عفراء المزروعي.. شاعرة الغزل

  • 8/22/2020
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

«يا زين حبّك داخل الروح في مهجتي ما بين الأرواح متحمِّل حبّك عن يبوح لو حلّ ما بي في الجبل طاح» تحيط بنا اللواعج وهبّات العشق، وتشملنا بلمستها الحانية، عندما نقرؤها في أعين الآخرين، وتكون لنا سَكَنا، وموطئاً، وإلهاماً متجدداً عندما يصدرها لنا الشعراء والشاعرات ضمن خطاب آسر، يجذبنا، ويعيد لنا ذكريات تجافت عنّا، وإشراقات خبت في أعماقنا، وسط انشغالاتنا المزدحمة، وانغماسنا المُفْرَط في هدير الحياة. تعيد لنا الشاعرة الكبيرة الراحلة عفراء بنت سيف المزروعي (1905 - 1995)، ذلك الدفء الوجداني المكتنز في قصائدها الغزلية، وبقابلية رحبة تجمع الذات بالآخر، في سياق فاتن، ومسار باهر، تعرف الشاعرة كيف تروّضه وتحاكيه وتستدرجه، وتستخلص منه الرحيق العذب للمفردة الشعرية الفارقة، والمصاغة هنا في مناخ سحريّ، متحرّك بشكل غير ملحوظ، وكأنه العشق المقيم على قلق، ولكنه القلق الهيّن، والمطواع، الذي يمكن للأوزان القوافي الموائمة لجموحه الأليف أن تسيطر عليه، وتستثمره أيضاً. الحب الذي يمتلك خصوصية تميّزه عن سواه من العواطف مباح له الوصول إلى داخل الروح، ووسط المهجة، فله المحلّ العالي، والمكان الأرقى بين الأرواح الأخرى، وفي ذات الوقت نرى الشاعرة، وهي متخوّفة من هذا الحب الخاص جداً، والمتمكّن من الفؤاد، من أن يبوح ويعلن عن ذاته، لأن وقعه سيكون ثقيلاً بعدها، ولو حلّ بجبل، فإن سقوط هذا الجبل وانهياره مُؤكّد، بلا شك. وفي الأبيات التالية لهذه القصيدة المتفرّدة، تقول عفراء المزروعي: يا قايد الغزلان لسروح /‏‏‏‏ لي يرتعن في فيض لبطاح شوفك غناه إلْيِه ومربوح /‏‏‏‏ وإلْيِه العِوض عن كل ما راح لِمْحِبّ ما يِنقال له روح /‏‏‏‏ يُسعون له في درب الإصلاح وهنا تأخذ لعبة التشبيهات والاستعارات مساراً آخر، لتجسيد الوقع العملي لهذا الحب ولتأثيره الملموس، فالمُخاطَب هنا شبيه قائد الغزلان السارحة في البطائح الممتدة التي لا يحدها النظر، كناية عن وفرة هذه الغزلان وعن جاذبية المحبوب أيضاً القادر افتراضياً على كسب ودّ الكثيرات، ولكنه اختصّها وحدها، وفي هذه ميزة مشتركة تجمع الاثنين معا، وتعوضهما عن كل ما فات من وصل ولقاء وصحبة، كما أن هذا المحب لا يمكن التخلّي عنه، ولو حدث أي شيء يعكّر صفو المودّة السابقة، فلا بد أن يأتي من يصلح بينهما ويعيد مياه الحب المشتّتة إلى أصلها ومنبعها من جديد. ولدت الشاعرة عفراء بنت سيف المزروعي في إمارة أبوظبي عام 1905 ووظفت ملكاتها الشعرية جيداً منذ أن قرضت الشعر، وهي في السابعة عشرة من عمرها ما أهّلها الحصول على مكانة أدبية واجتماعية سامقة بين شاعرات وشعراء جيلها ومعاصريها، وقد امتد وهج قصائدها وفيض أشعارها إلى مختلف مناطق الدولة وخصوصاً في أبوظبي والعين ودبي، وكما يشير الباحث الدكتور راشد أحمد المزروعي في الجزء الثاني من كتابه: «موسوعة أعلام الشعر الشعبي في دولة الإمارات العربية المتحدة»، فإن الشاعرة عفراء المزروعي تعتبر من شاعرات أبوظبي المتمكنات، تربّعت على ساحة الشعر النبطي والشعبي، منذ عشرينيات القرن الماضي حتى نهايات ذلك القرن، مضيفاً أن شهرتها كشاعرة تضاهي شهرة الشعراء الآخرين