بوعركي: رواية «الغريب» توغلٌ في غربة الإنسان بمشارط فلسفية ونفسية وعقائدية

  • 8/22/2020
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

يجد نفسه «بين زخم الواقع والكلمة»، إذ تتجلى شخصيته بكل وضوحها لأولئك الذين سيقرأونها ما بين سطور كلماته وكتاباته، فهي كما يقول «جزء لا يتناءى عن تفاصيل حياتي، وعلاقتها بالآخر»، ذلك الآخر الذي يشغله همه، وحلمه، وتوقه للحياة، فهذه الشخصية ألفت الكلمات، وتعاملت معها بكل تفاصيلها من خلال مسيرة صحفية، أدركت بأنها «شخصية مفعمة بالكثير من المفارقات الثقافية» التي هي بمنزلة محطات «ربما فرضها المتغير الاجتماعي والسياسي في مجتمعاتنا العربية»، لتشكل «مادة أدبية نابضة».كريم خليفة بوعركي اسم نشط مؤخرًا في مجال التأليف والإصدارات، فهو إلى جانب كونه صحفيًا دخل مجال الأدب ببعض إصدارته القصصية وقصائده النثرية، إلى جانب الروائية التي خاض غمارها مؤخرًا. كتب خلال مسيرته في العديد من المطبوعات المحلية، منها عمود في «مجلة بانوراما» تحت عنوان «حوار الأسئلة»، والذي سيجمع فيما بعد ليصدر في كتاب يحمل ذات العنوان، كما كان يكتب عمودًا في «صحيفة الأيام» تحت عنوان «نقاط وحروف»، وقد أجرى طوال مشواره الصحافي العديد من الحوارات الصحافية.من هذا الفضاء المشبع بالكلمات، إلى فضاء الإصدارات التي بدأها منذ زمن ليس بالبعيد، إذ أصدر باكورة إصداراته المعنون بـ«الوجه الآخر؛ حوارات إنسانية» في العام (2007)، تلاه «حوار الأسئلة»، ثم «لو تعلمون» الذي يضم مجموعة من القصائد النثرية والقصص القصيرة، ليدخل بعدها في مجال كتابة السيرة عبر كتاب «التحديات والمستقبل.. جواد حبيب الخياط»، منتقلاً إلى مجال ليس بالبعيد، وهو مجال الرواية، الذي شرع دخوله هذا العام (2020) عندما أصدر روايته الأولى «الغريب»، والتي يعتزم إصدار جزء ثانٍ لها بعنوان «العاشق». فعن هذا الوجود في الفضاء الروائي، وباكورته الروائية، يدور هذا الحوار:] خضت مؤخرًا تجربة الكتابة الروائية التي نتج عنها باكورتك «الغريب»، وقد سبق لك الكتابة في مجالات القصيدة النثرية والقصص القصيرة، فما الذي دعاك لهذا الجنوح نحو جنس الرواية؟الرواية ليست جنسًا أدبيًا فحسب، إنها كائن حي يستوعب كل مقومات الحياة؛ الماضي، والحاضر، والمستقبل. الرواية هي كل تلك الجهات، وهي الذات الإنسانية المكتنزة بالتجارب، والحب، والسلام.. إنها الرسالة التي تتجاوز الحدث، والنهايات السعيدة، أو التعيسة، فحين أكتبها، أتطلع إلى بنائها من جوانب إنسانية، كرسالة تستوعب الإنسان بكل ألوانه العرقية، وأطيافه الفكرية والمعرفية.وقد دعاني لتجربة هذا الفضاء الرحب ما حدث مؤخرًا، فقد فرضت جائحة «كورونا» البقاء في المنزل، ليكون خيار الكتابة الروائية خيارًا منطقيًا بالنسبة لي، إذ تجلّت أمامي غربة الإنسان على هذه الأرض، وكم هو غريب حتى وهو بين أهله، تحاصره جدران بيته التي تشكل في حقيقتها جزئية واحدة من حقائق التغرب الإنساني في غمرة هذه الحياة. آنذاك، قررت الشروع في كتابة الرواية، لأخلص لباكورتي «الغريب» التي صدرت مؤخرًا، والتي جاءت، كما أردتها تمامًا، بعيدةً عن الشكل الروائي والبناء الدارج، إذ أعتقد بأن الرواية ليس لها بناء جامد، كما يريد بعض المثقفين العرب، وليست الرواية كتابًا سماويًا، إنها بكل إيجاز: تفاصيل فكرية، ومعرفية، وفلسفية، تجنح في بنيتها