عرفت المساجد المصرية وأروقتها وساحاتها وميادينها منذ عهد بعيد كافة مظاهر الإنشاد الديني والابتهالات وحلقات الذكر الصوفي والأدعية والمناجاة الإلهية، خصوصا في المناسبات الدينية مثل شهر رمضان وليلة القدر والأعياد والمولد النبوي وموالد أهل البيت والأولياء. ونضجت هذه التجليات الروحية بشكل كبير خلال الفترة الماضية، وتحوّلت إلى فنون عصرية مكتملة الأركان يمارسها مبدعون مختصّون ومحترفون. القاهرة- بسبب الإجراءات الصحية التي فرضتها جائحة كورونا المستجد، لا تزال المساجد مغلقة في مصر على مدار اليوم، باستثناء أوقات إقامة الصلوات الخمس فقط، كما لا تزال الموالد وسائر الاحتفالات الدينية معطّلة لمنع التجمعات البشرية في الجوامع والأمكنة المحيطة بها. ومن هناك أسهمت هذه الإجراءات على نحو غير مباشر في تحوّل الليالي الصوفية والابتهالات وحلقات الذكر والإنشاد من إرهاصات دينية وروحية وتراثية في المساجد إلى حفلات فنية كبيرة معتمدة، تنعقد دوريا في مسارح وباحات متعددة حكومية وأهلية، كما تقام لها مهرجانات محلية ودولية. وفي الفترة القصيرة بين عيدي الفطر والأضحى الماضيين، شهدت القاهرة عددا كبيرا من الحفلات في مسارح “النافورة” و”المكشوف” و”الهناجر” في ساحة دار الأوبرا المصرية، وفي ساقية الصاوي والمسارح الخاصة والمستقلة، تحت عناوين متقاربة، من قبيل “ليلة صوفية”، “حفل إنشادي”، “سهرة الذكر والموسيقى الروحية” وغيرها. وتقود في نهاية المطاف إلى مضامين متشابهة تعكس تطوّر الابتهالات والأدعية والأذكار والحلقات الصوفية التي احتضنتها الموالد والمساجد والاحتفالات الشعبية والدينية على مدار سنوات طويلة في أحياء القاهرة. هذه الفنون الأصيلة المطوّرة، التي اجتذبت جمهور الحفلات الجديدة من الكبار والصغار على السواء، لم تقدّم التقليدي والمرتجل والمحفوظ في ذاكرة الأجيال مثلما كان الحال في ليالي المساجد، وإنما لجأ مبدعوها من المختصّين والمحترفين أمثال المنشد الشيخ إيهاب يونس والمطرب والمنشد وائل الفشني إلى التجديد والتحديث على مستوى الكلمة والنغم والإيقاع والأداء. كما انفتحت أعمالهم المدهشة على صيغ تراثية متنوعة، محلية ووافدة، منها مربعات ابن عروس والسيرة الهلالية والترانيم الكنسية والجاز والإيقاعات الأفريقية وسائر روافد الفلكلور المصري والعربي والعالمي، في الشعر والموسيقى. الهدف الأسمى للفن هو إيقاظ الأرواح وإنعاشها، وتعزيز القيم الإنسانية العليا من خلال الدعوة إلى الحقّ والخير والسلام والمحبة والإخاء بين البشر، على اختلاف معتقداتهم وأيديولوجياتهم وأعراقهم وانتماءاتهم. ومن هنا، لم يكن صعبا تطوير الفنون الدينية والروحية في إطار إنساني مشترك، واتخاذها منصة سحرية لإطلاق أفكار وتصوّرات تتعلق بالتطهّر وتعرية النفس والتقرّب إلى الخالق والتعبير عن الحرية والاستغناء، والعزف على أوتار المعاني النبيلة والمفاهيم المتعلقة بالإيمان والقداسة والتسامح ونبذ العنف والتعصب. مع الكلمات الدالة المعبّرة في روائع الابتهالات والإنشاد والتسابيح، المصحوبة بالموسيقى الصوفية الشفيفة، هناك دائما الإيماءات والإشارات والحركات الدورانية المجسّدة للتقارب مع الذات الإلهية، مع التحرّر التام في المناجاة الصافية والتضرّع من القيود