اتكأ الفنان المصري وليد جاهين، في معرضه “إيف 2020” بدار الأوبرا المصرية في القاهرة، على المعطيات الجسدية للمرأة، ليست بوصفها خرائط للمادة، وإنما كإشارات للوضاءة والقداسة والخصوبة والخلود. واستعان في لغته التصويرية بأبجدية تعبيرية مغايرة قادرة على الارتقاء بالمشهد خارج الحسيّات المحدودة واللحظات الثابتة. القاهرة- فضّل الفنان التشكيلي المصري وليد جاهين أن يكون “إيف” وليس “حوّاء” هو عنوان معرضه الفردي السادس عشر الذي يختتم اليوم الجمعة بدار الأوبرا المصرية في القاهرة بعد أسبوع من افتتاحه (20 – 28 أغسطس)، ربما لأن الاسم اللاتيني مقترن في الذاكرة الإنسانية أكثر بالعوالم الفانتازية، التي أرادها في لوحاته محتضنة الكيان النسوي كرمز باذخ الدلالات. وجد الفنان ضالّته في “إيف” (النّفَس والحياة)، فاستحضرها من عوالم الإنس والجن والملائكة والأساطير والملاحم الموروثة، ليضخّ في الحاضر المختنق هواء جديدا مُنعشا للأرواح، ويُكسب الموجودات طاقة حيوية، ويُعيد إنتاج المرأة القوية المتجردة من مساحيقها وزينتها الاصطناعية كنسق جمالي وإنساني متفوّق، يجدر الالتفات إليه بافتتان وامتنان وتقدير، بعيدا عن الصورة الفيزيائية النمطية التي سيطرت على الكثيرين في تعاملهم مع الملامح والتراكيب الأنثوية. وجاء معرض التشكيلي وليد جاهين (46 عاما) استكمالا لمجموعة معارضه الأخيرة، ومنها “إلى الآخر” و”رومانسية أخرى” و”مسافر زاده الخيال” و”اللقاء”، التي تجلى فيها الحضور الأنثوي الطاغي كخط أساسي في لوحاته، إلى جانب شغفه الكبير بمفهوم الزمن وحركته الدائرية وما يتعلق به من تساؤلات. الحضور السحري استدعاء المرأة المتمردة من الحضارات القديمة والأساطير استدعاء المرأة المتمردة من الحضارات القديمة والأساطير في المعرض الأحدث لجاهين، الحاصل على الدكتوراه في الفنون الجميلة في مجال التصوير، حرّر الفنان المرأة كصوت منفرد وثيمة مستقلة بذاتها، فكانت سيدة العصور: الماضي، والحاضر، والمستقبل، وتوزّعت التجربة على أكثر من خمسين لوحة زيتية، وُلدتْ بدورها من رحم الزمن، على نار هادئة، بغير مخاض ولا افتعال. انصهر جاهين تماما في معشوقته “إيف” حد الجنون، فكانت هذه الـ”هي” الغرائبية المتدفقة يقظته ومنامه، وواقعه وأحلامه، وحقيقته وأسطورته، وسجّل الفنان في مانيفستو المعرض اعترافه بأنه تماهى إلى أقصى درجة مع الساحرة القادمة من المجهول؛ “استطاعت إيف أن تستحوذ على كل مُخيلتي، ولم تترك مساحة لي، أنا الرجل الذي تلاشى حتى ظله من كل اللوحات. فرضتْ بهيئتها النسب والمساحات، أخضعت بملمسها قيما أجد فيها خصوصية جديدة عليَّ، إنها مُلهمتي”. في لوحاته أمعن الفنان في إثبات احتفائه بالمرأة والانتصار لها بكل المقاييس، ليس فقط على مستوى إفساح دور البطولة لها في جميع المسطّحات المتاحة، التي شغلتها بكامل جسدها في معظم الأحوال، وإنما كذلك بتجسيم حضورها الهيكلي بالأبعاد الثلاثية ككتلة مرنة منحوتة مهيمنة على الفضاء المحيط، وتمكّن المصوّر من هذه الآلية التجسيدية البارعة من خلال حساسيته الفائقة في استخدام الألوان ومراعاة التناغم والتنافر بين درجاتها وظلالها. وازن الفنان المصري كذلك بين الخارجي السطحي