توقيع الحكومة السودانية اتفاق سلام مع الجبهة الثورية يشكل خطوة نوعية في تصويب مسار الفترة الانتقالية، وإن كان ذلك لا يعني أن الأمور ستنساب بسلاسة في وجود ثغرات عدة قد تنسف ما تحقق. الخرطوم – وقعت الحكومة السودانية الاثنين اتفاق سلام بالأحرف الأولى مع الجبهة الثورية التي تضم حركات مسلحة وتنظيمات سياسية، بعد عام تقريبا من بدء المفاوضات التي كان من المقرر أن تنتهي في فبراير الماضي، لتكون بمثابة طوق إنقاذ جديد للمرحلة الانتقالية التي تواجه عثرات سياسية واقتصادية تهدد تماسكها مع توالي الاحتجاجات والاعتصامات في الشارع. حضر مراسم التوقيع رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق أول عبدالفتاح البرهان ورئيس الحكومة عبدالله حمدوك، إلى جانب رئيس دولة جنوب السودان سليفاكير ميارديت، وقيادات الجبهة الثورية وعدد من المبعوثين الدوليين الذين شاركوا في عملية الوساطة. وقال حمدوك في تغريدة له على تويتر “إن السلام يمنح البلاد طاقة جديدة لمواصلة المسير في طريق البناء، وإن الاتفاق سيلقي بمهام إضافية منها تنزيل السلام كواقع بين المجتمعات المحليّة، واستكمال خطوات ومراحل السلام الشامل تلبية لتطلعات الشعب وثورته المجيدة في العدالة والاستقرار والتنمية”. ورغم الأجواء الإيجابية التي عمت أرجاء السودان بالتزامن مع مراسم التوقيع، تبقى هناك تخوفات من عدم قدرة الاتفاق على إنهاء الأزمات القبلية المتفاقمة في شرق السودان ودارفور والتي تتصاعد كلما اقتربت المفاوضات من نهايتها، ما يعني أن تطبيق السلام على الأرض قد يواجه بعض العثرات، وعلى الحكومة الدخول في مفاوضات شاقة أخرى مع الحركات التي لم توقع على الاتفاق. الهادي إدريس يحيى: تغييرات سياسية ستطرأ على شكل التحالف الحكومي الهادي إدريس يحيى: تغييرات سياسية ستطرأ على شكل التحالف الحكومي ووقعت على الاتفاق أربع حركات مسلحة هي: العدل والمساواة بقيادة جبريل إبراهيم، وحركة جيش تحرير السودان بقيادة مني أركو مناوي، والمجلس الانتقالي الثوري بقيادة الهادي إدريس يحيى، وهي حركات تتواجد في دارفور، إلى جانب الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال بقيادة مالك عقار، في جنوب كردفان والنيل الأزرق. يعد تسريع مفاوضات السلام هدفا رئيسيا لمسيرات تصحيح مسار الثورة التي انطلقت في 30 يونيو، ووعدت الحكومة بالانتهاء منها في أقرب فرصة، ما يجعل الوصول إليه مهما لتهدئة الشارع خاصة في بعض مناطق الهامش التي عجت بالاحتجاجات والاشتباكات القبلية منذ الإعلان عن تعيين الولاة المدنيين الشهر الماضي. ومن المقرر أن تبدأ السلطة الانتقالية في خطوات تشكيل المجلس التشريعي الذي تأخر لمدة تسعة أشهر بسبب المفاوضات التي جرت في جوبا، وكذلك فإن الحكومة ستعيد ترتيب أوراقها وسيكون أمام حمدوك خياران؛ إما تعيين وزراء جدد بدلا من الذين قبل استقالتهم، أو الذهاب مباشرة باتجاه تشكيل حكومة تشارك فيها قيادات الحركات المسلحة التي سيكون مخصصا لها ربع المقاعد بحسب نص الاتفاق. يرى مراقبون أن الحكومة تمضي باتجاه بناء جسور الثقة بينها وبين مكونات الهامش وأن تقديمها جملة من التنازلات خلال المفاوضات ومخاطبة اتفاق السلام لجميع قضايا النازحين واللاجئين يبرهنان على أنها جادة في بدء مرحلة جديدة بعيدا عن الصراعات القديمة بين المركز والهامش، ما يمنحها قدرا من الهدوء تحتاج إليه لمجابهة الأزمات الاقتصادية. قال رئيس الجبهة الثورية الهادي إدريس يحيى إن التوقيع بالأحرف الأولى على اتفاق السلام يعد إنجازا تاريخيا سيظل محفورا في ذاكرة جميع السودانيين، والفترة المقبلة سوف تشهد الاتفاق على موعد التوقيع النهائي وقد يكون خلال شهر سبتمبر الجاري، إضافة إلى التوافق حول توقيتات تنفيذ بنود الاتفاق على أرض الواقع. وأضاف في تصريحات لـ”العرب” أن جوبا سوف تشهد مباحثات مكثفة حول الجهة الممولة