حين قدمتُ قراءة نقدية متكاملة لرواية «مقام عزيز» للكاتب السعودي عبدالعزيز الجاسم الصادرة عن دار «ملهمون» استوقفتني المحطات النفسية والقضايا الفلسفية في العمل، وهذا الأمر هو ما أود طرحه ها هنا.في «مقام عزيز» يجسد النص عبر راويه (عزيز) والأحداث المنفعلة خلاله البنيات الاجتماعية والسياسية فيتفاعل مع رؤيته للعالم الاجتماعي المعاش بكل تفاصيله وينجح الكاتب في تجلية تلك الرؤية من خلال نص يقوم على قصة منفعلة بشخصيات وأحداث وأزمنة وأمكنة لها مرجعيتها المرتبطة بالواقع ورغم ممارسة الكاتب لتقنيات « التخييل « وإضفاء أبعادا تخييلية على القصة وعوالمها الا أنه يبقى ممسكا بخيوط السرد والثيمات الأساسية في العمل التي تجسد القيم الاجتماعية والسياسية من خلال افعال وعلاقات شخصيات القصة بأدوات الاستقلالية الذاتية لبناء النص الروائي، فشخصيات «مقام عزيز» مستقاة من واقع اجتماعي معين يقودها عزيز الذي يرسم لنا من رؤيته الانطباعات والانفعالات وأنماط التفكير والتعالق بين الشخصيات، ونحن ندرك أن هذه الشخصيات قد تكون غير حقيقية لكنها واقعية يوجد مثلها في المجتمع لكن الكاتب قدمها لنا بناء على تفاعله مع واقعه الاجتماعي والسياسي والأيديولوجي التجريبي ومن خلال ذلك هو يقدم لنا رؤيته للعالم الذي يعيش فيه من خلال تصوره أو بعينه التي يقيم من خلالها مواقفه تجاه هذا العالم المحيط به، من خلال ثلاث حكايات لثلاثة أبطال تارة يصبحون رواة لأحداثهم وتارة يصبون جميعا عند الراوي عزيز الذي يكيف الأحداث مع رؤيته التي تمكن الراوي عزيز من التناوب والتداور بين ضمير المتكلم كراوٍ لقصته الشخصية وضمير الخطاب كناقل لأحداث أبطاله .وقد رأينا محاولة الراوي إقناعنا بواقعية ما يرويه بنفسه عن حياته وبيئته الاجتماعية مستخدما الوظيفة البنيوية للضمير المتكلم في الكشف عن الأبعاد الاجتماعية غير المتكافئة في صراعها الطبقي والأيديولوجي والسياسي من خلال قصته الشخصية أو علائقيتها مع الأحداث الخارجة في الكويت والعراق ولندن، كما أنتج ضمير المتكلم وظيفته البنيوية ذات الصلة في الكشف عن البعد النفسي للأبطال وخاصة عزيز المثقف الأستاذ الجامعي الذي يعمل على بناء عقول طلابه لبناء وطن ومجتمع حضاري الذي ما إن واجه معركته المصيرية في صراع التمييز العرقي والطبقي حتى وقف عاجزا مذهولا يتفرج على حبيبته المغادرة إلى البعيد أمام عينيه وهو في صدمة ضبابية لايكاد يميز بين الحقيقة والحلم وبين الارتفاع والانخفاض، أو بين المعاصرة والراديكالية الاجتماعية.