعل إنجازاتها تشكل إسهاما بارزا في عملية التبادل الحضاري والثقافي التي تمت في منطقة الشرق الأدنى. وهذا ما يناقشه كتاب “بلاد الرافدين أرض الأسطورة والحضارة”. يؤكد الباحث عبدالباسط سيدا أن بلاد الرافدين عرفت الكثير من الإنجازات الحضارية وكانت مؤثرة في المنطقة التي حولها، حيث خلقت نوعا من التجادل الحضاري المتميز. أخذت مجتمعات الشرق الأدنى القديم عن الحضارة الرافدية الكثير من الإسهامات الإبداعية في مجالات وميادين معرفية عدة، كما أن بلاد الرافدين أخذت هي الأخرى من جانبها الكثير عن مجتمعات الشرق الأدنى واستفادت من تجاربها. تجادل ثقافي يسعى سيدا في كتابه “بلاد الرافدين أرض الأسطورة والحضارة”، الصادر أخيرا عن دار خطوط وظلال الأردنية، والذي ضمنه مجموعة من الدراسات المهمة إلى تقديم رؤاه لحضارة بين الرافدين كاشفا عن الكثير من الأبعاد المعرفية والثقافية والإبداعية فيها وامتداداتها ومشاركتها في مجتمعات الشرق الأدنى القديم، حيث تناول البعد التأريخي في التراث السومري والدور الشمولي للمعبد الرافدي، وتتبع موقع السحر من العلم في بلاد ما بين النهرين وأيضا العلاقة بين السحر والعلم في الفلك البابلي، ودرس موقع التوراة من الفكر الشرقي القديم، والوعي الأسطوري الرافدي والفعل الفلسفي النظري. عبدالباسط سيدا: الكتاب دراسات عن حضارة بلاد الرافدين تكشف عن الكثير من الأبعاد المعرفية والثقافية والإبداعية فيها عبدالباسط سيدا: الكتاب دراسات عن حضارة بلاد الرافدين تكشف عن الكثير من الأبعاد المعرفية والثقافية والإبداعية فيها ويرى سيدا أن حصيلة تجادل وتمازج حضارة بلاد الرافدين مع مجتمعات الشرق الأدنى القديم قل أن عرفتها منطقة أخرى في العالم، ويقول “لعل الجانب المهم في حضارة بلاد ما بين النهرين ـ باعتباره حصل على قدر وافر من التدقيق والتمحيص البحثيين ـ يتمثل في التراث الأسطوري الغني الذي قدمته تلك الحضارة للبشرية، وهو يجسد تصورات وتطلعات الإنسان الرافدي المتفاعل مع بيئته الطبيعية، كما يجسد في ذاته مجمل ما عرفه المجتمع الرافدي من نجاحات وإخفاقات وهيمنة، وذلك على الصعيدين الاجتماعي والسياسي وحتى على الصعيد الاقتصادي”. ويلفت إلى أن الخصوصية الذهنية التي اتسمت بها مجتمعات بلاد النهرين وربما الشرق الأدنى القديم عموما تتجلى من خلال تمتع الأسطورة بمكانة هامة من جهة التعبير عن نظرة تلك المجتمعات إلى العالم بشقيه الطبيعي والاجتماعي، فالأسطورة في تلك المجتمعات لها أدوار لا يجوز تحاشيها، كما أنه لا يمكن من دون فهمها التعرف إلى الآلية الداخلية المعنية. ويتوقف سيدا مع نموذجين من التراث السومري: أسطورة “إنانا” التي تمثل حالة النزاع التاريخية بين الفلاح والراعي، وتشبه في جوانب عديدة منها تلك القصة التوراتية التي تتحدث عن “قايين وهابيل” و”من خلال مقارنة الأولى بالثانية نكتشف مدى تشابك الرؤية التاريخية مع النسيج الأسطوري، وتشكل نتاج مركب لا ينبغي التعامل معه على أنه مجرد تلاعب بالألفاظ أو حاصل تراكمات وهمية خيالية أو ما شابه”. والنموذج الثاني أسطورة إنانا وإنكي وملخصها “أن إنانا ملكة السماء ومعبودة مدينة أرك ‘أوروك’ تاقت إلى نشر الخير والرفاه والبركة في مدينتها، وعزمت على أن تجعلها مركز حضارة سومر. وهي كانت ترمي بذلك إلى إعلاء اسمها وشأنها بالنتيجة، ومن أجل بلوغ ذلك عزمت على الذهاب إلى أريدو مركز حياة السومريين العقلية والروحية حيث يسكن في معبدها الإله إنكي “رب الحكمة” العليم بخفايا قلوب الآلهة، لأن إنكي يضطلع بجميع مصائر الحضارة، فإذا ما نجحت بالحصول على هذه المصائر وجلبتها إلى موطنها المحبوب أرك فسيعظم مجدها ومجد مدينتها”، ووفق ما تذكره الأسطورة تفلح “أنانا” في بلوغ مأربها. ويشير سيدا إلى أن المعبد في بلاد ما بين النهرين حظي عبر مختلف المراحل بأهمية كبرى، تجلت خلال الأدوار التي كان يؤديها، والنفوذ الذي تمتع به في علاقته مع القصر. لكن هذا لا يمنع أنه في مراحل معينة كان نفوذ المعبد يتقلص نسبيا، مقابل تعاظم العاهل “الملك”، بعد أن كان هذا الأخير يتغلف بستار