لاتفاق السلام، وليس من الواضح بعد إذا كانت هناك دولة ما عرضت تمويل الاتفاق من عدمه، غير أن مؤتمر أصدقاء السودان قدم تعهدات بدعم عملية السلام. وقلل رئيس الجبهة الثورية من تأثر السلام نتيجة غياب الحركة الشعبية – شمال بقيادة عبدالعزيز الحلو وحركة جيش تحرير السودان بقيادة عبدالواحد نور، واعتبر أن الأهم مناقشة الاتفاق لكافة القضايا السياسية والأمنية المرتبطة بأزمات الهامش، بحيث يكون شاملا وقابلا لانضمام أي حركة راغبة في السلام مستقبلا. وكشف إدريس لـ”العرب” عن إرسال وفد رفيع المستوى من الجبهة إلى الخرطوم لتدشين العمل السياسي من الداخل قبل أن تعود جميع قيادات الجبهة في أعقاب التوقيع النهائي، وهناك تغييرات سياسية ستطرأ على شكل التحالف الحكومي من خلال تفعيل أدوار الجبهة الثورية داخل تحالف الحرية والتغيير، وأن هناك هدفا أساسيا تسعى إليه قوى الثورة يتمثل في ترميم الحاضنة السياسية وتوسيع القاعدة الشعبية للائتلاف الحكومي. غير أن تلك النقطة قد تشكل إحدى ثغرات الخلاف لأن القوى المهيمنة على تحالف الحرية والتغيير لن تتنازل بسهولة عن مواقعها الحالية لصالح الحركات المسلحة، وتقوية التحالف الحكومي أمر يخضع لتوازنات بين المكونين المدني والعسكري، وقد يتسبب تغيير بنية التحالف في نشوب أزمات بين الطرفين إذا لم يكن هناك توافق بينهما. وثمة نقطة مفخخة ترتبط بإطالة أمد المرحلة الانتقالية التي سوف تبدأ من جديد لمدة 39 شهرا منذ التوقيع على السلام، إذ لم يجر حسم توزيع توقيتات رئاسة المجلس السيادي الذي يترأسه العسكريون منذ العام الماضي وفقا للوثيقة الدستورية، وهو أمر سيكون مثار جدل. ويتخوف عسكريون من إمكانية حدوث انتكاسة في ملف السلام حال واجه ملف الترتيبات الأمنية أي عثرات تحديدا وأن فترة دمج وتسريح الجيوش سوف تستمر لفترة تصل إلى ثلاث سنوات وثلاثة أشهر، غير أن الهادي أدريس يحيى أكد أن المفاوضات وضعت في اعتبارها هذا الأمر والحكومة ستمد جسور الثقة بينها وبين جيوش الحركات من خلال دفع رواتبهم منذ لحظة بدء تدريبهم في معسكرات مشتركة تشارك فيها الجيوش النظامية مع الحركات. ومنح اتفاق السلام حكما ذاتيا لمنطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان ويكفل لهما حق التشريع وتأسيس نظام تشريعي قائم على دستور 1973 ويقسم موارد ومداخيل المنطقتين بنسبة 60 في المئة للسلطة الفيدرالية و40 في المئة للسلطة المحلية. ويعد هذا البند ضمن الاتفاق السياسي بين مسار المنطقتين والحكومة مثار قلق بالغ لأن حركة الحلو التي لديها تواجد عسكري مكثف في جنوب كردفان لم توقع على الاتفاق، وإصرارها على موقفها يصعّب من تنفيذه، وقد يبقى تطبيق الاتفاق مؤجلا إلى حين استئناف المفاوضات مع الحلو مجددا. وبرأي المحلل السياسي خالد المبارك، فإن الإدارة الذاتية للمنطقتين تجنب السودان خطر انفصال جزء آخر من جسمه بعد أن رفض النظام البائد نفس الطلب من جنوب السودان، ووضع إدارة شؤون المنطقتين بيد أبنائها في داخل إطار السودان الموحد ينهي استخدام بطاقة هيمنة المركز على ثروات الهامش وينفي تهمة التهميش عن الحكومة الحالية، وأن سلطة المنطقتين سوف تستعين بالخرطوم لإدارة شؤونها. وأضاف لـ”العرب” أن توقيع السلام يضع ركيزة أساسية لإنهاء الحروب الأهلية، وبالتالي فهو يوم تاريخي سوف يتم الاحتفاء به في المستقبل، كما أن أهمية الاتفاق تنبع من تغيير الصورة النمطية للسودان أمام العالم، وبفتح أبواب اندماج البلاد بالمجتمع الدولي والنظام المالي العالمي. وأشار إلى أن ربط الولايات المتحدة بين رفع اسم السودان من لائحة دعم الإرهاب وبين التوصل إلى اتفاق سلام ساهم في تعقيد المفاوضات بعد أن استغلت بعض الحركات الفرصة للحصول على المزيد من المكاسب قبل أن يتدخل أصدقاء السودان للتلويح بتوقيع عقوبات على معرقلي السلام ما ساهم في تحريك الملفات العالقة.
مشاركة :