في «مقام عزيز» جسد الكاتب شخصياته وفق أنماط وعي اجتماعي وثقافي وأيديولوجي وقام بتشخيص العلاقة بين شخصياته في إطار العالم التخييلي مبرزا الأبعاد الاجتماعية وفق الصراع والتعايش والاتفاق والاختلاف ودرجة ذلك في الالتقاء مع الأبعاد الاختلافية في المنظومة القيمية الاجتماعية، ولذلك وجدنا شخصياته ( عزيز، محمد، امجد، دلال) تعيش قلقا وخوفا وارتباكا مع ذاتها ومع العالم حولها ولذلك هي تتواجد في بنية داخل الأساس الاجتماعي لكل منهم وفق تراتبيتها الاجتماعية التي تحصرها في موقعها الاجتماعي المحدد ( ابن، اب، تلميذ، أستاذ، متهم، شرطي، الخ)، ووفق ذلك تظهر ثنائية (الخير/الشر) في القصص الثلاثة لأمجد في لندن ولمحمد في الكويت والعراق ولعزيز الذي يصارع شر التمييز العرقي والصراع الطبقي في السعودية وهنا نسجل وظيفة بنيوية أفادتنا بها هذه الثنائية في وصفها للشخصيات وبالأخص عزيز الذي يراوح في صراعه وتناقض واقعه مما يكشف بعدا نفسيا.إن شخصيات «مقام عزيز» تعيش في عالم متناقض القيم الفكرية في زمن «معاصر « التسعينيات ،حيث التفكك القومي العربي والهزيمة النفسية العامة أمام الغرب الامريأوربي وأمام الأطماع الإمبراطورية لكل من إسرائيل وإيران فهذا هو البعد التاريخي لبنية نص عزيز ورؤيته للعالم حيث صارت الهزيمة العربية والتفكك الذي أدى اليه احتلال العراق للكويت مرجعا في تكوين النص وبناء بنياته وأحداثه من خلال حضور حادثة الغزو العراقي للكويت لتكون إشارة مرجعية ذات بعد واقعي عيشت في زمن القصة وأثرت على شخصياتها التي خلقها المؤلف في حدود إسار البنية الاجتماعية المؤثرة والمتأثرة بالمرجعية التاريخية لعالم النص ولرؤية الكاتب للعالم حوله ومن ذلك ينطلق لتحريك شخصية ( عزيز) كبطل وكراوٍ لإطلاعنا على الاحداث .لاشك أن الكاتب أخذنا معه منذ البداية تحت قاعدة التأثر والتأثير، سواء من خلال حبك الأحداث أو سبك الشخصيات وأفعالها ودورها في الخط السردي، وإذا كانت الفلسفة المثالية Idealism التي يقودها أفلاطون على إثر أستاذه سقراط تؤمن بأن القيم والفضائل ثابتة لا تتغير ( موقف محمد الكويتي تجاه الغزو، موقف أسرة أبي عبدالرؤوف ضد النظام الحاكم،موقف حسن عبدالزهرة مع محمد) حيث تبدو الرؤية القيمية الأفلاطونية ظاهرة حيث ثباتها تحت تغير الظروف معتمدا ثنائية (الروح/ الجسد) «كابوس قد لا نفهمه، أو ربما نعيشه كمرارة لا نستطيع الاستفاقة منها الا بمفارقة هذه الأجساد» ص 47 ، وإذا تناولنا آراء جون لوك حول التجربة والواقع والحواس لنصل الى رؤية الكاتب للعالم فإننا سنجد تناقضا كبيرا بين شخصيتي أمجد وعزيز في تعاملهم مع الواقع بناء على التجربة والخبرة بينما يستفيد الأول من التجربة والخبرة يخفق الآخر صراحة في ذلك لكنهما في المحصلة وصلا لنفس النتيجة من الفشل في التعامل مع العالم، ورغم محاولة الراوي عزيز إثارة أسئلة تشكيكية في العمل متبنيا المنهج الديكارتي للوصول للحقائق الدينية والدنيوية وفهم الصراعات المختلفة كما نرى على سبيل المثال في ص 349« هل تعتقد أن كل ما حصل لنا في حياتنا مجرد مصادفة؟!» ،كما أننا نسجل في الرواية وجود جان جاك روسو في بعدٍ مهم في صياغة فلسفته الطبيعية Naturalism لرفض التعسف وقمع الخيارات الذاتية وهو النظر الى البعد الإنساني، وقد لاحظنا ذلك من خلال الحوار بين