نهار ما نوّوا بَيَبْدون/ طوّوا دعون العرش عيلات صدّيت وايلاهم يسوقون/ واعتقت عوقٍ ما له انعات وين الحمايا لي يثيبون/ أهل اليمايل والمروّات آنس أعواقٍ ما بي تهون/ صويب ويْروحي طريّات ياحد ولا بي الناس يدرون/ أونّ ونّات ٍ خفيّات قفّوا وخلّوا القلب محزون/ حزن ٍ ترضّف لي وليعات يقدم لنا الشاعر سعيد بن سرور المزروعي في القصيدة أعلاه قصة مكتملة الأركان، يستدعي من خلالها ملامح الماضي المتشكّل وسط فضاءات شعبية باتت مفقودة ومندثرة في أيامنا هذه، ولكنها ملامح تشي بالقيمة الفطرية والعفوية لمسلك الناس في تلك الأزمنة البعيدة التي عاشها شاعرنا المولود في العام 1892م، واحتفى بتفاصيلها ومعالمها الشاخصة في قلبه وروحه، وجعلته متفاعلاً مع مدّها وجزرها، وفورتها وانحسارها، مُلَمْلِماً لهفته، ومُرمّماً أشواقه وقت رحيل المحبّ من أرض المقيظ «نهار ما نوّوا بيبيدون/ طوّوا دعون العرش عيلات»، من خلال مشهد حيّ ومتحرك أمام أنظار الشاعر، وفي وضح النهار الذي تحوّل من هول الصدمة والانكسار إلى فراغ معتم تتخطّفه اللوعة والهواجس، وتحيطه الخسارات من كل جانب، أن الحساسية المرهفة لشاعر اشتهر بقصائده الغزلية المتدفقة بصدق والنابعة حكايات مشهودة، لا بد وأن تجذب المتلقي لطرائقها السردية ومناخاتها الوصفية، التي قلّما تجدها لدى شاعر آخر من روّاد ومؤسسي المشهد الشعري النبطي بالمكان. وما يؤكّد القدرة الوصفية اللافتة للشاعر سعيد بن سرور اقتران أبياته بمكونات البيئة المتفاعل معها حسّياً ووجدانياً، وتوظيفه المبهر لظلال وتأثيرات هذه البيئة عليه، وما تعكسه من تبادل مثمر بين الذات والموضوع، وبين الظاهر والخفيّ، فنستشعر قوة التأثير المنبعث من الأصل نحو الصورة في البيت الثاني الذي يقول فيه شاعرنا: «صدّيت وايلاهم يسوقون/ واعتقت عوقٍ ما له انعات» إنها الالتفاتة الموجعة بلا شك للمشهد الجماعي المنضوي له المحبوب أثناء طيّ العرشان بشكل مستعجل، بعد الإقامة المؤقتة التي كان يراها الشاعر إقامة أبدية، ولكن دوام الحال من المحال، حيث فرضت الظروف المناخية كلمتها، وأجبرت المحبوب ومن معه من أهل وعشيرة للعودة مرة أخرى إلى الديار بعد انقضاء فصل الصيف، وضمن دورة موسمية خبرها الناس هنا واعتادوا عليها واستأنسوا بطقوسها الاجتماعية الحافلة والمتنوعة، ولكن يظل مفهوم العاشق مختلفاً عن المفهوم السائد، فهو لا يغادر منطقته الخاصّة والحميمية، ولا يبالي بتعاقب الأيام وتقلّب المواسم، لذلك فإن جروح الصدمة لديه تظل طريّة وحارة وحارقة طوال فترة الغياب، وتظلّ انتظاراته الطويلة ماثلة أمامه في مديات الذكرى وآفاق الوله. يقول الشاعر ابن سرور في البيت الرابع من القصيدة: «آنست أعواقٍ ما بي تهون/ صويب ويروحي طريّات»: إن «العوق» أو مصاب العشق هنا لا يمكن وصفها ونعتها بالنسبة له، «ما لها انعات»، فهي