إلى عالم إنساني مغمور بالتجربة، والمفارقات التي يستشعرها الإنسان في خضم معاناته.. إنها تعبير صادق عن كنه الذات الإنسانية وما تفيض به من مخزون لا بد له أن يجد كوّة إلى مساحات ذلك الأفق اللامتناهي.] إذًا هي رواية عن الاغتراب الإنساني، ذلك الذي أفصحت عن مدياته هذه الجائحة، أو هكذا رأيت أنت، إذ تبدأ الرواية بـ«أنا سعيد. هذا هو اسمي. قدري دائم التوجس. الحب والسلام، منقبتان في كينونتي»، فكيف تلخص لنا روايتك وأحداثها بشكل موجز؟تتجلى أحداث رواية «الغريب» من خلال بطلها (سعيد) الذي يمر بتقاطعات الحياة المجسدة لواقع الاغتراب، فمنذ الوهلة الأولى يعرف نفسه كما ذكرت «أنا سعيد...» ثم يواصل في الكشف عن هويته التي من الممكن أن تستبدل بهوية كثير من البشر في أرجاء الأرض، لتحل مكان ذات سعيد أو ذات هذا «الغريب»، الذي أنطقته ضرورات الحياة، وتقلباتها.. يقول في بداية الرواية «أنا الجرم الصغير. أنا الإنسان الذي تاه في هذا الصخب التكويني.. وهذا اللامتناهي من المتحرك، الذي يمور في السماوات والأرض»، إذ تتكشف هنا أصل الغربة، ثم تتصاعد وتيرتها حين يفقد الأرض التي نبت منها، كما ينبت الفسيل في باطنها، ليجد ذاته الإنسانية في لحظة ما، خارج دائرة القيمة التي جبلت بالفطرة، فالإنسان أغلى الموجودات، بيد أن الحياة المعاصرة تحيله إلى الشتات، بكل ما لهذا المصطلح من معنى.. فتتواتر الأحداث، وتجر الأقدار بعضها، وفي النهاية، تتحقق قيمة سعيد الإنسانية، عبر الالتقاء بالآخر. ومن خلال كلمات ثلاث تستطيع استشراف المدى البعيد للحياة، وتلك الحدود التي تفصل بين زمنين، إذ تتداخل اللحظة في اللحظة، وينكشف الغطاء، ويقرأ سعيد مختزل العمر كله في تلك الكلمات الثلاث.] ترتسم في روايتك ملامح العديد من المجتمعات والمناطق، فنجد القرية بتفاصيلها، وصولاً لمخيمات الفلسطينيين، إلى جانب أسماء عوائل حقيقية.. أتسرد في هذه الرواية سيرتك الذاتية بأمانة رواية السيرة، أم أنها سيرة ذاتية روائية تمزج الواقع بالخيال لخدمة السرد الأدبي؟ليست هي سيرة ذاتية بالتأكيد، هي واقع يزخر بالحركة، إنها الحياة البشرية! يمكنك القول إنها ليست خلاصة انعكاس لواقع محلي في مكان وزمان محددين، إذ إنك ستجد هذا الواقع على سطح الأرض في مختلف المدن والأرياف، فالإنسان هو الإنسان، وسعيد، هو ذلك النبض الذي يخفق، ويتوجع، وهو يرى ويسمع ويتفاعل بكل جوارحه، في الوطن، كما في الغربة. إنه صادق بتوجعه لكل ما يوجع الإنسان في كل مكان، وقد تغرب لدافع، لكنه اصطدم بمفارقة سيجدها في كل مكان يكون فيه، والتي سيدركها القارئ في كل مفاصل الرواية.إن الرواية -كما أكدت سلفًا- ليست قالبًا جامدًا، أضع فيه ما أشاء ليعطيني كتابًا جاهز الشكل والمضمون، إنها -في اعتقادي- قبل كل شيء تكوين ثقافي، وفكري، ومعرفي، وفلسفي أيضًا، وهي خلاصة تجارب ومحطات إنسانية تستحضر كل مكونات الذات الإنسانية دون مداهنة أو رياء، وذلك حتى يكون الروائي أهلاً لذات القارئ الإنسانية في بحثها الدائم عن الحقيقة!] أهذا ما جعلك تسهب أحيانًا في تسجيل آرائك الفكرية، خارجًا من إطار السرد الأدبي، إلى إطار الكتابات المقالية، وكأنك حريص على أن تبيّن مواقفك الفكرية، متمسكًا بوضوح الفكرة على حساب البناء السردي؟