عزيز وأبيه في ص 282والذي أظهر بوضوح انتصار «الطبيعية» على البراغماتية Pragmatism التي تمنح الانسان المتعلم قدرا كبيرا من الحرية في الاختيار لكن الراديكالية الأصولية فرضت على الأستاذ الجامعي أن ينصاع لأوامرها باتفاق المجتمع كله ( الوالد،الأم، الجار،ابوعبداللطيف،..) فرفضت حريته بالاختيار الذي أراده ذلك الأستاذ الجامعي الذي بدا متراجعا أكثر من أن يكون متقدما في أفكاره التي حده عليها المجتمع الراديكالي فلم يستطع التقدم من البراجماتية الى الوجودية Existentialism التي نادى بها سارتر وقبله كيركا وهيدجر ويسبرز رغم محاولة الكاتب الخروج من عباءة التقليد .لكنه دار في نفس دائرتها من خلال هروبه من قيود العادات والتقاليد ليضع نفسه في قيود الدين التي يحافظ عليها المجتمع كحق وأساس للعلاقات الاجتماعية والسلوك الحياتي وقد ظهر ذلك على شخصية الراوي من خلال أسماء أصدقائه وحرصه على الصلاة في المسجد وعودته للتراث الديني والعربي من خلال محاضراته وحواراته ورغم أن الوجودية تلغي خصوصية الانسان ككائن اجتماعي يتأثر بمعطيات المجتمع إلا ان الانسان في منطقتنا العربية المسلمة المحافظة لايمكنه أن يتغافل عن محيطه الذي يعيش فيه ولن يكون له الخيار في صناعة ذاته وصفاته وآماله وطموحاته وأعماله دون الرجوع للقيم التي اختارها المجتمع المحيط به كأسس حياة وبذلك تسقط محاولات الراوي عزيز في إعطاء العقل دورا مهما في الاختيار والقرار وباتت محاولاته في أسئلته في ص 176 «ما الذي يحصل في حال رجحت كفة العقل على العاطفة أو العكس؟» مجرد محاولة للهروب من القيد الى السقوط في هاوية بعيدة أو مجرد تقديم درجات سلم أولى لصعود آخرين لهذه الفكرة!لقد حيرت الكثير من المفكرين والفلاسفة والأدباء قضية «طبيعة الانسان» فهل هو شرير بالطبع أم خير ؟ وهل من واجب المفكر والأديب والفيلسوف كشف هذه الطبيعة الإنسانية أم تركها خفية؟ لايخفى على كل مختص أنه قد تضاربت أقوال المفكرين تضاربا شديدا وتناقضت أقوالهم تناقضا عجيبا فما بين قولهم بتجاور الخير والشر في داخل الانسان الذي قد يؤدي أحيانا الى ازدواجية الشخصية ، الى من جعلوا الخير والشر يتعاقبان على الفرد في اليوم الواحد بل قد يجتمعان ويتصارعان داخل الفرد في لحظة واحدة الى قول بعض الفلاسفة أن الانسان قد ولد خيّرا وأن الحياة والناس هما من يفسده ويجعله شريرا كما يرى جان جاك روسو ، ويرى بعض آخر منهم العكس من ذلك حيث يولد الانسان شريرا وتقوم الحياة والناس بكبح جماحه وتهذيب مساره وتقويم سلوكه كما يرى هوبز ، لكن نيتشه يرى ان للخير والشر تاريخ في روح الأعراق والطبقات المهيمنة، ولذا يضع نيتشه في مراحله الثلاثة لتطور الأخلاق (قضية الأصل والنسب) في المرحلة الثالثة «المرحلة الأخلاقية»نتيجة إدراك (الأنا/الذات) وسيادة القيم الأرستقراطية التي تتفاضل في الأصل والنسب، وهو يرى طبقا لذلك أن هيمنة قيم العامة في المجتمع يعتبر خطرا كبيرا ينذر بهدم المجتمعات ، ولي رأي شخصي هنا يناقش قدرة خطوات الاسلام على القضاء على هذه القيم الطبقية عبر ( كفاءة النسب واستمرارية الرقيق) ولماذا نجدنا بعد 1400 عام في جزيرة العرب منبع الاسلام نقف مكتوفي الأيدي أمام هاتين القضيتين؟