خارج منظومة الآلام العابرة والقابلة للشفاء، على عكس ما يعانيه من ألم مفرط وعصيّ على الاكتشاف، لذلك لا يمكن وصف دواء ناجع له، ولا ترياق يخفّف من أوجاعه الممتدة إلى النفس وإلى الروح. وفي المشهد الختامي للقصيدة يقول شاعرنا: إن الرحيل المفاجئ هذا قد أدمى فؤاده، ليستدعي في لحظة الفراق الصورة المتناقضة والمشبعة بالمرارة، بين مكان حيّ ومفعم بالأصوات والمشاغل اليومية، ومتوّج أيضاً بطلّة المحبوب وجماله، وبين مكان آخر مغاير، تحوّل فجأة إلى طلل مهجور، وقفرٍ موغل في الصمت والسكون، قائلاً: «قفّوا وخلّوا القلب محزون/ حزن ٍ ترضّف لي وليعات»، ويبدع شاعرنا في وصف الحزن هنا، مشيراً إلى أنه «حزن ترضّف»، أي أنه حزن تكثّف وانطوى بعضه على بعض من فرط تتابعه وامتداده وغلاظته، ولم يكتف بهذا الوصف الدقيق، بل أضاف له اللوعة وخلوّ القلب من بقايا الفرح والاستئناس، وكأنه غارق في التيه كله، ومنغمس في البلايا كلها. أعلام الشعر ولد الشاعر سعيد بن سرور المزروعي في نهايات القرن التاسع عشر، بمنطقة اشتهرت بمواردها المائية بين دبي والعين، واستلهم شعره الغزلي المرهف من خاله الشاعر المعروف محمد بن خميس بن مايد المزروعي، والذي تساجل كثيراً مع الشاعر الكبير سعيد بن عتيج الهاملي، وكما يرد في الجزء الثالث من كتاب «أعلام الشعر الشعبي في دولة الإمارات» للباحث الدكتور راشد أحمد المزروعي، أن أجداد الشاعر سعيد بن سرور من جهة والدته كانوا يمتلكون بستان نخيل في محضر «ليوا» بمنطقة الظفرة في أبوظبي، قبل أن ينزحوا إلى المناطق المحتوية على آبار المياه بين دبي والعين، بحثاً عن الرزق ولقمة العيش. ويرد في الدراسة البحثية للدكتور راشد المزروعي أن القصيدة الأولى التي أنشدها الشاعر سعيد بن سرور، هي التي قال فيها: «العود ما يازم بلا دخانه وثر زلّة الشاعر على حيّانه عاينت برّاقٍ بعيدٍ مكانه يعله على «حير اليبل» وأوطانه» والمقصود بـ«حير اليبل» هنا منطقة «جبل علي» بدبي، وهو الاسم القديم لهذا المكان المعروف حالياً، ووراء هذه القصيدة حكاية وثّقها الراوي «سيف بو قبّي المزروعي»، ويرد فيها أن الشاعر سعيد بن سرور كان في «طرشه» أو سفرة على الإبل إلى دبي برفقة خاله الشاعر محمد بن خميس، وكان ذلك في نهاية الثلاثينيات من القرن الماضي، وعندما وصلا إلى «هور الاسيلي» القريبة من دبي، وكان الجوّ بارداً، قام الشاعر الشاب سعيد بن سرور بجمع الأعواد الصغيرة وبقايا الحطب، ليشعل النار، ويجهز الطعام لخاله، وعندما أثارت النار دخاناً كثيفاً قال له خاله: (ورّى وشبّ الهور من الدخانه على وآ الدلّ يلي سكرانه هذاك مربى شرهنا وأوطانه العود مازر الدهر ما شانه) فردّ عليه الشاعر الشاب بقصيدته تلك، وكانت هذه أولى محاولاته في النظم، حيث نجح من خلالها في إثبات موهبته المبكرة، وقدرته على المضي في هذا الدرب