سؤال جدير بالاهتمام. نعم، هذا هو منهجي في الكتابة الأدبية، فلو عدنا لكتابي «لو تعلمون» سنجد حقائق فكرية ومعرفية وفلسفية تتداخل كأنها هي ذاتها المرتكزات التي أعول عليها في البناء الأدبي، فأنا أجد ضالتي في هذا النهج، مبتعدًا عن المألوف، جامحًا في صياغة عمل روائي مختلف في الشكل والمضمون، ساعيًا لأن يكون أدبًا إنسانيًا حقيقيًا، وربما سيتبلور هذا المنهج، بشكل أكثر كثافة، في ما أسعى إلى طرحه كجزء ثان لرواية «الغريب».إن النتاج الأدبي يرتكز على بعدين جوهريين؛ البعد الذاتي والبعد الاجتماعي، فليس ثمة إبداع أدبي يجيء من خارج الحياة والتفاعلات المختلفة مع صخبها وتقلباتها ومتغيراتها. لهذا أنا مؤمن بأن الكتابة ليست ترفًا، إنما هي تعبير صادق عن مكنون الذات، بتفاعلها مع الموضوعي في المحيط الاجتماعي وما يمور فيه، وإن الإسهاب، وتفريغ محزون الذات في العمل الأدبي، يمثل الشريان الرئيس الذي يضخ إلى جسد الآخر (القارئ).] تفيض روايتك بالنقد للعديد من الظواهر التي تؤدي إلى نتائج سيئة على المجتمع ككل، كما نجدك تصيغ عبارات في مناصرة حق المرأة الإنساني، والسخرية من نظرة بعض الرجال إليها بوصفها أداة لإشباع الغرائز.. حدثنا عن أبرز ما تقف عنده من ظواهر تؤدي إلى نتائج سيئة على المجتمع كما تطرقت إليها في الرواية؟ المبادئ الأساسية التي نتفق عليها ترتكز حول ضرورة أن يعم الخير، والحب، والسلام بين بني البشر، وأن تلغى كل أشكال البغضاء، والكراهية، وأن تتوقف الحروب، والإبادات على هذا الكوكب، هذه بعض الأمور التي أتطرق لها في رواية «الغريب»، فحياتنا اليومية صورة بشعة لتلك الأحداث الكبرى التي تحدث في العالم من حولنا، تلك التي تنتجها ثقافة الكراهية، وتعززها الحروب.أما على صعيد بعض الظواهر المجتمعية الأخرى، كصور تحقير المرأة، فقد تناولتها كثيرًا في العديد من كتاباتي، إذ إن المشكلة هنا مركبة ولا تقتصر على الرجل فقط، بل على المرأة ذاتها، حين لا تعي مسؤولياتها الحقيقية، خاصة في إطار العلاقات الزوجية التي يتغاضى فيها بعض الرجال عن حقوق المرأة، لهذا أرى أن المشكلة تربوية في أساسها، وتقع علينا مسؤولية بناء شخصية سوية للرجل والمرأة على حد سواء، عبر أعمالنا الأدبية أو غيرها.] ما هي أبرز المحطات التي تقف عندها الرواية، سواء تلك المحطات الزمانية أو المكانية أو الفكرية؟ وكيف توجز هذه المحطات من حيث تأثيرها؟أردت في بناء رواية «الغريب» أن أرسم عالما متصلا في تفاعله، يتشابك فيه الذاتي بالموضوعي، بالمجتمع الإنساني.. لأوغل في غربة الإنسان، وصولاً لجوانب إنسانية جوهرية، مستعينًا بالجوانب النفسية، والفلسفية، والعقائدية، ليكون هذا التعمق متماه مع ذات الآخر الذي يمثل المجتمع في كل تجلياته. إن مجمل المحطات تتحرك عبر شريط الزمان والمكان، تشكل في بناء الرواية عمودها الفقري، حيث لم تنفصل هذه المحطات في تكوينها عن البعدين الذاتي والاجتماعي، وجميعها توحدها هوية واحدة، وهي «الغربة»، بدءًا من الحي السعفي، مرورًا بالرحيل القسري، وصولاً إلى السفر نحو المجهول حيث الوصول إلى المخيمات، التي تمثل محطة من أعقد المحطات، وأكثرها توغلاً في الغربة. وهنا أنا أتحدث عن الغربة بمعناها الأشمل؛ غربة الجسد والروح، والتي تناولتها في العديد من قصائدي النثرية السابقة، إذ أن تلك المحطة أسهمت في كشف كثير من الحقائق الجوهرية، واستطاعت أن تعطي زخمًا معرفيًا مستمدًا من هذه التجربة الإنسانية التي تشكل إرثًا ثقافيًا يضج بالمفارقات.

مشاركة :