الخطيئة الأولى.. «أنا خير منه»

  • 8/30/2020
  • 01:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

نتذكر كلنا أنه حينما خلق الله سبحانه وتعالي سيدنا آدم عليه السلام طلب جل جلاله من الملائكة أن تسجد لآدم عليه السلام، وذلك تعظيمًا وتكريمًا له عليه السلام، وكان يمكن أن تنتهي القصة عند هذا الحد، إذ إن الملائكة كلهم ومن غير استثناء سجدوا له عليه السلام إلا إبليس عليه لعنة الله، لأنه -كما تشير الروايات- لم يكن من الملائكة، وإنما كان يحاول أن يرتقي إلى منزلة الملائكة، عمومًا هذه ليست القضية، وإنما هذا المخلوق رفض أن يسجد لآدم عليه السلام، وعندما سأله الله سبحانه وتعالى -وهو العالم بخفايا النفوس- عن سبب هذا التصرف المخالف لتعاليمه سبحانه وتعالى قال إبليس كما ورد في سورة الأعراف – الآية 12 (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ).ويمكن الملاحظة هنا أن إبليس لم تكن لديه حجة في الخيرية والأفضلية إلا بمادة الخلق، فهو من نار وآدم عليه السلام من طين، ولا نعلم لماذا تخيل إبليس أن النار أفضل من الطين؟لم يقل إبليس -مثلاً- أنا أحاول أن أرتقي لأصبح ملاكًا، أو أني أسمى منه في العقل والتفكير، أو أني أفضل منه أخلاقًا، بمعنى آخر أن إبليس لم يرتق بتفكيره إلى أن هناك معايير للأفضلية والخيرية، وأن هناك قيما وأن هناك مبادئ يمكن أن تؤخذ في الاعتبار للأفضلية والخيرية، ولكن حدود تفكيره الضيق أوصله إلى أن الخيرية والأفضلية في مادة الخلق فحسب، على الرغم من أنه لم يكن لديه الخيار في اختيار مادة الخلق، فهو سواء خُلق من نار أو طين، فكلتاهما مادة موجودة في الكون، وهي مواد خلقها الله سبحانه وتعالى كما خلق كل شيء في الوجود، فإبليس لم يختر أن يكون من نار أو طين، وكذلك -كما قلنا- مَن قال إن النار أفضل من الطين حتى تكون له الأفضلية على آدم عليه السلام؟ومن ناحية أخلاقية فإن إبليس وجد في نفسه أنه الأفضل بسبب أن أخلاقه الدنيوية سحبته إلى الأرض فاعتقد أنه الأفضل، لأنه كان يعاني من مرض نفسي يعرف (بالكِبر والتكبر). والكِبر كما جاء في الحديث النبوي الذي رواه مسلم «الكِبْر بطر الحق، وغمط الناس»، بمعنى رد الحق وجحده، وبالتالي احتقار الناس وازدراؤهم.ويقول علماء النفس إن المتكبر إنسان يشعر بالنقص فيريد أن يكمل نقصه بالتكبر ليجد من ينظر إليه ومن يتحدث معه فهو تعويض لنقص ما عنده، فيلجأ هذا الإنسان المتكبر إلى سد احتياجاته النفسية بأن يتمسك بسلوك الغرور والتكبر تعويضًا لمشاعر أخرى قد تكون غير واعية في عقله الباطن، فهو يجعلك تظن أنه أعلى البشر كافة، إلا أنه لا يدرك أنه مفضوح لأنه إن مشى تخبرك مشيته من هو، وإن تكلم تخرج كلماته واضحة جلية أنه متكبر ويحب الظهور.والإسلام كدين واقعي، يتعامل مع الواقع بموضوعية ويحارب مظاهر الفساد بمختلف أنواعها بمنهجية وموضوعية ذكية، لذلك استطاع أن يتعامل مع هذه النوعية من الأمراض المجتمعية بطريقة واضحة وصارمة، وكذلك لم يعتبر أن المجتمع الإسلامي مجتمع نزيه وخالٍ من الأمراض وإنما تعامل مع هذا المجتمع كأي مجتمع يمكن أن يعاني من العديد من الأمراض الاجتماعية والفكرية وغيرها، فنحن لسنا في الجنة حتى تخلو مجتمعاتنا من كل تلك الملوثات ومظاهر الفساد، لذلك تصدت العديد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة لموضوع الكِبر، ولعل قصة إبليس يمكن اعتبارها أكبر دليل على ذلك، وهذا حدث في مجتمع الملائكة فما بالنا نحن البشر؟عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، قال: «لا يدخل الجنَّة من كان في قلبه مثقال ذرَّة من كبر. فقال رجل: إنَّ الرَّجل يحبُّ أن يكون ثوبه حسنًا، ونعله حسنة؟ قال: إنَّ اللَه جميل يحبُّ الجمال، الكبر: بطر الحقِّ وغمط النَّاس»، رواه مسلم.إذن في الإسلام الكِبر واضح وحب الجمال والنظافة واضحان، ولا لبس بينهما، وذلك بسبب أن هذه الأمراض تؤدي إلى تمزيق المجتمعات من الداخل، فتخلق فراغات وتصنع فئات في المجتمع لا يمكن المساس بها لأنها تعتقد أنها فوق البشر، لذلك فإنها تتصرف بطريقة غير لائقة وغير سوية إلا أنه لا يمكن المساس بها، لأنها -كما تعتقد- فوق البشر، بمعنى أنها ترتكب الخطيئة الأولى ومع ذلك فإنها لا تُحاسب.واليوم في مجتمعاتنا تمارس الخطيئة الأولى بكل وضوح، وبكل عنف، وبكل جراءة.فيتقدم اثنان لوظيفة -مثلاً-  يُقبل هذا ولا يقبل الآخر، على الرغم من أن الآخر ربما يكون أفضل من الناحية العلمية والأدبية والفكرية بكثير من الأول، إلا أن الأول ابن فلان من البشر، أو من القبيلة الفلانية، أو ينتمي أو ينتمي والده إلى الحزب أو الجمعية الفلانية.يتقدم فلان لخطبة بنت فلان، على الرغم من مهاراته وقدراته وإمكانياته، إلا أنه يُرفض لأنه لا ينتمي إلى القبيلة الفلانية أو لأنه ليس بالمستوى الاجتماعي لأسرة البنت.تطلب مقابلة أحد المسؤولين لأن معاملتك في الوزارة أو الجهة المعنية معلقة ولا يستطيع إلا هذا المسؤول حلحلتها، ولكنه يرفض مقابلتك وبسبب بسيط لأنك لم تأت من طرف فلان من الناس، بمعنى أنه ليس لديك واسطة.وقس على ذلك الكثير من الأمور التي تنخر في المجتمعات العربية اليوم وأصبح من الصعب التخلص منها، وذلك لأن البشر يعتنقون الخطيئة الأولى، ففي اعتقادهم أنها الحصن القوي الذي يمكن أن يحميهم من شرور الناس الآخرين، أو أنها يمكن أن تجملهم وتعطيهم مساحة أفضل بين البشر، لأن الأفضلية والخيرية في اعتقادهم في النسب والامتداد التاريخي فقط، كما اعتقد إبليس أن الأفضلية والخيرية في نوعية المادة التي صُنع منها، ولكن ألم يسأل هؤلاء أنفسهم لماذا أنا أفضل من ذلك الشخص المتعلم والمفكر؟ لماذا ابني أفضل من ابنه أو ابنتي أفضل من ابنته؟ ولماذا نسبي وديني أفضل؟ هل أنا من أختار نسبي وقبيلتي وموقعي من الدنيا حتى أكون أنا الأفضل؟حسنٌ، إن لم تكن كل تلك الأمور الدنيوية تعطيني الأفضلية والخيرية على بقية البشر، فما المعايير التي يمكن أن ترتقي بي لأصبح الأفضل أو الأكثر رقيًّا بين الناس؟ هل هو العلم، أم المال، أم الأخلاق، أم الجمال أم ماذا؟يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا أيُّها الناسُ إنَّ ربَّكمْ واحِدٌ ألا لا فضلَ لِعربِيٍّ على عجَمِيٍّ ولا لِعجَمِيٍّ على عربيٍّ ولا لأحمرَ على أسْودَ ولا لأسودَ على أحمرَ إلَّا بالتَّقوَى إنَّ أكرَمكمْ عند اللهِ أتْقاكُمْ».ويمكن الملاحظة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ينتمي إلى أفضل قبائل العرب وأوسطهم حسبًا ونسبًا حدد الأفضلية والخيرية في القرب إلى الله سبحانه وتعالى، ولم يتعالَ هو بنسبه أو قبيلته أو فصيلته ويشعرنا أنه الأفضل، وإنما تسامى هو على كل ما يؤدي إلى الكِبر والتكبر والخطيئة الأولى والتراب والأرض والدنيا ليرتقي هو بالقرب والتقرب إلى الله سبحانه وتعالى، فبلغ القمة حتى عند أعدائه.