ثقافة الوجاهة تتحدى عولمة التعليم الجامعي عربيا | أحمد حافظ | صحيفة العرب

  • 8/19/2020
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

أدخلت العديد من الدول تخصصات علمية حديثة ضمن ما توفره جامعاتها من تعليم، بما يجعل منه تعليما متماشيا مع روح العصر ومواكبا لمتطلبات سوق العمل التي تحتاج إلى التكنولوجيا الحديثة بكل تشعباتها. لكنّ هذا الأمر أصبح يشكل تحديا كبيرا للعديد من الحكومات لاسيما في المنطقة العربية التي لا تزال مجتمعاتها تتشبث بأفكار من قبيل “كليات القمة” التقليدية بسبب إشباعها للرغبة في امتلاك الوجاهة الاجتماعية، حيث تمثل هذه الثقافة أكبر العوائق أمام عولمة التعليم الجامعي بسبب رفض الإقبال على التخصصات الجامعية الحديثة. القاهرة – تصطدم طموحات الكثير من الحكومات العربية التي قررت الاستثمار في العقل البشري من خلال عصرنة التعليم الجامعي بالنظرة التقليدية للشهادة الجامعية والتعامل معها من منظور اجتماعي وطبقي بحت، ما ينعكس سلبا على فرص العمل مستقبلا ويعيق خطط بعض الحكومات في مجال التنمية ويهدر قدرات بشرية هائلة. وإذا حاورت بعضا من الشباب حول طبيعة الكليات التي يفضلون الالتحاق بها تأتي الإجابات سريعة ومتطابقة إلى حد بعيد، حيث تقتصر على ما يعرف بـ”كليات القمة”، وهي الطب والصيدلة والهندسة والإعلام والاقتصاد والعلوم السياسية والألسن، ناهيك عن كليات الشرطة والحربية، ومن النادر أن يتطرق أحدهم إلى الكليات العصرية مثل الذكاء الاصطناعي. وحين تتجه حكومة ما إلى إنشاء كليات معاصرة لمواكبة سوق العمل وتقليل الفجوة بين نظم التعليم التقليدية والتخصصات المطلوبة مستقبلا، نلاحظ أن هناك ندرة في الإقبال عليها رغم أنها قد تكون مجانية أو بمصروفات رمزية، في حين يزيد التهافت على الكليات النمطية التي أصبحت مصدرا أساسيا للبطالة. ورغم أن كليات القمة لم تعد كما كانت من حيث ضمان الوظيفة وتحقيق حلم المستوى الاجتماعي المتميز، مازالت تمثل عند أغلب الفئات الوسيلة الأهم للوجاهة باعتبار أنها تجلب الاحترام والتقدير لمن يلتحق بها، ويظهر أمام الجيران والأصدقاء والمعارف بصورة الشخص الذي يستحق الفخر. مكانة استثنائية محب الرافعي: المؤسسات تعاملت مع عولمة التعليم الجامعي كأن المجتمع كله يدرك احتياجات المستقبل ومطلع على التغيرات محب الرافعي: المؤسسات تعاملت مع عولمة التعليم الجامعي كأن المجتمع كله يدرك احتياجات المستقبل ومطلع على التغيرات يتوازى مع هذه القناعات تبرير بعض الشباب إهمال احتياجات سوق العمل بأن تعلم وامتهان حرفة غير تقليدية قد يعكس تدهور مستواهم التعليمي، في حين أن الكليات ذات السمعة والتاريخ والرمزية كفيلة بوضع الخريج في مكانة استثنائية، وهو تحدّ بالغ الصعوبة أمام الكثير من الحكومات التي تحاول عولمة الجامعات والاستثمار في العقل البشري لإنجاز التنمية. ويزداد التحدي المرتبط بتغيير ثقافة المجتمع تجاه التخصصات الجامعية عندما تتعامل أغلب الأسر مع التعليم عموما على أنه مجرد شهادة أو لقب أو “بريستيج”. والطالب الذي لم يحصل على مجموع يؤهله للدخول إلى كليات الطب، مثلا، يعني أنه فشل دراسيا، وإن التحق بكلية معاصرة أصبح سوق العمل في حاجة ملحة لخريجيها فإنه أيضا يصنف من الضعفاء علميا. يقود ذلك إلى أن التوجه الحكومي نحو عولمة التعليم الجامعي ليس ذا قيمة طالما أن الأغلبية غير مقتنعة بالفكرة، لغياب الوعي أو تحكم الأسر في