هشّم رصاص قاتل مجهول وجه مستشار مكافحة الإرهاب في العراق، الباحث هشام الهاشمي، وهو يغادر مبنى أحد التلفزيونات المحلية إثر ظهور أخير له على الشاشة معلّقا على الوضع السياسي الذي آلت إليه حكومة بغداد في ظل الانقسام الطائفي والاستقطاب السياسي اللذين يعاني منهما البلد منذ العام 2003، وهو لم يبرأ منه حتى تاريخ كتابة هذه السطور. وكان الهاشمي قد غرّد قبيل أن يتوجّه إليه رجل مسلّح ببندقيته عبر نافذة سيارته وهو خلف المقود ليرديه قتيلا، كتب في تغريدة أخيرة “تأكّدتْ الانقسامات العراقية بعرف المحاصصة الذي جاء به الاحتلال بين شيعة وسنة وكرد وتركمان وأقليات، وبالأحزاب المسيطرة الشيعية والسنية والكردية والتركمانية التي أرادت تأكيد مكاسبها عبر الانقسام، وبالأحزاب الدينية التي استبدلت التنافس الحزبي بالطائفي”. منطق الإلغاء الذي أودى بحياة الهاشمي ليس ثقافة مستجدّة في العراق ومحيطه الجغرافي الذي يغلي على نار مرجل ابتداء من القامشلي وإدلب وصولا إلى مرفأ بيروت، بل هو نتاج تراكمات تاريخية عززتها ولادات قيصرية عسيرة لأحزاب ومجموعات طائفية عنيفة ومتطرفة تدين لعرف انتمائها المذهبي وليس إلى القانون والدولة. لم تكن حروب الولايات المتحدة الأميركية الارتجالية في الشرق الأوسط، ثم انسحابها من التزاماتها الأخلاقية مخلّفة وراءها كمّا هائلا من صنوف الفوضى السياسية والإرهاق المجتمعي، وحدها المسؤولة عن مآلات تلك الحروب التي أسرعت إليها واشنطن إثر هجمات الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية في العام 2001 على أراضيها، بل إن الشرق الأوسط بأسره كان في حالة من الاستقطاب، والحرج، وترقّب للقادم الأسوأ، منذ وصول المتطرفين من أصحاب السود من العمامات في إيران إلى سدّة الحكم العام 1979، وتسيّد شريعة الولي الفقيه وانقضاضها على الحكم لأول مرة في التاريخ السياسي للمنطقة، وبمساعدة ودعم غربيين لا يمكن تجاهلهما البتة. من نافلة القول أن الفهم الغربي القاصر لظروف الشرق الأوسط الجيوسياسية، ولتاريخ الأنظمة التوتاليرية فيه وما خلّفته من أنقاض جمهوريات لا مؤسسات فيها سوى مؤسسة بيت الدكتاتور، من جهة، ولحال شعوبها – فريسة الإحباط والانكماش- خارجة لتوّها من عسف أنظمة قابضة أمعنت في تجهيل وتضليل رعاياها لتبقى في حالة تفرّد أبديّ بالسلطة والنفوذ والموارد، من جهة أخرى، قد أودى إلى قرارات خاطئة اتخذتها الدول المتدخّلة والنافذة صاحبة الجيوش القابعة على الأرض وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية. فمنذ اقتلاع نظام صدّام حسين انتهجت إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش الابن سياسة طائشة وانفعالية في الاستجابة للفراغ السياسي الذي أحدثه سقوط أعمدة حكم فاشي منخور الأطراف في العراق. ارتأت واشنطن في حينها أن يكون البديل هو النقيض العقائدي لعدوها اللدود صدام حسين، متعامية عن الدور الذي كان من الممكن أن تضطلع به القوى التنويرية والمدنية الديمقراطية كبديل ورافع للبلاد في تلك المرحلة الدقيقة من التعافي السياسي والمجتمعي، وكان هذا أسّ قصور الرؤية والتدبير السياسي في واشنطن. لجأت الإدارة الأميركية المرتبكة إثر السقوط المدوي لصدام ونظامه الذي كان الأسرع والأكثر