حيث لا نجد منطلقا ننطلق به للقضاء على هاتين الظاهرتين فكل المنطلقات ستصطدم بجدار سميك مكون من خلطة خراسانية هائلة (الدين والعرف) والذي سينتج لنا فئة من الناس ( الأقوياء/السادة) ليحددوا لنا القيم والأخلاق والأعراف التي نسير عليها وهذا هو ما يعطي هذه الفئة الأقوى حق تحديد مفهوم الخير، فهنا لو سألنا المجتمع المحيط بوالد عزيز هل كان الرجل يمثل الخير أم الشر في حفاظه على العرف الطبقي الذي صنعه المجتمع؟ سنرى التردد واضحا وهو الذي أعجز الراوي أن يحاور والده أو أبا بسام وأبا عبداللطيف إلا في حوار (تمسكني) عاطفي أكثر منه جدلي والذي هرب منه الراوي في صراع مع فكره الواعي ضد الفكر المجتمعي الذي هو أحد أدواته فلجأ لتمرير رؤاه عبر حوار قد يظنه القارئ العادي انه مجرد حشو لاطائل منه لكن الذي يبدو لناقد درس الفلسفة وربطها بعلم النفس الاجتماعي أن الراوي أراد تمرير قناعاته المتصارعة في مشهدين مختلفين وهنا في ص 175 مشهد الفكر الواعي الذي هرب به الراوي ليظهره على لسان جواد وأمجد «أرى أن هناك أنصارا للحق وندعوه قوى الحق كما توجد فئات تناصر الباطل ويمكنك أن تدعوهم قوى الباطل….أما حين نخصص في الخير فليس الكل أخيارا ….الخ» وهذا ما يعيدنا للسؤال الأول هل الرجال الثلاثة (ابو عزيز وأبو عبداللطيف وأبو بسام ) كانوا أخيارا ام أشرارا بناء على قاعدة الحفاظ على القيم التي وضعتها فئة معينة ؟! ولذلك يقول نيتشه «أننا في حاجة الى نقد القيم وإعادة طرح قيمة هذه القيم للبحث لمعرفة الشروط التي ولدتها ونشأت فيها وتشوهت».ويرى المفكرون أن غريزتين مهمتين تتحكمان في هذا الأصل من طبيعة الانسان هما غريزة حب النفس وغريزة المحافظة على النوع، وأعتقد أن توجيه الغريزتين للخير والشر هو نسبي يتفاوت من إنسان لآخر ومن عقل لآخر بحسب مدى تفكير العقل، فقد رأينا أبا عزيز يرفض زواج ابنه من عراقية وهنا قد نطلق غريزة حب النفس عند والده بدرجة من الشر كما هي غريزته في محافظته على نوعه العرقي بعيدا عن تخالط الدماء مع اجناس أو جنسيات أخرى ولذلك نلاحظ اختفاء نزعة الإيثار الغريزية الأبوية لكننا نرى نفس الغريزتين عند عزيز يتوجهان بشكل مختلف حيث يسيران نحو الخيرية في حب النفس حيث يسعى لإقامة حياة زوجية قائمة على الحب والاتفاق مع محبوبته تؤدي الى الحفاظ على نوعه المتسع الذي يؤمن به ،ولعلنا نشير الى تذاهن الأب مع «غوبينو « الذي يعتبر أن التهاجن والتخالس والزواج من عروق دنيا وخيم ومن هذا المنطلق ظهرت عنده رؤيا انحطاط الكون رغم تناقضه في قوله أن بعض عوامل الحضارة مثل الفن لا يمكن أن تولد إلا من التهاجن العرقي ، وهنا نتساءل