اختيار تخصصات الأبناء، ما يعني أن البداية الحقيقية لعصرنة التعليم تبدأ بتغيير الثقافة تجاه الهدف من التعليم ونسف طريقة الالتحاق بالجامعات التي تقوم على التصنيف وفق المجموع، وتغليب مسألة القدرات والمهارات وتحديد التخصصات بناء على الاحتياجات. وتحدثت “العرب” مع ثلاثة طلاب حصلوا على شهادة الثانوية العامة (البكالوريا)، قبل أيام، وفي انتظار نتيجة تنسيق القبول بالجامعات، عندما سألتهم عن إمكانية الالتحاق بإحدى الكليات المعاصرة، مثل الذكاء الاصطناعي والنانو تكنولوجي وعلوم الفضاء، كانت الصدمة أنهم لا يعرفون عنها شيئا كما يصعب عليهم إقناع أسرهم بالتقدم إليها. يقول أحدهم، ويدعى عامر مصطفى، إن غالبية الطلاب يجهلون تفاصيل الدراسة والتخصص في الكليات المعاصرة ولا يعرفون طريقة النجاح فيها وبالتالي لا يغامرون بمستقبلهم، في حين أن الكليات التقليدية يسهل عبور امتحاناتها. ويضيف “الجميع في النهاية يصطفون في طوابير البطالة فلماذا يجازف البعض باختيار تخصصات شاذة لا يعرفها أحد؟”. يقود كلام عامر إلى فكرة تحمل الجهات الرسمية جزءا من المسؤولية، لأنها اكتفت بإنشاء كليات عصرية دون أن تقوم بحملة توعية تهدف إلى تعريف الناس بهويتها ومزاياها وفرصها المستقبلية وتغيّر قناعاتهم القديمة التي أصبحت مرتبطة بالعادات والتقاليد والطقوس الاجتماعية التي تربى عليها الشباب. عدم ارتباط المناهج في المدارس بالتخصصات الحديثة في الكليات معضلة كبرى أمام محاولة إقناع الطلاب بالانخراط في عولمة التعليم ويظل التحدي الأكبر أمام عولمة التعليم الجامعي أن هناك شريحة كبيرة يتملكها اليأس والإحباط من المستقبل، وتعتقد أنه مهما اجتهد الطالب أو امتلك مهارات نادرة والتحق بكلية عصرية حديثة قد يتساوى في النهاية مع الآخرين الذين يحصلون على الشهادات الجامعية ويتم توظيفهم بفضل نفوذ عائلاتهم وعلاقاتهم ودون اكتراث بطبيعة التخصص. ويرى محب الرافعي وزير التربية والتعليم المصري السابق، أن التحدي الصعب أمام أيّ حكومة تتعامل مع عصرنة التعليم الجامعي كمدخل لتحقيق التنمية المستدامة وتوطين الصناعات واللحاق بالتطورات العالمية في كل المجالات هو أن الشريحة المستهدفة مازالت ترفض الربط بين التخصص العلمي والوظيفة، وبعضها يعتبر التعليم مجرد فريضة. ويضيف لـ”العرب” أن المؤسسات التعليمية تتحمل جانبا كبيرا في مجال التحدي لأي تغيير يستهدف ضرب الثقافات والموروثات القديمة وما يرتبط بالتخصص الدراسي، لأنها تعاملت مع عولمة التعليم الجامعي كأن المجتمع كله قارئ جيد لاحتياجات المستقبل ومطلع على التغيرات السريعة في البلدان المتقدمة. ويوضح الرافعي أن الكثير من الدول العربية تفتقد فكرة المرشد الأكاديمي بالمدارس، الذي تكون مهمته تعريف الطلاب بالتخصصات العصرية وتحفيزهم على الالتحاق بها وضرب المعتقد التاريخي المتعلق بكليات القمة بحيث يعيد الشاب اكتشاف مهاراته وقدراته وعلى أساسها يختار التخصص، لا أن يستجيب لأسرته ويستسلم أمام إحباطه من المستقبل. النانو تكنولوجي يصعب على أيّ حكومة أن تقنع مجتمعا تتجاوز نسبة الأمية بين سكانه 35 في المئة، كما الحال في مصر، أن تخصصا جامعيا مثل النانو تكنولوجي أفضل بكثير من الطب والصيدلة، فثمة شريحة تربت على أن خريجي هذه الكليات من الصفوة وإن كان الشاب أكثر انفتاحا من أسرته فقد يواجه أزمة في إقناعها بأن معتقداتها خاطئة. من هؤلاء، أحمد ياسر الذي حصل على 96 في المئة