درامية من المتوقّع، إلى النقيض الطائفي القابع على الحدود الشرقية للعراق منتظرا لحظة الانتقام الأعظم. سلّمت واشنطن مفاتيح بغداد لقوى سياسية تدين للولي الفقيه بالفطرة السياسية، لتبدأ على الفور حملاتها في نفث أسباب الفرقة والانقسام بين آل البيت الواحد على مرجعية الهوية المذهبية، وكان بالنسبة لتلك القوى المتعصبة الطريق الأقصر والأسهل لتحكم البلاد على أنقاض مظالم الدكتاتور الزائل وبعثه الشوفيني المنفرط. صورة الشرق في ذهنية الحكومات المتعاقبة على أروقة البيت الأبيض، لم تكن لتنضج بعد لتعكس على مرآتها بجلاء صور أهل الفكر والسياسة والعلم من الطبقات المتوسطة المتعلمة والمعتدلة التي تعتقد أن “الدين لله والوطن للجميع”، وهم الأقدر على ردع ارتدادات الفوضى التي يخلّفها تهاوي أنظمة الحكم الشمولية في غير بلد عربي، وسوريا ليست بالمثال البعيد. فسوريا القابعة منذ نصف قرن ونيف تحت مقصلة حكم البعث السوري وبعثييه، لم تستطع إثر تسع سنوات من الحرب الشرسة أن تصل إلى مبتغى ثورتها وثوارها من المدنيين العزل الذين خرجوا بشعارات مدنية أيضا لا رموز فيها للإقصاء أو الثأر الطائفي أو التصفية على الهوية السياسية. ثورة السوريين قامت على مبادئ سامية للحرية والكرامة والعدالة الإنسانية، وهي لا تفترق في نبل مقصدها عن ثورات التحرّر في العالم، ولا تنأى في عمقها الإنساني عما كتبه الآباء المؤسسون للولايات المتحدة في دستورهم العريق الذي يقارب وثيقة تاريخية تكاد تكون من أهم ما أنتجت وصدّرت الولايات المتحدة إلى الشعوب، وما زالت بصماته تظهر ساطعة على معظم دساتير الديمقراطيات في العالم. وقد خطّ واضع الدستور وأحد المؤسسين للنظام السياسي الجمهوري الديمقراطي توماس جيفرسن على هوامشه عبارة “من المستحيل ألا نشعر بأن عملنا مسخّر من أجل الإنسانية جمعاء”. قصور الرؤيا الغربية بعامّة، والأميركية بشكل خاص، التي ضلّت الطريق في سعيها نحو إيجاد بدائل شرعية عن الأنظمة الأوريغالكية إثر ثورات التحرر الشعبية في العالم العربي، هو المحرّض في استعار النار الغافية تحت رماد 1400 عام من الافتراق المذهبي في الإسلام. وكان في تأجيج هذه الصدامات المذهبية نوع من الإيقاظ غير المتعمّد للفتنة النائمة. وها هي واشنطن تزرع بيدها بيضة أفعى إيران في العراق ليتمدّد السم الزعاف إلى سوريا ولبنان، والذي لن تكون خاتمته الحزينة اغتيال الهاشمي وانفجار مرفأ بيروت البتة. حروب أميركا النزقة في الشرق الأوسط التي يحاول الرئيس الحالي دونالد ترامب الانسحاب من جرحها المفتوح، كانت بمجملها وصفة لخسائر مزمنة، ليس فقط لسمعة ومصداقية الولايات المتحدة وحلفائها في العالم، بل للشعوب التي دفعت الثمن الأغلى في محاولة الخروج من عنق زجاجة الاستبداد طويل الأمد، لتجد نفسها في عمق انفجار طائفي له حجم الدمار الذي أحدثه تخزين نترات الأمونيوم إلى جوار إهراءات قمح حاضرة الشرق الأوسط العاصمة الشهيدة بيروت. فهل تبدّدت آمال التحرّر من الاستبدادين العسكري والطائفي في دول الثورات العربية وعلى يد حلفاء وداعمي هذه الثورات هذه المرة وعلى رأسهم الولايات المتحدة، أم أن صحوة تنتاب العقل العالمي ستسمح بولادة فجر جديد ونظيف لا دخان فيه ولا أشلاء أحلام ولا ركام مدن!
مشاركة :