عما إذا كانت الرواية آمنت بخيرية الانسان وقدرته على هزيمة نوازع الشر العارضة له أم أنها نهجت نحو واقعية الصراع الأبدي بين الخير والشر والذي أدى الى انتصار الشر في الأخير حيث خسر عزيز حبيبته وخسر أمجد شهادته وحياته وخسر محمد الكويتي ابنه وهويته وهذا لايتعارض تماما مع الفكر الأيديولوجي في الاسلام من أن القيامة تقوم على رؤوس الأشرار وجاء في رواية مسلم “لا تقوم الساعة وعلى وجه الأرض أحد يقول الله الله” . ولذلك يأتي هنا دور العقل الذي يجب أن يسيطر ويوجه الانسان الى عمله وهذا أيضا يتوافق مع الآيديولوجية الإسلامية التي تقول في النص « اعملوا فكل ميسر لما خلق له» والعمل لا يتأتى الا بالاختيار الناجم عن العقل، وإذا كان الباحثون يعتبرون أن العقل خصيصة من خصائص المادة لكن برتراند راسل يعتقد ان تركيبا مشتركا يضم العقل والمادة هو ما يقوم بتوجيه أفكارنا عن وعي مقصود، ومن هنا يمكننا اعتبار أن الوعي مميز للعقل فالوعي يشير الى أننا ندرك مشاعرنا وأفكارنا ولذلك نصف الشخص المدرك لذلك بالشخص الواعي، ولذلك علينا أن نفهم هذا الإدراك الحسي الذي يقودنا لفهم وجود حمار مثلا حين نسمع ضجة مع صوت نهيق فهذا يدلنا بالإدراك الحسي لوجود الحمار الذي قام بالضجة القريبة منا ، حيث يتم الربط بين صوتي الضجة والنهيق للدلالة على وجود حمار، فإدراك الأشياء حسيا يربطنا بالوعي لأننا نعي أي شيء ندركه حسيا.يرتبط بالوعي أيضا «الذاكرة» فحين يتذكر عزيز لحظات غرامه وغزلياته مع دلال كانت تلك اللحظات في الماضي وهي ما تربط عزيزا بالوعي لكن بصورة الذاكرة وليس بصورة الإدراك الحسي الذي فقده عزيز مع رحيل دلال الى الكويت ، ولذلك يجب علينا فهم معنى « الأفكار» وهي ترتبط مباشرة بالذاكرة كما أنها ضدية مع « الانطباع» فالانطباع قد يبدو نتيجة للإدراك الحسي وهو الانطباع الذي ثبت عند دلال في بداية قصة الحب ، لكن التفكير ينتج الوعي بشيء غير حسي قد لا تدركه حسيا ولا تراه مثل العرق البشري فالتفكير به هو الوعي الذي يكمن في الأفكار التي هي ضد الانطباعات او الذكريات المحضة . والأهم هنا هو أننا ندرك أن الوعي يوجهنا الى أشياء معينة (رفض الأب زواج ابنه لسبب طبقي) بينما الوعي قد يوجهنا لشيء آخر خارج أذهاننا ( لم يفكر الأب ان ابنه سيمضي حياته بلا زواج يعيش على ذكرى حبه) فهناك عالم يحيط بنا نحن واعون له والعقل هو ما يربطنا بهذا العالم الذي أشار له الراوي في ص 31 «أن كل ما يستفيده الانسان ممن حوله كالمجتمع والبيئة المحيطة يسمى سلوكا والسلوك أساس الشخصية» هذا يدل على الخلفية الاجتماعية والنفسية لدى الكاتب الذي يربط السرد في هذه القضايا الفلسفية ففي علم النفس منهج خاص يسمى «المنهج السلوكي» الذي يقوده جون واتسون وجون ديوي وشيلر ويرى هؤلاء من خلال نظرتهم السلوكية أنه لا يمكن معرفة شيء الا من خلال المشاهدة الخارجية وينكرون « الاستبطان» الذي من خلاله يمكننا معرفة