في شعبة العلوم بالثانوية العامة العام الماضي، وكان يحلم بدخول كلية الذكاء الاصطناعي حتى يكون تخصصه مواكبا للثورة التكنولوجية في سوق العمل، لكنه أخفق في إقناع والده لدرجة أن الأب هدده بعدم الإنفاق على تعليمه إذا لم يلتحق بكلية الهندسة ليصبح “باش مهندس”. وأشار الشاب إلى أنه حاول مرارا تغيير قرار والده والاستعانة بمقطع فيديو سابق للرئيس المصري عبدالفتاح السيسي وهو يتحدث عن مزايا الذكاء الاصطناعي وكيف أصبح تخصصا مطلوبا في سوق العمل، لكن الأب تمسك بموقفه بذريعة أن المهندس واجهة مشرفة لعائلته ودليل دامغ على تفوقه الدراسي. إبعاد الأهل عن التحكم في المستقبل الجامعي للأبناء إبعاد الأهل عن التحكم في المستقبل الجامعي للأبناء ما يلفت الانتباه أن نقابات الصيدلة والمهندسين وطب الأسنان والعلاج الطبيعي في مصر قالت إنها ليست بحاجة لخريجين جدد قبل 5 سنوات، لكن ذلك لم يغيّر من قرار العائلات شيئا أي أن سوق العمل على موعد مع مئات الآلاف من العاطلين سيضافون لملايين موجودين حاليا. المفارقة هنا، أن تجد الآباء والشباب الذين يفضلون الكليات التقليدية شغوفون بالتطورات المتسارعة في الدول المتقدمة ويتابعون أحدث التطورات ويحلمون بأن يصل بلدهم إلى نفس المستوى من حيث الثورة التكنولوجية والمعرفية والتخطيط للمستقبل باحترافية، لكنهم في نفس الوقت يرفضون التخلي عن التقليد الأعمى وتفضيل التخصصات التي عفا عنها الزمن. مشكلة بعض الحكومات أنها لم تعالج مخاوف مجتمعاتها من تطوير التعليم بشكل يجعل الناس يؤمنون بحتمية التغيير كمدخل للنهضة والتنمية واللحاق بالدول المتحضرة، حتى صار الناس يخشون الفشل من تجارب تحسين جودة ومخرجات التعليم قبل دعم نجاح القرارات التي تستهدف توظيف القدرات البشرية وفق متطلبات المستقبل. بعكس البلدان المتقدمة، فكل اهتمام سكانها ينصب على التطوير ومواكبة العصر دون الخوف من الفشل، وتراهم يقتحمون تخصصات علمية نادرة يتماهى معها الناس، لثقتهم في صانع القرار، أما المجتمعات الشرقية فلا تكل عن مقاومة الحداثة بتوسيع استخدام التكنولوجيا رغم إدمانهم لها، ولا يريدون التعامل معها في التعليم. لدى المجتمع المصري مثلا ثقافة متجذرة تجاه التعليم الفني والأغلبية تنظر إلى من يلتحقون به على أنهم من الفاشلين دراسيا وأخلاقياتهم متدنية، لأن طلابه من أصحاب المجاميع الضعيفة، ومع أن الحكومة أدخلت تخصصات معاصرة أغلبها تكنولوجية متطورة تتناسب مع الوظائف التي يحتاجها سوق العمل لم تتغير النظرة الدونية. وعندما أرادت الحكومة كسر هذه العقدة لجأت إلى إلغاء الأقسام القديمة واستبدلتها بأخرى معاصرة يلتحق بها المتميزون، وربطت كل تخصص بوظيفة، ثم أنشأت كليات تكنولوجية للمتفوقين في المدارس الفنية، وتجاوزت الدولة التحدي بتغيير النظرة للتخصص الدراسي نفسه، وتجاوب المجتمع مع التطوير. وتقترح بعض الآراء أن تعبر الحكومة التحدي على المستوى الجامعي بذات الطريقة، من خلال تحجيم الالتحاق بالكليات التي لم يعد سوق العمل في حاجة إليها أو إلغائها، حتى تكون التخصصات المعاصرة البديل الوحيد أمام الراغبين في استكمال مرحلة التعليم الجامعي بما يتناسب مع احتياجات المستقبل. ويقول هؤلاء إن عولمة الجامعات لن تتحقق طالما أن الاختيار بين الماضي والمستقبل في يد المجتمع، ولا بد من وجود إرادة تجبر الناس على إعادة النظر في قراراتهم المرهونة بالثقافة القديمة، وتضعهم العصرنة كخيار