ولكن، لماذا التقوى والقرب إلى الله سبحانه وتعالى هما معيار الارتقاء والسمو؟لنتخيل مثلثا، في قمة المثلث يوجد لفظ الجلالة، وعلى الضلع الأيمن يوجد لفظ الإنسان، وعلى الضلع الأيسر يوجد لفظ الأخلاق والعلم والأعمال الإيجابية وكل الأعمال السامية التي يطمح إليها الإنسان، ونحن نعلم أن هذه الأعمال السامية بجميع صورها مربوطة عند جميع البشر بالله سبحانه وقريبة منه جل جلاله، لذلك فإنه كلما ارتقى الإنسان لبلوغ قمة المثلث أي بلوغ رضا الله فإنه حتمًا سيقترب من الأعمال السامية، وكلما ارتقى أكثر بلغ الأعمال السامية حتى تصبح تلك الأعمال ديدنه، عندئذ يتنزه هذا الإنسان عما في الدنيا والأرض ويبتعد عن الخطيئة الأولى، فيتعلم العلم من أجل العلم والارتقاء الذاتي، لأن العلم والتعلم مرتبطان بالله سبحانه، ويسمو بأخلاقه عن البشر والخطايا لأن الله أمره بذلك، فيتاجر التاجر ويتعامل مع الناس بهذا السمو والأخلاق التي أمره بها الله سبحانه، ويسير في الأرض بغير كِبر وعجب، ولا يتعامل مع بقية البشر بفوقية ونظرة متعالية، ولا يسرق ولا يأكل أموال الناس، ولا يزدري ولا يحتقر أحدا حتى وإن كان من كان، وإنما يجعل نفسه مثل بقية البشر، وربما هنا تأتي مرحلة الإحسان (اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) فهذا الإنسان ينشد رضا الله سبحانه لذلك لا ينسى أن الله يراه في جميع اللحظات، لذلك تصبح هذه التقوى هي الرادع من أي أمر مخالف لرضاه. هذه التقوى تمنع هذا الإنسان من أن يفرض ابنه أو ابنته على الأعمال والوظائف التي ربما يستحقها إنسان آخر، تمنع هذه المسؤول من أن يغلق أبوابه عن العملاء المحتاجين لمقابلته وتسهيل أمورهم، تمنع الإنسان من الحسد والنظر فيما وهب الله سبحانه وتعالى غيره من النعم.ومن ناحية أخرى لا يمكن أن يدعي هذا الإنسان -مهما كان- أنه تقي وورع وأنه قريب من الله سبحانه، فهذه العلاقة سرية بينه وبين خالقه، ولا يعلم مدى تقواه وورعه إلا هو سبحانه وتعالى، لذلك عندما يمتدح عادة أي إنسان على الملأ من المهم أن نقول «ولا نزكي على الله أحدا»، لماذا؟ لأننا كبشر لا نعلم خفايا النفوس وإنما الذي يعلمها هو الله سبحانه، ولكن في المقابل فإن هذه التقوى والورع يمكن أن تظهر وتضح في سلوكياته وأخلاقه وحسن تعامله مع الناس، فعن جابرٍ بن عبدالله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا، وإن من أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون». قالوا: يا رسول الله قد علمنا الثرثارين والمتشدقين فما المتفيهقون؟ قال: «المتكبرون»، رواه الترمذي وصححه الألباني.فالأخلاق والسلوك الحسن هي الصور التي يمكن أن تظهر على الإنسان التقي، فصلاح النفس الداخلية حتمًا سينعكس على الصورة الخارجية، شئنا ذلك أم أبينا.ولنعد إلى إبليس الذي رفض الانصياع بسبب الخطيئة الأولى (أنا خير منه) فنفاه الله سبحانه، وها هو اليوم يحاول أن يزرع هذا السلوك غير السوي في عقول ونفوس أبناء آدم عليه السلام حتى يكونوا مثله، لذلك أعتقد أنه يجب أن نسمو على كل ذلك وأن نرتقي بسلوكنا وأخلاقنا، فالأفضلية والخيرية ليست للنسب والانتماء البشري، وإنما يجب أن نعيد النظر في تفكيرنا ولنفكر بصورة أخرى، فلا أنا أفضل منك ولا أنت أفضل مني.Zkhunji@hotmail.com

مشاركة :