أشياء تتعلق بنا لا يمكن مشاهدتها لدى الآخرينوهذا ما دعى عزيزا في النهاية للبحث عن حبيبته او إشارة لها في التطبيقات الإلكترونية لسبب يستبطنه قد لا تراه أسرته أو أصدقاؤه، وهذا يجعلنا نتساءل كسلوكيين إذا كان الطائر يبني عشه قبل أن يبيض لأنه يدرك بوعيه الخاص أنه سيبيض ويحتاج مكانا آمنا لبيضه الذي سيحتضنه حتى يفقس يقدم لنا دلالة على توجيه السلوك المكيف طبقا للغاية وقد لا يكون هناك رؤية مسبقة لتلك الغاية وهذا يفسر لجوء عزيز للمراسلات الإلكترونية ليبقى بالقرب من ذاكرة واعية تبقيه جنبا الى جنب مع حبيبته البعيدة والتي توصلنا الى نتيجة سلوكية غير متوقعة ربما وهي «الأنانية الذاتية» حيث أدرك عزيز حسيا عملية تفكيره بحبيبته ليثبت وجوده بناء على المبدأ المشهور « أنا أفكر إذاً أنا موجود»فهو هنا يرى أكثر بناء على نظريته السلوكية التي روج لها في سرديته والتي تعطيه أسمى شعور بالمقدرة والأمان، فهو يرى نفسه وتفاعله الواعي مع ذكرياته وذلك أسهل من مراقبة شخص منفصل بعيد وهو ما يثبت لعزيز دوما القدرة على بقائه ووجوده القائم على مقدمة التفكير الواعي بحبيبته او ما يسميه بعضهم « الأمل»،لكن عزيزا لم يقدم لنا تلك « الكينونة الميتافيزيقية» المصنوعة من «رقيب» خاص عند قمع رغبته بالزواج وكيف استطاع عزيز كبتها لأكثر من عشرين سنة في اللاوعي واستسلامه لعدم التغيير في « الذوات الحقيقية» من خلال صراعه مع العادات التي حرمته رغبته فالحقيقة أن منظومة العادات استطاعت الانتصار على الذات الحقيقية لعزيز من خلال إبقائها خاملة جزئيا او كليا في غياب «الإرادة» التي كانت جزءا من الوجود الإنساني والتي تحدد موقع الانسان في الرؤية العامة للوجود كما يرى شوبنهاور ففي درجات تموضع الإرادة الدنيا يمكن معرفة ما سيصدر عن الفرد بمجرد معرفة الخصائص النفسية للسلالة النوعية التي ينتمي اليها، وهذا يرجعنا لفهم نفسية (الأب) الطبقي الانعزالي النرجسي وإذا كان الانسان يشكل أعلى درجة تمظهر للإرادة والتي يمكن تجاوزها او القضاء عليها عبر الذاتية التي تتجاوز التمظهر الأول للإرادة في الانسان ولذلك يضع يضع شوبنهاور الفكر في خدمة الإرادة وهو ما يعيدنا دائما لفهم دائرة الفكر بشقيه الواعي وغير الواعي عند شخصية عزيز والتي ظهرت في اخر الاحداث تائهة تبحث عن ذاتها عبر الأمل كمرجعية أعمق في الإرادة اللاواعية، وعكس ديكارت الذي جعل الإرادة هي حرية الإقرار بالنفي او التأكيد فقد ذهب شوبنهاور الى أنها الأصل المكون للعالم وهي لا واعية بطبيعتها وهذا ما حاول ان يوهمنا به الكاتب في صفحاته الأخيرة من الرواية بحيث تكون رؤيته للعالم ضبابية تكاد توصل لنا قولا لاينبغي قوله، ويكتفي بطلنا (عزيز) بما يسميه نيتشه «الموقف الفيزيولوجي»حيث يتقبلالأمر الواقع ولا يناصب العداء بالعداء فهو رغم ثورته واعتراضه على رفض أبيه لزواجه لكن لم يبد أي سلوك عدائي تجاه والده صاحب القرار ولعلنا نضع تصور نيتشه لهذا الفكر الذي ينتجه العقل كصيرورة كاملة في الواقع حيث لايوجد عقل إنساني شامل فنيتشه يعارض في كون الفكر ليس ثمرة الرغبة في معرفة الحقيقة ولذلك نلاحظ أن عزيزا لم يأخذ الإجابة من والده عن سبب رفضه الزواج من عراقية فما هو سبب دونية العراقية في نظره؟ فلم يحرص عزيز على معرفة السبب كما أنه لم يهتم بإخبارنا كقراء بمزيد تفاصيل، وهانحن نرى نيتشه يرى سر ظهور الأفكار الكلية الثابتة هو أساطير وأوهام تعود بالنفع على أصحابها، ولذلك كان عزيز يظن أن الحفاظ على مكانته الاجتماعية بالرضا والقبول الظاهري بفكر أبيه متزامنا مع وهم اللحاق بدلال والحصول عليها عبر رسائل خارقة في تطبيقات احتمالية.وللناقد الفلسفي أن يتساءل ما وجه الربط بين الرغبة عند عزيز في لم شمله بحبيبته والرغبة عند صدام حسين في اقتطاع جزء من الجسد العربي الكبير ( الكويت) ليلتهمه ابتغاء تضخيم جسده؟ استطاع الكاتب أن يسحبنا في مقارنة ذهنية بين الحب والكراهية وبين ثيمة (الضم) بشكليها الخير والشرير ، كإنعاكاسات مجردة لتطور واقعي على أرض الميدان بين ابتلاع صدام للكويت ومن ثم قيئها وبين رفض والد عزيز الذي أدى الى نزوح وابتعاد دلال جغرافيا وروحيا عن عزيز .وإذا كانت هذه الرغبة ينتج عنها لذة لطرف وألم لطرف آخر فإن الراوي عزيز يقدم لنا إشارته الفلسفية للألم الذي قد عاناه او يعاني منه لحظة سرده لنا فيقول في ص 88 «ذلك المريض الذي يعيش آلامه بنفسه هو الوحيد الذي يستطيع تشخيص ذلك الألم بدقة ،يستطيع من يعيش الألم أن يصف ألمه بطريقة لن يتوصل اليها العلم الحديث مهما تطور وتقدم»، لقد أنكر ويليام جيمس تأثير اللذة والألم في انفعالاتنا لكن لوبون يرى عكس ذلك ويقرر أن اللذة والألم يورثان الرغبة في بلوغ اللذة واجتناب الألم ولذلك يفصل لوبون الإرادة عن الرغبة وينكر على شوبنهاور أن الرغبة مصدر كل ما يراد ويؤكد أن «الأمل ابن الرغبة لا الرغبة نفسها فهو استعداد نفسي يجعل الانسان يعتقد إمكان تحقيقه ما فيه من رغبة فقد يرغب المرء في شيء دون أن يأمله وقد تقترب الرغبة من الأمل في بعض الأحيان فتختلط به» وهنا نطرح هذا السؤال عن هذا القول في ص 334 «يبتعدون بأجسادهم وأصواتهم وربما نفتقد ضحكاتهم وابتسامتهم المشرقة كل يوم لكن هل فارقونا فعلا؟ قد يكون رحيلهم محطة تحول لحياتهم في هذا العالم لكنهم باقون ما دمنا نحتفظ بهم في ذواتنا»فهل هذا الاحتفاظ للذاكرة في ذواتنا جزء من الأمل أم الألم الذي ينتج لذة لا نفهم ماهيتها على ثنائية (الروح/الجسد). ويتفق نيتشه مع ما ذهب اليه لوران بول من أن الجسد عبارة عن قوى تتصارع في داخله «لأجد على الطرف الآخر صوتا مذبوحا»ص296 لكن نيتشه صنع توازنا بين مفهومي (الجسد/الروح) فالروح هي مجموع الغرائز التي لم تجد لها منفذا حيث تمنعها قوة طاغية من الانفجار بينما الجسد يتأثر بردات فعل لمرجعية لانهائية للغريزة الكامنة تحتاج سيرورة طويلة