أواخر أبريل الماضي حلّت الذكرى السادسة لرحيل واحد من أبرز شعراء أوروبا، الشاعر البولوني تادؤوش روزيفيتش، الذي رحل عن عمر ناهز اثنين وتسعين عاما، كرس خلالها تجربة فريدة في الشعر والكتابة المسرحية والمقالات، وقد كانت أغلبها عن ويلات الحرب العالمية الثانية، الحرب التي نجا منها الشاعر ليصبح راويا لخفاياها ومشاهدها وانعكاساتها على البشر والأرض. فالشاعر في النهاية منحاز إلى الإنسان فيه، لذا كان متمردا على كل القوالب، وهو ما تؤكده المختارات الشعرية الجديدة التي صدرت له أخيرا مترجمة إلى العربية. يفتح الشاعر والمترجم هاشم شفيق مختاراته للشاعر البولوني تادؤوش روزيفيتش، والتي عنونها بـ”ابتسامة ليوناردو دافنشي”، بتقديم كاشف ومضيء لتجربة هذا الشاعر ذائع السيط وذي الشهرة اللامعة بولنديا، وسلافيا وعالميا، لافتا إلى أنه أحد الشعراء العالميين الذين رسخوا رؤى جمالية وفنية وتعبيرية خاصة. ويلفت إلى أنه قرأ روزيفيتش في أواسط التسعينات من القرن الماضي، بترجمة صافية ودقيقة من الشاعر هاتف الجنابي، الذي عرف كيف يغوص في مختبره وينقب في عالمه الشعري الذي يعرف بدقته العالية. شاعر مغامر تادؤوش روزيفيتش ولد في بلدة رادومسكو البولندية، في التاسع من أكتوبر العام 1921 رحل بعد صراع مع الحياة والشعر والكون والعالم في عام 2014، بعد حياة حافلة بالكتابة الشعرية والمسرحية والتنظيرية. ويؤكد هاشم شفيق أن هذه المختارات الصادرة عن مؤسسة أروقة للنشر “ثمينة ومشرقة تدلّ على إشراقة شعر روزيفيتش المثقل بالدلالات والصور والكنايات والمعاني المضيئة، تلك التي تضيء معطيات النص، وتضفي عليه لمسة فيروزية، لمسة الشعر الأصيل المبتكر والمُحدث، الشعر الذي يدفعنا إلى التأمل وتلمس مواطئ الدفء والإبحار في شواطئه غير المحدودة”. ويؤكد المترجم أن شعر روزيفيتش نهر وبحر وشلالات من الرموز والصور والإشارات، شعر يستجمع الذكريات المريرة، كالحروب التي مرتْ بها بولندا ولاقت ما لاقت على يد النازية من صنوف الدمار التي طالت البشرية، في طرائق التعذيب والقتل والمحو والحرق بأفران الغاز، فالنازية كانت عدوة للديمقراطيات والأنشطة اليسارية، وعدوة لحقوق المرأة وحقوق الإنسان، وعدوة للشعوب المحبة للسلام والعدل والحرية. روزيفيتش مترع بالفن التعبيري ومهووس بتطوير الأشكال الشعرية وبلورتها من جديد، لتظهر في رؤية مختلفة ومغايرة للمألوف روزيفيتش مترع بالفن التعبيري ومهووس بتطوير الأشكال الشعرية وبلورتها من جديد، لتظهر في رؤية مختلفة ومغايرة للمألوف ويقول إن “شعر روزيفيتش مترع بالنوايا السلميّة، ومترع بالفن التعبيري، ومهووس بتطوير الأشكال الشعرية وبلورتها من جديد، لتظهر في رؤية مختلفة ومغايرة للمألوف والعادي والمتعارف عليه، في لغة الشعر المستتبة حينذاك على قوالب موسيقية محدَّدة، فجاء روزيفيتش ليضيف ويُجدِّد في منحى الشعر البولندي والعالمي، مستلهما حركات التجديد الشعري في العالم، ومستوعبا التطوّرات والإضافات التي طرأت عليه في فترتي الخمسينات والستينيات من الألفية