المعاصرين لها، خاصة شعراء أبوظبي أمثال: أحمد بن فاضل المزروعي، وعبدالله بن سليّم، والكأس، وسعيد بن هلال الظاهري، وهلال بن فريح القبيسي، وعبيد بن نييلا وغيرهم. وذكر أن عفراء المزروعي كانت قريبة الشاعرة الكبيرة عوشة بنت خليفة السويدي، وأنه حدث أن ولدت الشاعرة عوشة وقت ولادة الشاعرة عفراء لابنتها «مريم»، فأرضعتها مع ابنتها، وبذلك أصبحت أمها بالرضاعة، وتقول ابنتها مريم بنت محمد المزروعي: «والدتي أرضعت الشاعرة عوشة بنت خليفة، لذلك كانت عوشة قريبة منها ولا تنقطع عنها، ولذلك غدت عوشة شاعرة مثل أمي». ومن الملفت هنا إشارة الدكتور راشد المزروعي في كتابه إلى أن الشاعرة عفراء بنت سيف كانت متخصصة في الشعر الغزليّ الخالص، ولا تنظّم في الأبواب الأخرى أبداً سوى القليل من قصائد المدح الممزوجة بالغزل أيضا، وأن الشاعرة الكبيرة عوشة بنت خليفة - فتاة العرب - قد تأثرت بأسلوب الشاعرة عفراء المزروعي واستقت منها الصور البديعة والماتعة الذي ازدحم بها شعرها الغزلي على وجه التحديد، كما امتازت الشاعرة عفراء المزروعي بقصائد «الغطو»، وهي من الفنون الشعرية المرتبطة بالألغاز مثل فن الدرسعي والونة والردح والمشاكاة. طقوس موسمية لا يمكن لنا أن نفصل شعر عفراء المزروعي عن الطقوس الموسمية التي كان لها أثرها المعنويّ، وحراكها الاجتماعي الواضح والملموس فترة ما قبل قيام دولة الاتحاد، وعلى رأس هذه الطقوس الموسمية يأتي «موسم المقيظ» كأبرز حدث اجتماعي مشهود عايشه سكان الساحل في الإمارات، وهم يتنقلون في فترة الصيف وعند ابتداء القيظ إلى مختلف مناطق الإمارات الداخلية التي تقلّ فيها درجات الحرارة، وتتراجع فيها نسبة الرطوبة، وتكثر فيها المزارع والبساتين والنخيل والواحات الخصبة، والمياه العذبة، مثل حواضر: «العين»، و«الذيد»، و«فلج المعلا»، و«حتّا»، و«خت»، وغيرها من المناطق المعروفة التي احتفظت في أذهان وقلوب زوارها بالكثير من المشاهد والحوادث والصور التي لا يمكن نسيانها، فأسست بذلك لحضورها الحميمي الرائق في الذاكرة الشعبية والمخيّلة الجمعية، وقد أبدعت عفراء المزروعي في هذا المجال من خلال تقديمها للكثير من القصائد الرائعة والمضيئة في سجلّها وتراثها الشعري، ومنها قصيدة ردت بها على الشاعر عبيد بن نييلا الذي يقول في مطلع قصيدته المتعلّقة بفترة «المقيظ»: «بستان قلبي صابه الهِيف /‏‏ حتّ أورقه من روس الأغصان» فردّت عليه عفراء المزروعي قائلة: قيظ الجزيرة هَبْ على الكيف /‏‏ عسى يشلنا عالي الشأن البارحة من نومي مْعيف /‏‏ ما غمّضت بالنوم لعيان نبغي ديارٍ عن هوى السيف /‏‏ بعيد ولها القلب شفقان انته ذرى الحق الذي مخيف /‏‏ ولنا ذخرٍ في طول الأزمان ترخص لنا يا بوخدٍّ رهيف /‏‏ ويموت لي حاسد وشمتان من يوم قرّب موسم الصيف /‏‏ عنّا الغضي نوّى جدا عمان من روّحن من «بدع سيف» /‏‏ قصّن عراجيب ونقيان قم يا «الكِريّ» ردّ المخاليف /‏‏ لي يرتعن وين العشب زان وتعدّ هذه القصيدة مثالاً واضحاً للتأثير النفسي الوجداني الذي تعكسه رحلات «المقيظ» وما يحيط بها من استعدادات ومظاهر اجتماعية حافلة بالتنوع المشهدي، كما توثق هذه القصيدة التفاصيل المناخية الدقيقة ذات الوقع الاجتماعي الملحوظ الذي يتجاوب معه الأهالي، سواء من المسافرين منهم تجاه المناطق