والماديات، والاستغراق في عالم الأنوار وفضاء الإشراقات ومقامات الصعود السماوي. انطلقت الموسيقى الروحية والابتهالات من “البرواز” الضيّق إلى آفاق عليا لا حدود لها، ومن هنا اتسعت لها مهرجانات كبرى محلية وعالمية، منها مهرجان سماع الدولي السنوي بالقاهرة، الذي يكرّس للتقارب بين ألوان الموسيقى الروحية والدينية حول العالم، من أجل صياغة “رسالة سلام”، لتعزيز التواصل الإنساني والاندماج وتعميق الحوار الحضاري بين البشر، من خلال الإنشاد والأنغام التي تمتزج فيها ترانيم الكنائس وأجراسها، مع أذان المساجد، وتسابيح المتصوفة القائلة “نغني معا، نصلي معا”. وبالإبحار في التاريخ، يخبرنا بأن المصري القديم، كما ورد في المتون الفرعونية، كان يصلي في فناء مفتوح للسماء مستقبلا الشرق في الفجر، والغرب في الغسق، حتى ينفتح الكون أمام أصوات ترانيمه ومدائحه الإلهية، وتتجلى الأرض العظيمة، وتمسك بهمسات أوراقها الأشجار، فالفنون الروحية منذ الأزل نبض المتعطشين إلى التطهر وتجاوز غبار الواقع وأدخنته. لقد كان النبع الذي استقت منه مصر الفرعونية ديانتها هو الارتقاء بالروح نحو النور، ويقال إن الفضل يعزى للإله “تحوت” في بث إشعاعات الموسيقى التي كان يستغلها “أوزيريس” في مساعيه إلى تحضّر العالم. هذا ما يصفه المؤلف الموسيقي المايسترو هشام جبر، في تصريح إلى “العرب”، بالفرادة والاستثنائية في شخصية الموسيقى المصرية “تلك التي استوعبت منذ نشأتها الفرعونية إضافات ثرية من سائر الثقافات، حيث انفتحت على الموسيقى العربية والأوروبية والأفريقية، فضلا عن الموسيقى المتوسطية المتأثرة بموسيقى البلقان وأوروبا الوسطى والأندلس، وقد ظلت الموسيقى المصرية ذات الطابع الروحي عبر العصور ركيزة في البناء الحضاري”. هذا التراث الحافل بدا ماثلا في أذهان صنّاع فنون الابتهالات والإنشاد والموسيقى الدينية والشعبية الجديدة في مصر، منهم المطرب والمنشد وائل الفشني صاحب الأعمال ذائعة الصيت “واحة الغروب”، “فاح المسك”، “مملكة الغجر”، “يا مدعي الكبر”، “ما تدمعيش يا مايا”، إلى جانب أغنية “خسارة الحر” في تتر مسلسل “طايع”، التي حقّقت نجاحا مدويا. من أبرز ملامح التحديث لدى فناني الإنشاد والابتهالات الجدد كسرهم للقالب، وعدم اتكائهم على الإرث المصري وحده والرافد الديني، ففي أعمال الفشني على سبيل المثال انفتاح واسع المدى على الثيمات والأشكال التراثية العربية المختلفة، على مستوى الكلمات والموسيقى، فهناك ظلال للموال الصعيدي، وتأثرات بفن العديد (المراثي)، واطلاع على السيرة الهلالية، ومربعات ابن عروس، وهو الشاعر المتصوف التونسي صاحب “فن الواو” الشعبي المعروف. كذلك ثمة تماسّ مع فن “الأبوذية” في الشعر الشعبي العراقي، بمعنى “صاحب الأذية” أي صاحب الوجع والحادث المؤلم، كما تتداخل أعمال الفشني في موسيقاها وتوزيعاتها مع الإيقاعات الأفريقية وتقنيات موسيقى الجاز الشهيرة. إن فنون الابتهالات والإنشاد والموسيقى الروحية العصرية هي ابنة شرعية أكيدة للتراثيات المصرية والعربية، ولتلك التجليات والإرهاصات التي عرفتها ساحات المساجد وحلقات الموالد والذكر والتصوف منذ مئات السنين، لكنها في الوقت نفسه في ثوبها المسرحي والأوبرالي الجديد مشحونة بنتاج ثقافي إنساني متسع ومتعدد وعميق.
مشاركة :