الفائتة، ومتابعا بعين الرائي، والشاعر العارف، والخبير بالفن الشعري الأنساق التي تتشكل عبر الحدود، مراقبا ما يجري من لألأة راحت تنير بأنوارها التخوم والبلدات البولونية. ويلفت هاشم شفيق إلى أن روزيفيتش كان شاعرا شبه عدمي، لا يأبه للمواجهة وصدم الذائقة العامة، وصدم الإعلام والنقد الأدبي والجو الشعري البولندي أيضا، بآرائه الأدبية والشعرية والفكرية والسياسية الجريئة والمتحدِّية، النازعة للجدل والحِجاج والمناظرة، لم يستسلم ويُهادن الأجنحة السياسية التي حكمت البلاد، فظلّ وفيا لذاته المبدعة وآرائه الجمالية وفكرته الناظرة إلى العالم بروح الشاعر الذي صقلته الحياة والفقد، منذ نشأته وحتى وفاته، بدءا بفقد أخيه الشاعر الشاب وهو في مطلع العشرينات، وفقدان بعض أصدقائه المُقرّبين، من بينهم أحد الشعراء الذين انتحروا بعد نهاية الحرب. كان روزيفيتش واحدا من الناجين من مجازر الحرب العالمية الثانية، تلك التي جرتْ على مسارح الأرض البولندية الدموية، وقد سجَّل بعض مشاهد تلك الحرب في ديوانه الأول “الاضطراب” حيث يتحدّث في قصيدة “الناجي” عن نجاته من المسلخ النازي، وهو في سن الرابعة والعشرين، بينما أصدقاؤه الكثر قد حصدتهم الحرب، ولم يبق له سوى الرماد والذكريات المدمرة والمؤلمة، تلك الذكريات التي ظلت تلاحقه بأشباح الحرب وطغيانها على مشاهد حياته اليومية، والجديدة بُعَيد نهاية الحرب. روزيفيتش انتسب مثل غيره من الشعراء والأدباء والمفكرين والفنانين والكتاب والصحافيين إلى المقاومة كما يحصل في أي ميليشيا وطنية، لكن حين تقع في سلسلة من الأخطاء لا يستطيع الشعر أن يتحمل وزرها أو يغض الطرف عنها أو يتجاهلها، استقال الشاعر وانسحب منها بعد مرور عام على انتمائه إلى جبهة المقاومة البولندية. قصيدة متفردة يكشف هاشم شفيق في قراءته لتجربة الشاعر أن قصيدة روزيفيتش تهتم بالعالم الحسّي وبالتفاصيل اليومية للكائن، وهو يعيش يوميات حياته، يراقب عن كثب الحالة الإنسانية، يحياها بعمق ويتشرَّبها بكل جوانحه ولوامسه وحواسه، ليجسِّدها في النهاية في قصيدة، وقصيدته غالبا، ومثل أي فن راق ورفيع وغير مسطح ونمطي وعادي، تنطوي على كمية من الغموض الموحي والدال والمُعبِّر وغير المُفصح والمُفسَّر والمكشوف، فقصيدته تشيح بوجهها أحيانا أمام من يتسارع نحوها لكشف نقابها، فقناعها لا يرفع بسهولة وإن رفع فلسوف يرفع ويزاح بأناة ودراية وصبر، الصبر على المختبئ والمتواري، والتائه في العروج والمتاهات والذرى. ويرى أن “كل قصيدة لروزيفيتش، عليك أن تقرأها عدة مرات لكي تفك مغالقها السرّية، فهي ليست قصيدة الواقعية الاشتراكية التي سادت حقبة في زمانه، بل هي قصيدة تتقلب بين الرموز والعلامات والحركات الإشارية ذات البعد الموحي والدال على الاكتناه العميق والتؤدة الجمالية. قد تبدو القصيدة للوهلة الأولى بسيطة وسهلة ومُحبة للاستقبال، وهذا الأمر كان يجري في بعض أعماله الأولى، القصيدة التي تماشي الكينونة الإنسانية وتصاحبها وتمدُّ اليدَ لها، لكن روزيفيتش القلق والمضطرب على صعيد الفن عامة، وليس الشعر فقط، لم يستسلم لأسلوب معيّن ويتخذه نهجا ونموجا وأسلوبا له، كون نظرته إلى الفن مختلفة ونازعة إلى تجاوز الماثل باتجاه الانقلاب والتغيير والتجدد. محطات شعرية نماذج من المختارات لون عينيها والأسئلة هل لحبيبي عينان زرقاوان وومضة فضّية؟ لا هل لحبيبيعينانِ عسليتانِ وشرارةٌ ذهبيّة؟ لا هل لحبيبيعينانِ سوداوانِ من دون ضياء؟ لا حبيبي يمتلكُ تينكَ العينينِ الرماديّتينِ اللتينِ سقطتا عليَّ مثل مطرٍ خريفيّ. الجبال الذهبية المرّة الأولى التي رأيتُ فيها الجبالَ كنتُ في السادسة والعشرين في حضرتها لم أضحك لم أصرخ إنما تكلمتُ بهمسٍ وحين عدتُ إلى البيتِ انتويتُ أنْ أخبرَ أمي ماذا كانت تشبه الجبالُ لكنّ ذلك كان صعبا عليّ فعله في الليل لأنّ كلَّ شيء يبدو مختلفا لما تحتويه الجبالُ والكلماتُ أمي كانت صامتةً ربما كانت متعبةً وبحاجةٍ إلى النوم القمرُ والجبلُ الذهبيُّ للناس المتواضعين حينذاك ذابا بين الغيوم. دعنا إنسنا إنسَ جيلنا، وعِشْ مثل الناس التي تتناسانا/ لقد حَسدْنا النباتاتِ والأحجارَ حسدنا الكلابَ لذا أُحبُّ أنْ أصيرَ جرذًا لقد أخبرتها بذلك لا أريد أنْ أكونَ شيئًا أريدُ أنْ أنامَ وحين أنهضُ أجد الحربَ قد انتهتْ قالت ذلك وهي مطبقةُ الجفنينِ إنسَ لا تستَعِدْ شبابكَ ودعنا من ذلك. يتوقف شفيق عند المحطات الشعرية الفنية التي مرت بها مسيرة روزيفيتش الشعرية، بداية بالمحطة الأولى “القصيدة ذات الإشراق الواقعي”، حيث انغمر روزيفيتش في كتابة القصيدة ذات المُسحة الواقعية، وكان ذلك في بكوريات أشعاره الأولى، حيث الجو الشعري والأدبي المحيط به، كان يقع تحت تأثير ما يعرف بالواقعية الاشتراكية في الأدب، وهي مرحلة ستالينية بامتياز، حيث سيطرت تلك المدرسة أو التيار على مجمل نتاج الحركة الأدبية والفنية والنقدية والشعرية، وعمَّت بطريقة لافتة كعدوى جُلّ البلدان الاشتراكية حينذاك، تشيكوسلوفاكيا، بلغاريا، يوغسلافيا، ألمانيا الشرقية، هنغاريا، ودول الاتحاد السوفييتي سابقا، مما عرَّض الأدباء والفنانين، إلى الانغماس في الروح الأدبية الدوغمائية. بعض الأدباء أخلص لهذا التيار، والبعض الآخر أخذ يتهرّب منه أو لجأ إلى الصمت وعدم المشاركة مع الجوقة، والانخراط في تيارات التبويق ورفع راية التأليه الستاليني، وتقديس أدب الطبقة العاملة، غوركي في الأدب ومايكوفسكي في الشعر، رغم تمرد الأخير وعنفوانه وشموخه ورفعته التي لم تتحمل ذلك، مما أدّتْ به إلى الانتحار، ليلحق به الشاعر يسنين الصامت والرافض والمطارد، بينما ظلّ يراوح ويتملص بطريقته الشعرية والحياتية الملتوية، الشاعر يفتشنكو، المنساق حينها رغم شاعريته الكبيرة والواضحة إلى التيّار الجماهيري، كنيرودا في أميركا اللاتينية، وأراغون في فرنسا، وهما شاعران كبيران وأكبر من كل تيار ومدرسة يمكن حصرهما فيهما، فالتمرد الشاعري كامن في دواخلهما، فروزيفيتش هو من هذه الجَبِلّة، مجبول على حس الخروج والرفض والتمرد والقلق وعدم الاستقرار على نسق بعينه أو نهج محدّد