عندما كان مجلس الأمن الدولي يناقش مسألة اتخاذ قرار بشأن حظر تصدير واستيراد السلاح من وإلى إيران، وامتناع المجلس عن تمديد الحظر، في خطوة وصفتها الخارجية الإيرانية بالانتصار الدبلوماسي على واشنطن، كانت طهران تعمل على إطلاق صاروخين باليستيين محليي الصنع حملا اسمي قائد فيلق القدس السابق في الحرس الثوري قاسم سليماني والقيادي في الحشد الشعبي العراقي أبومهدي المهندس اللذين قتلا في غارة أميركية نوعية استهدفتهما قرب مطار بغداد. المناورة العسكرية للصواريخ الباليستية التي انطلقت من مخبئها في باطن الأرض في موقع صحراوي، تأتي في مرحلة دقيقة يتصاعد فيها التوتر بين واشنطن وطهران منذ الانسحاب الأميركي الأحادي من الاتفاق النووي في العام 2018 وإعادة فرض العقوبات على نظام العمامات السود في إيران. التصويت الروسي والصيني ضد مشروع واشنطن في مجلس الأمن لتمديد حظر التسلح على إيران يطرح العديد من إشارات الاستفهام حول طبيعة العلاقة التي تدفع موسكو وبكين إلى دعم حاسم لطهران في المحافل الدولية، والتساؤل بشأن مستقبل العلاقة بين دول الشرق المتعاظمة في نفوذها مقابل الولايات المتحدة، وقد شهدنا كيف تخلت الدول الأوروبية الكبرى عن دعم مشروع قرارها في مجلس الأمن ما أدى إلى سقوطه. وفي الوقت عينه، هل الانتصار الدبلوماسي الإيراني هو انتصار طويل المدى وسيكون مؤثرا وفاعلا باتجاه فتح أبواب التسلح أمامها على عرضها دونما حسيب ولا رقيب؟ أم أن واشنطن تستجمع أوراقها وحيثياتها القانونية من أجل نقض قرار مجلس الأمن وتحويل “الانتصار” الإيراني إلى وهم، و”تصفير” تلك البهجة المؤقتة لملالي طهران وحرسها الثوري مثلما تمكنت من تصفير صادرات نفطها وملاحقة المخالفات للشركات التي تهرّب النفط الإيراني في البحار ومنعها من الوصول إلى منتهى رحلتها كما فعلت في الناقلات المتوجهة إلى فنزويلا مؤخرا في أكبر عملية تشهدها مصادرات النفط في المياه الدولية؟ وللإجابة على هذه الأسئلة لا بد من مراجعة العلاقة المتوترة بين موسكو وبكين من جهة، وواشنطن من جهة أخرى، وذلك في محصلة من التعقيدات السياسية في ملفات عدة أهمها توسع النفوذ الروسي في دول الشرق الأوسط على حساب المعسكر الغربي ولاسيما في دولتين مفتاحيّتين هما سوريا وليبيا، إضافة إلى المواجهات المتواصلة مع بكين في ملفات حروب التكنولوجيا وقوانين التجارة وحقوق الإنسان وكلها ملفات شائكة ومتداخلة وجدت كل من الصين وروسيا طريقًا سريعا تسلكانه للنَّيل من الولايات المتحدة يتمثّل في دعمهما لعدوها اللدود: إيران، ودخولهما في تحالفات متعددة الأوجه معها على مبدأ عدو عدوي هو حُكمًا صديقي! أما عن القيمة الفعلية لقرار مجلس الأمن في رفع حظر التسلح عن طهران فهو قد لا يساوي ثمن الحبر الذي كتب به، وذلك يعود إلى أسباب موضوعية تتعلق بالحالة الاقتصادية المتراجعة التي تعيشها إيران عمومًا، والحصار الاقتصادي الذي تفرضه عليها واشنطن والآخذ في التصاعد يومًا بعد يوم. فإيران تعاني من حالة اقتصادية لا تسمح لها بالتفكير أبعد من تأمين الحاجات اليومية والمعيشية لمواطنيها في ظل انقباض الموارد وشح العائدات ولاسيما عائدات النفط؛ فما بالكم حين يصل الأمر إلى دفع مبالغ هائلة من خزينتها بهدف عقد صفقات أسلحة متطورة ستحتاج إلى دفعات مالية فورية ولو كانت قادمة من حليف. على أي حال، لن تكون الحقيبة المالية الإيرانية شبه فارغة ما سيمنع موسكو وبكين من تزويدها بأسلحة إستراتيجية وحسب، بل إن العقيدة السياسية الشيوعية للبلدين التي تقف على مفترق الطريق من حكم ثيوقراطي متشدد في طهران ستكون سببًا رئيسًا للتفكير مرارًا قبل توريد السلاح الحديث لدولة إقليمية على نقيض عقائدي من البلدين. كما تبدو موسكو أكثر تحفّظًا في هذا الأمر من بكين نظرًا للعلاقات التي تربط النظام الإيراني وحركة طالبان الأفغانية التي تعتبر تاريخيًّا أشد أعداء النظام الدوغمائي الروسي والحاجز الأصم في وجه تمدّد عقيدته الفكرية والسياسية. فصل المقال يكمن في المناورات التي تجيدها موسكو وسياستها المتمرسة في إدارة كل الأوراق التي تملكها لتكون عاملاً حاسما في معاركها الدبلوماسية والسياسية مع واشنطن. ما يؤكّد أن فلاديمير بوتين سارع، إثر جلسة مجلس الأمن التي حُسمت لصالح طهران، للدعوة إلى اجتماع مباشر مع الولايات المتحدة لمناقشة الوضع في إيران بعيدًا عن قبّة مجلس الأمن في وقت يشحّ فيه الأكسجين عن طهران وقد وصلت خسائرها جراء العقوبات الأميركية مع نهاية العام 2019 إلى ما يقارب 50 مليار دولار، ما يجعلها ورقة تفاوضية قوية بيد موسكو في القضايا المعلقة مع الخصم الأميركي.
مشاركة :