إلهي، يتحول بفعله إلى كاهن أكبر أو إله. ويشير هذا الأمر إلى أن الصفة الدينية كانت تبقى هي الأساس في عملية الإقرار بشرعية أي سلطة دنيوية. المعرفة والعلوم تعبير عن نظرة تلك المجتمعات إلى العالم تعبير عن نظرة تلك المجتمعات إلى العالم يؤكد سيدا أن البابليين بلغوا مستويات متقدمة في ميدان المعرفة والعلوم، لم تبلغه أي من المجتمعات المعاصرة لهم. وإذا كان لنا أن نتساءل عن مدى مشروعية استخدام مصطلح العلم للدلالة على الجهود المعرفية البابلية التي تمحورت حول هذا الموضع أو ذاك، فمن الواضح أن الإنجازات الفلكية البابلية تمتلك في هذا المجال مؤهلات متميزة، إلا أنه على الرغم من ذلك، يبدو أن اعتماد مصطلح علم الفلك البابلي عوضا عن الفلك البابلي أو المعارف الفلكية البابلية، إنما هو من قبيل التجاوز الذي قد تفوق سلبياته الواقعية إيجابياته المنشودة؛ وتفسير هذا الأمر يتجلى في الطابع الوظيفي الذي اتسم به الفلك لدى البابليين وانطلاقه من الحاجات الحياتية، وافتقاره إلى الركائز المنهجية التي كانت ستهيئ السبيل أمام استقلاليته النسبية إزاء المتطلبات العلمية. هذا بالإضافة إلى العوامل التقليدية التي كان مصدرها إشراف المعبـد على مختلف أوجه النشاط الفلكي. فالكهنة هم الذين كانوا يتابعون حركات الأفلاك، ويرصدون التغيرات التي تطرأ على وضعياتها بين الحين والآخر، وذلك انسجاما مع الدور الشمولي الذي اضطلع به المعبد الرافدي القديم؛ وقد أدى ذلك في الكثير من الأحايين إلى إخضاع المادة المعرفية لتوجهات العقيدة الدينية، لكن هذا كله لا يقلل من أهمية المعارف الفلكية البابلية التي تجاوزت الممارسات السحرية الطقسية، وكانت بحق مادة غنية، قدمت إلى الأبحاث العلمية الفلكية اللاحقة ما لا يمكن تغييبه أو تهميشه. رؤية مختلفة لحضارة بلاد الرافدين رؤية مختلفة لحضارة بلاد الرافدين ويرى الباحث أن الوعي الأسطوري الرافدي قد توصل إلى إدراك وجود صيغة من العلاقة بين مختلف الظواهر الكونية، كما أنه أدرك في الوقت ذاته وجود علاقة ما بين الظواهر الكونية والعالم الإنساني، هذا بغض النظر عن مدى التوفيق في التعبير عن طبيعة تلك العلاقة وملاحقة تشعباتها. أما السمات التي تميز بها الإدراك المشار إليه، فهي تتمثل في نفي تصور الخلق من عدم، وتبني تصور وجود مادة أولى غير محددة المعالم. وتأكيد حيوية الفعل الإلهي الذي كان يعتبر بموجب التصور فعلا طبيعيا كونيا. وإبراز أهمية الكلمة الإلهية التي عوملت على أنها ليست أقل شأنا من الفعل الإلهي نفسه فـ”مردوك” قبل أن يخرج لملاقاة “تيامة” طالب بسلطة الكلمة، ليضيف قوتها إلى فعله، الأمر الذي أدى إلى امتلاكه قوى استثنائية مكنته من إنجاز مهمام كبرى. ويقول سيدا إن المعرفة والحكمة عموما حظيتا بمكانة مرموقة في نطاق الوعي الأسطوري الرافدي، فالإله “إنكي” السومري الذي عرف لدى البابليين باسم “أيا” كان إلها للحكمة والمعرفة، وهو الذي توصل إلى معرفة قرار “أبسو” الخطير القاضي بإفناء الآلهة واعتقال وزيره “ممو”. كما أن الإله “إنكي” هو نفسه الذي نقل القرار الإلهي الذي كان ينص على إحداث الطوفان، وإفناء الجنس البشري إلى “زيوسدرا” السومري أو “أوتنابشتم” البابلي. وعلمه في الوقت ذاته طريقة صنع السفينة، استعدادا لتحاشي الآثار المدمرة التي سيحدثها الطوفان. ويؤكد عبدالباسط سيدا أن هذا لا يقلل من أهمية قضية المعرفة ذاتها في المنظور الرافدي، فهي شكلت على الدوام الهدف الأسمى الذي طالما رغب فيه الإنسان، وأراد الوصول إليه، هذا على الرغم من أن العقيدة الدينية السائدة كانت تثبط العزائم، وتؤكد أن الإنسان خلق أصلا خادما للآلهة، ليلبي احتياجاتها، ويأتمر بما تراه، لذلك عليه أن يلتزم الحدود التي رسمت له، ويحظر على نفسه أي فكرة من شأنها دفعه نحو اختراقات لا تؤهله طبيعته لتحمل نتائجها. إلا أنه رغم ذلك يلاحظ أن الرغبة الإنسانية في الوصول إلى قسط أكيد من المعرفة في تنام مستمر، تستمد قوتها من حاجات الإنسان المتزايدة، ومن الخبرات التي يكتسبها، ومن قلقه تجاه المصير المجهول الذي ينتظره.
مشاركة :