ومرسوم، فالقلق كان رفيقه الدائم، وليست مصادفة عابرة أن يسمي ديوانه الأول بـ”قلق” فهو شاعر قلِق وحيران وغير مرتاح وراض، حتى على الشعر كله. ثاني محطات روزيفيتش كانت “قصيدة النثر”، ففي الفترة التي باتت شبه مفتوحة على التيارات الأدبية العالمية، وراح العالم الحديث يتململ في أوروبا الشرقية، ظهرت حركات فنية عديدة، ومس لهب التجدّد القصيدة البولونية، فراح الشعراء الموهوبون الكبار، يجسِّدون الحداثة المرجوَّة، في شعرهم وأساليبهم ونماذجهم الحداثية الجديدة، وقد اقترب من هذا النفس الجديد الشعراء هربرت زيبينغ، وجيزواف ميووش الحائز على جائزة نوبل، وفيسوافا شمبورسكا جائزة نوبل أيضا، ومن ثم روزيفيتش اقترب من عوالم قصيدة النثر، تلك التي بدأها بودلير في ديوانه “سأم باريس”، والقصيدة الحرة، كتلك التي كان يكتبها ويتمان الأميركي وجسّدها في ديوانه “أوراق العشب”. بيد أن شاعرنا وهو شاعر يمتلك من الموهبة، مما يجعله في غنى عن طابع التماثل والتطابق مع الآخر إن صحّت العبارة، كان يتماهى ويتناجى ويستلهم الشكل المغاير للنمطي والمألوف، فأمسى يقترب من عالم قصيدة النثر والقصيدة الحرة ليكتبهما، ولكن بأسلوبه هو وبحسّه وبأجوائه وبطريقته الشعرية اللافتة فنيا. ثالثا نجد محطة “النص المفتوح” في تجربة روزيفيتش، فقد كان يميل إلى الابتكار والتجديد والمغايرة، وسعى في سنواته المتأخرة إلى كتابة النص المفتوح على الأشكال الفنية الأخرى، فأدخل القصيدة باكرا في التناص والغوص عميقا في مدار التنصيص ليتناص مع المسرح الذي يكتبه ومع القصة القصيرة، حيث بذل المزيد من الجهود التناصيّة، ليكون عمله الشعري مفتوحا على الفن التشكيلي والموسيقى والرقص والحكاية الموروثة. تحت ضوء هذا المسعى، دشّن الشاعر تجربته الأولى في هذا الفن، أي فن النص المفتوح في ديوانه اللامع “ترتيب لندوة شعرية”، وقد حفل هذا الديوان بنصوص مختلفة، معبّرة ومتضامّة مع بعضها، كان الشعر هو قائدها نحو الإضاءة وإنارة ما كان ينوي فعله من عمل جمالي في هذا الكتاب الشعري المفارق لنسقه الشعري المتعارف عليه، أصبح روزيفيتش بعد نصوص هذا الكتاب من أبرز رواد النص المفتوح، لا بل أصبح رائده، حسب الشاعر الذي قدمه إلى الإنجليزية آدم تشير نيوفسكي. أما المحطة الرابعة في تجربة الشاعر فكانت “القصيدة البيضاء”، فقد كتب الشاعر روزيفيتش خلال مرحلة الستينات وهي من أخصب فترات حياته الشعرية والفنية والجمالية، القصيدة البيضاء، ولقد شاعت عندنا في العالم العربي في فترة الثمانينات على يد بعض الشعراء اللبنانيين متأثرين بالقصيدة الفرنسية الجديدة. في تلك الفترة، أي فترة الستينيات، كان روزيفيتش يجرب جميع الأشكال الشعرية، ليخلص في النهاية إلى الشكل الذي يرتئيه، متخلصا بذلك من الطرق المستخدمة والمطروقة والمستهلكة، فرؤاه الواسعة ومطامحه التصويرية ونهجه النظري اللافت إلى المشاكلة والتغرُّب والاختلاف، هو ما أدى به إلى التفرد في أنواع الكتابة الشعرية، وجعله يبحث عن الثمرة الغريبة في حقل من الأثمار المتشابهة.
مشاركة :