وحيد، ويصبح التخصص الدراسي الحديث أساس التعلم. إعادة تثقيف وتأهيل اختيار الكلية حق مكتسب للأبناء البداية الحقيقية لعصرنة التعليم تبدأ بتغيير الثقافة تجاه الهدف من التعليم بات من المطلوب تغيير أولويات الأجيال المعاصرة ونظرتها للتعليم وسوق العمل، بحيث تكون هناك حملات إعلامية تعرفها بمزايا التخصصات المعاصرة، وإعادة تأهيل وتثقيف الأهالي أنفسهم بأن اختيار الكلية حق مكتسب للأبناء، لأن ذلك يرتبط بقدراتهم ومهاراتهم وطموحاتهم ومدى توافقهم فكريا مع مستواها الأكاديمي. وفي حال استمر جهل البعض بحتمية التعايش مع عولمة الجامعات، فإن تحديد التخصص سيظل أسيرا لرؤى وترشيحات دائرة الأقارب والمعارف، في ظل معاناة كثيرين من عقدة الدرجات والطبقية. هذا طبيب، وذاك صيدلي، ما يجعل العشوائية متحكمة في قرارات الناس بعيدا عن متطلبات العصر، الأمر الذي يفرض تحديا كبيرا، يجبر الدول العربية على تهيئة المجال لتغيير أنماط التفكير. وتتحمل بعض الحكومات جانبا كبيرا من المسؤولية، من زاوية المزايا التي توفرها لبعض الفئات النمطية ولا توفرها للتخصصات العصرية، ولذلك تجد ما تطالب به من حداثة يذهب من الناحية الأخرى بسبب نمطية أجهزتها، فما لم تقدم حوافز مستحقة لهؤلاء مساوية أو أكثر سوف يستمر الرفض المجتمعي. وقد يصل بالبعض الحال أن يتجاهلوا الالتحاق بمعهد متقدم وعصري وفرص توظيفه متاحة، ويختارون الحصول على البكالوريوس في كلية عادية ليس لها مستقبل علمي، لمجرد أنهم سوف يلتحقون بالجيش أو الشرطة لسنة واحدة، ويعملون بنفس تخصصاتهم، ضمن فئة تسمى في مصر “الضباط المتخصصون”. أكد وائل كامل، وهو أكاديمي وباحث تربوي بجامعة حلوان جنوب القاهرة، أن أكبر التحديات التي تواجه أيّ حكومة تخطط لعصرنة التخصصات الدراسية أن غالبية الأجيال الجديدة شغوفة باستسهال التعلم والالتحاق بأقسام علمية قديمة، لأن النجاح فيها طريقته محفوظة للجميع، أما الحديثة فهي غامضة للأهل والشباب وفرص عبورها محفوفة بالمخاطر. وأوضح أن عدم ارتباط المناهج في المدارس بالتخصصات الحديثة في الكليات معضلة كبرى أمام محاولة إقناع الطلاب بالانخراط في عولمة التعليم، فكيف نقنع من تعلم لسنوات مناهج تخاطب الماضي، بأن يلتحق في تخصص جامعي يلائم المستقبل؟ هناك حلقة مفقودة يجب معالجتها أولا قبل نشر ثقافة التعليم العصري. وقررت وزارة التربية والتعليم المصرية إلغاء مادة الكمبيوتر في المدارس لعدم جدواها، وفي نفس الوقت تطالب الحكومة خريجي البكالوريا بالتركيز على كليات الذكاء الاصطناعي، مع أن التخصص التكنولوجي غير معترف به في مرحلة التعليم ما قبل الجامعي، ولم يتم تمهيد الطالب ليتعايش مع منهج يُواكب الثورة المعرفية. وبغض النظر عن إمكانية عبور كل هذه التحديات الدقيقة، تظل طريقة الالتحاق بالكليات نفسها مثيرة للريبة، ففي مصر قد تتسبب نصف درجة في تغيير مسار الطالب جامعيا، بحكم أن مكتب التنسيق يحدد المقبولين وفق المجموع، ما يعني أن الفئة التي يستهويها التخصص العصري قد تُستبعد ولو امتلكت مهارات وقدرات تؤهلها للنجاح بجدارة. يفرض هذا الواقع، أن تُغيّر الحكومات آلية الالتحاق بالتخصصات العلمية أولا، ليتم اختيار المتقدمين للكليات على أساس قدراتهم وليس درجاتهم، بحيث يتم إبعاد الأهل عن التحكم في المستقبل الجامعي للأبناء، ويتناسب خريجو كل تخصص مع الفرص المتاحة بسوق العمل، كمدخل للحد من تضخيم معدلات البطالة بالمجتمع.

مشاركة :