الظاهر والداخلي الباطني الكامن، ليقدّم في منظومته العميقة الوجود الحقيقي للمرأة كجوهر وضمير وطقس نفسي وحالات مزاجية وانفعالية متفجرة، ما أضفى ديناميكية على اللوحات التي بدت بوتقة للمشاعر والنبضات. ولم يُعن كثيرا بتفاصيل الوجوه والملامح والاستغراق في التشكلات المنظورة بالمعنى التشريحي، كون النزعة في عمومها أقرب إلى التجريد والترميز والسيولة والتكريس لما هو شفيف ونوراني. اعتمد وليد جاهين معاييره الخاصة للجمال الأنثوي، وجاءت تلك المعايير متسقة مع فلسفته الكلية الآخذة بتقصّي أصول الأشياء وما وراء الظواهر، فلم يصوّر مواضع الفتنة لدى المرأة ومواصفات الأنوثة وفق قياساتها السائدة في مسابقات الجمال مثلا، وإنما جاءت ملكاته متوّجات بإشعاعات فيضية آسرة، قادرة على التسلل همسا إلى الحواس، واستعمارها تماما، من غير لجوء إلى الصخب المُخادع والبهرجة الزائلة. لم يترصّد الفنان كذلك، حتى في لوحاته المحسوبة على التعرّي الجزئي والكامل، ما هو شهواني واستثاري، فعلاقات الحب لديه بكل تجلياتها وتمثلاتها هي مسحات من التشوّف والتشوّق والتعفّف والخيال، وعبارات التغزّل بين العاشقين هي أناشيد تصوفية، وسياحة حواء على الأرض بالقرب من آدم هي بمثابة غَرْس للرياحين، وَمَدّ للظلال، وَعَزْف على أوتار الآلات الموسيقية، وَشَحْذ لهمة الرجل، وَشَحْن لإرادته الحرة وتمرّده وقدرته على الخلاص من قيوده، وصولا إلى كون أغزر مَحَبّة، وأوفر عدلا، وأكثر نجوما ومصابيح. قنص الحياة سيطرة "إيف" الواثقة على المشهد سيطرة "إيف" الواثقة على المشهد قدّم وليد جاهين في لوحات “إيف 2020” رؤية جمالية تفاؤلية، مفادها باختصار: إمكانية قنص الحياة المأمولة، وإيجادها من العدم، عبر جسر الفن العابر للمسافات والأزمنة. رسم الفنان حوّاءه الناصعة المفعمة بالمرح والخصوبة والحيوية، المشهود لها بالإسهامات الحضارية والمعرفية والعملية، ومشاركة الرجل منجزاته عبر التاريخ الإنساني الزاهي، خصوصا الفرعوني، واليوناني، واستعاد من خلال “إيف” المرجوّة في 2020 ذكرى الوجه المشرق للتعاون والتكامل بين الجنسين في مراحل ناضجة من عمر البشرية. نجح الفنان بطريقة غير مباشرة في توصيل رسالة اجتماعية احتجاجية على وضعية المرأة في اللحظة الراهنة، في مصر والكثير من الدول العربية، حيث باتت تعاني التمييز والعنف النفسي والبدني والتنمر والتحرش وإهدار الحقوق الأساسية وإشكالات أخرى لا حصر لها، ما جعل الحركات النسوية والإصلاحية تنتفض من أجل تمكينها ومناصرتها. لوحات وليد جاهين تطلق رسالة احتجاجية على وضعية المرأة العربية في اللحظة الراهنة بمصر والعالم العربي هذه الرسالة الفنية التي بثّها جاهين لم تكن بالتركيز على انكسارات المرأة المستضعفة، المأزومة والمهزومة، وإنما بإضاءة النموذج الإيجابي “إيف”، أي المرأة المعادلة للحياة برمّتها، التي لا يمكن للرجل أن يعثر على ذاته إلاّ باللجوء إلى دفئها. وقد انسحبت عطايا هذه “المرأة – الحياة” على الوجود كله، وليس على الرجل فقط، فهي جاذبية الأرض، وقدسية السماء، وعذوبة النهر، وعطر النسيم، ورحيق الفواكه، وجموح الخيول، وأنغام الموسيقى، وهي البداية والنهاية وما بينهما من احتمالات.
مشاركة :