الإبداعي إلى حدوده القصوى. ظل شاعرنا يقول الشعر الغزلي الجميل حتى اشتهر به، وأعجب القاصي والداني بنظمه المرهف، ومن قصائده التي تناقلها البدو في جميع أرجاء الإمارات تلك التي مدح فيها أهل «الفقع»، وهي المنطقة الواقعة حالياً جنوب إمارة دبي وتبعد عنها 30 كم، ويقول فيها: «يا عرب لي يبغي الجنّه يسكن «الفقع» ومشاريجه ريت فرخ الهوى وفنّه والغِضي لي زينٍ تِبَرّيجه» ويرد في السيرة الحياتية للشاعر أنه عمل في كدّ الإبل ونقل الحطب من البرّ وبيعه في دبي، حتى انتقل للسكن في «جميرا»، ومن ثم انضم إلى إحدى سفن الغوص، وظل يعمل بمهنة الغوص لسنين طويلة، ووصفه أصدقاؤه ومن عاشروه بأنه كان بشوشاً وسمح الأخلاق وطيّب المعشر، وأنه بعد كساد تجارة اللؤلؤ في الأربعينيات الماضية، أصبح من جلساء المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم - حاكم دبي الأسبق - وكان من رجالاته الذين يعتمد عليهم نظراً لشهامته ورجولته وشجاعته، وقد ولاّه الشيخ راشد بن سعيد مهمة الإشراف على «مربّعة» تقع بمنطقة ديرة وقريبة من منطقة البراحة، وهي عبارة عن برج للحراسة ومتابعة القادمين إلى المنطقة ومعرفة هويّاتهم ونواياهم، وسميت «المربّعة» لاحقاً باسم المشرف عليها شاعرنا: «سعيد بن سرور»، حيث كان الأهالي المقيمون قرب البرج يثنون عليه وعلى شعره، ووصفه الشاعر علي بن سلطان بن بخيت العميمي الذي عمل في «المربّعة» أيضاً، بعد أن غادرها سعيد بن سرور بأنه شاعر فحل قل أن تجد مثله، ومثل أسلوبه الغزليّ المتفرّد. شعره عذبٌ ورقيق الباحث الدكتور راشد المزروعي وصف شعر سعيد بن سرور بأنه شعر يغلب عليه «الردح»، وهو الأسلوب الغنائي المعروف، وأن شعره عذبٌ ورقيق، يكاد ينفطّر شوقاً وولهاً وجمالاً، وأنه لا يطيل في قصائده، ولكنها تضاهي وتتفوق في جودتها على القصائد الطويلة، حيث اختصر في أبياته المكثّفة عصارة فكره وقريحته وعباراته الزاهية بالمعاني والأوصاف الرائعة. الأحاسيس الذاتية توفى الشاعر سعيد بن سرور المزروعي - رحمه الله - بمنطقة الجميرا بدبي في العام 1971م عن عمر يناهز الثمانين عاماً، ولم ينشر له ديوان مستقل، لعدم تدوين قصائده، ورحيل أغلب الرواة الذين نقلوا أبياته الغزلية المرتبطة بأحداث ووقائع عاينها الشاعر، ووثق فيها أسماء المناطق القديمة، فتجلّت من خلال هذه القصائد قدرته على ربط الأحاسيس الذاتية بالأماكن التي سكنها أو زارها، وكانت لطبيعة أشعاره الرائقة، وأسلوبه السهل الممتنع دور في حفظ قصائده وتداولها بين الناس على مرّ الزمن، خصوصاً تلك القصائد التي ذكر فيها تفاصيل فترة المقيظ، وما يتعلق بمهنة الغوص وحنينه إلى دياره وهو وسط البحر، مستعيداً الملامح التراثية والجوانب الاجتماعية بحيثيات نابضة وحيوية وكأننا أمام لوحة بصرية أو مشهد سينمائي حافل بمرئياته ومواضيعه الأثيرة.
مشاركة :