الداخلية، أو الباقين في مناطقهم الساحلية والذين تسعفهم قدراتهم أو إمكانياتهم على السفر، ونرى شاعرتنا وهي تبدع هنا في اقتناص اللحظة القصوى الفاصلة بين الرحيل والبقاء، وتصور مساحة الشد والجذب بين المشاعر المتباينة التي يفرضها «الوداع» كثيمة نفسية ضارية يعززها الحنين لأماكن المقيظ التي زارتها الشاعرة سابقاً، ولكنها حُرمت منها هذه المرة، ولذلك تقول: «نبغي ديار عن هوى السيف /‏‏ بعيد ولها القلب شفقان»، أي أنها تريد أن تغادر مكان إقامتها قرب سيف البحر عند اقتراب موسم الصيف كي تعيد الوصل الروحي والجسدي مع أماكن المقيظ المستعادة عنها بكل جمالياتها في الذاكرة فقط، كما أنها تصور حركة الركبان والإبل الحاضرة في وعيها القديم عندما تستذكرها، وهي تغادر منطقة «بدع سيف» وتقطع عراقيب الصحراء وكثبان الرمال وتنادي على «الكري»، وهو صاحب الإبل التي يؤجرها للمسافرين كي يعيد الإبل السارحة وسط العشب، حتى تنظم مجدداً للقافلة. ولعل في هذه التفاصيل البهيّة والجميلة الذي يزخر بها شعر عفراء المزروعي، ما يغنينا عن الصور والأفلام الوثائقية، التي تقدم المشهد بشكل محايد، بينما تقدم شاعرتنا ذات المشهد بحمولة فائضة من الأحاسيس الإنسانية المرهفة، والتحولات العاطفية المتراوحة بين الأسى والشوق، وبين الوداع والانتظار، ضمن نسيج بصري يستدعي حنيننا المشترك تجاه الأزمنة البعيدة وبكل تجليّاتها وإشراقاتها الغائبة شكلا والحاضرة مضموناً. ديوان «أشجان» ديوان «أشجان» ديوان «أشجان» صدر للشاعرة عفراء المزروعي ديوان بعنوان «أشجان»، والذي ضمّ 116 من قصائدها التي جمعها قبل وفاتها الشيخ سعيد بن أحمد بن حامد - رحمه الله-، وكان بصدد إصدار ديوان آخر يجمع حوالي 70 قصيدة أخرى، لكنه توفي قبل ذلك، وكانت أكاديمية الشعر في هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة، قد أعادت طباعة ديوان «أشجان» في شكل وإخراج جديدين، بعد تحقيقها قصائده وشرح مفرداتها، وجاءت طبعة الكتاب في 273 صفحة من القطع المتوسط، وضمت 111 قصيدة على مختلف الأوزان الشعرية، التي يبرز من بينها وزنا الونّة والردحة كأكثر الأوزان التي نظمت عليها الشاعرة قصائدها. بريق فني رحلت الشاعرة الكبيرة عفراء بنت سيف المزروعي - رحمها الله - عن دنيانا في سنة 1995 عن عمر يناهز 95 عاماً إثر إصابتها بحمى شديدة لم تمهلها سوى ثلاثة أيام، فأسلمت الروح لبارئها، وأبقت ذكراها العطرة في قلوب الناس، باعتبارها علامة إبداعية بارزة في فضاء الشعر المحلي، واسمها مشهود له بالفرادة والألمعية والبريق الفني والتعبيري الذي ألهم الكثير من الشاعرات والشعراء في زمنها وبعد رحيلها، كما أسهم عطاؤها النوعي في استقطاب العديد من الملحنين والمطربين الشعبيين الإماراتيين المعروفين أمثال: جابر جاسم، وميحد حمد، وغيرهما، للتغنّي بقصائدها والاحتفاء بأبياتها الغزلية ذات الوقع المحبّب في النفس، والتي تعكس شخصية الشاعرة نفسها التي أحبّت الحياة، وأشاعت البهجة بين متلقي قصائدها، وباتت نموذجاً باهراً لقدرة المرأة الإماراتية على الاعتناء بإبداعها الخاص، ونقل هذه «العدوى الإبداعية» في إطارها الإيجابي للمهتمين بشعرها ونتاجها الأدبي والإنساني، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً.

مشاركة :