يتوصل بعدها الجسد الى ردة فعل غريزية تعطيه اسميته، ففقد الدال علاقته بمدلوله المعهود واكتسب مدلولا جديدا بحسب نيتشه، ولذلك فإن نيتشه يشكك في موضوعية أي نص حيث تسقط الرؤية التقليدية في ثنائية (النص/الحقيقة) فعزيز هنا روح دلال لكن واقع الأمر بحسب نيتشه أن النص هنا مجرد نسيج يوصل جزءا من الحقيقة (الحب) ويحجب جزءا آخر قد لا يكون واضحا تماما ولذا يحتاج مفسرا يفسر لنا الحقيقة الكامنة وراء النص،فتلغى المساحة بين النص والحقيقة حيث تصفى تلك الثنائية فيكون النص في الحقيقة هو النسيج ولكن النسيج هو ذاته الحقيقة والذات هي ذاتها جزء من هذا النسيج والذي على ما يبدو أن هذا ما عناه دريدا بقوله الشهير «لايوجد شيء خارج النص»ولذلك يعتقد نيتشه أن البلاغة هي الفلسفة فالفلسفة تدعي محاولة فهم العقل الواعي للوصول الى الحقيقة الثابتة ومع غياب الحقيقة الثابتة فإن الفيلسوف يفرض اعتقاداته كتفسير لإرادته على ( الواقع/النص) من خلال قدرته البلاغية المستخدمة في النص الأدبي والتي لاحظناها في عدة مواضع أشرنا لها سابقا في «مقام عزيز» حيث يحتال (الكاتب/الراوي) لتمرير فلسفاته الخاصة التي قد لا يتقبلها مجتمع القراء أو قد تصطدم مع واقع موازٍ لواقع خلقته الشخصيات السردية. يطرح الراوي عزيز قضية شائكة هي تتولد عما طرحناه أعلى من قضايا فكرية وفلسفية مرتبطة بالخير والشر الناتج عن فكر ووعي العقل البشري، هنا يطرح قضية الصراع الطبقي التمييزي والفروقات العرقية فيقول في ص 192 «الفروقات القبلية والعرقية وكثير من الفوارق الاجتماعية أنست البشر أنهم ليسوا سوى حفنة من تراب لافرق بينهم أبدا الا بالتقوى» وهذا يرجعنا الى سؤال مهم طرحته أكاديمية ديجون : ما أصل التفاوت بين الناس؟وهل أجازه القانون الطبيعي؟ يقول جان جاك روسو في (أصل التفاوت) ما يشير الى أن «أصل التفاوت -الطبقية-نشأ في نشوء الروح البشرية وسوءا متعاقبا وأن المزايا الاجتماعية تكون كامنة في الانسان الفطري لاتستطيع أن تنمو من تلقاء نفسها وأنها تحتاج لظهورها تضافر عوامل كثيرة غريبة تضافرا عرضيا فكان يمكن ألا تظهر ويبقى الانسان في حاله الابتدائية». ولذلك يتساءل روسو عن مذهب الفقهاء في «أن ابن العبد يولد عبدا بأنهم في ذلك قد قرروا بعبارة أخرى أن الانسان لا يولد إنسانا» ، كما يقرر أن الناس هم من يضعون التصنيف الطبقي بينهم « لأن الأفراد اذا ما اجتمعوا في مجتمع واحد لم يلبثوا أن يضطروا الى المقابلة فيما بينهم والى ملاحظة الفروق التي يجدونها في معاشرة بعضهم بعضا، الثراء والشرف أو المقام والسلطان والمزية الشخصية فروق رئيسية يقاس بها في المجتمع» وهو ما عناه نيتشه بقوله «ان الأمر يتعلق هنا بتأملات حول أصل أحكامنا الأخلاقية المسبقة» ويؤكده فوكو بقوله «إن الميتافيزيقا إذ تضع الحاضر عند نقطة الأصل توهمنا بفعالية قدر غامض يسعى نحو الظهور».* كاتب وناقد سعودي الكاتب : عبدالعزيز الجاسم
مشاركة :