أظهرت مصر حنكة دبلوماسية وهدوءا كبيرين في المناقشات المطروحة حول الوضع الأمني في ليبيا وخاصة في ما يتعلق بمقترح المنطقة منزوعة السلاح في الجفرة وسرت، التي تدعم إنشاءها الولايات المتحدة وعدة دول فاعلة في هذا الملف. ولكن الأمر المثير للاهتمام في نظر المتابعين، هو لماذا لا يتم التركيز على العاصمة، التي تشهد حالة من الانفلات الأمني بسبب انتشار قطع السلاح بين الميليشيات، بهدف إحلال وقف إطلاق النار. القاهرة – تتعامل مصر بدبلوماسية زائدة عن الحدود المسموح بها مع الحديث المتواتر حول المنطقة منزوعة السلاح في سرت والجفرة، واستمعت إلى تفسيرات من أطراف دولية تتبنى الطرح، وهي كثيرة، وأهدافها متباينة، وتصب في مصالح أطراف معينة. وفي خضم هذا السجال الممزوج بالحذر تعمدت القاهرة أن تكون ردودها عملية في رفض المقترح، بعدما أبدت تحفظات فقط عند طرحه لأول مرة، وكي لا يفهم أنها تعرقل أحد التوجهات التي يعتقد أصحابها أنها منتجة أو خلّاقة. وجاءت المبعوثة الأممية إلى ليبيا بالإنابة ستيفاني وليامز إلى القاهرة، في زيارة يومي السبت والأحد الماضيين، وفي جعبتها تصورات جاهزة للمنطقة منزوعة السلاح لتقريب وجهات النظر بين كافة المتداخلين في الأزمة الليبية، التي تقترب من دخول عامها العاشر. ويقول محللون في العلاقات الدولية ومسؤولون مصريون إن تلك الوصفة أضحت “موضة” أيضا لدى كثير من المسؤولين في دول مختلفة، أبرزها الولايات المتحدة، أو بمثابة الحل السحري للأزمة الليبية، حيث طُرحت على ستيفاني، كما طرحت على غيرها، جملة من الأسئلة الحرجة، وتلقتها بالصمت الذي يوحي بالقبول والرفض معا. مواقف ضبابية أظهرت مصر حنكة دبلوماسية وهدوءا كبيرين في المناقشات المطروحة حول الوضع الأمني في ليبيا وخاصة في ما يتعلق بمقترح المنطقة منزوعة السلاح في الجفرة وسرت، التي تدعم إنشاءها الولايات المتحدة وعدة دول فاعلة في هذا الملف. ولكن الأمر المثير للاهتمام في نظر المتابعين، هو لماذا لا يتم التركيز على العاصمة، التي تشهد حالة من الانفلات الأمني بسبب انتشار قطع السلاح بين الميليشيات، بهدف إحلال وقف إطلاق النار. المتمسكون بإنشاء المنطقة تربطهم بتركيا وحكومة الوفاق مصالح متشابكة وقد تستخدم كأداة للضغط على الجيش الليبي وانتزاع تنازلات رئيسية منه تصب في جعبة خصومه ردد من روجوا لنغمة المنطقة العازلة في ليبيا كلاما تلقائيا إنشائيا دون قياس عميق للمكونات والحدود العملية التي يحملها في طياته، وجرى الانجذاب إلى خطاب يتكرر عندما تضيق السبل بأصحابه في الصراعات، للخروج من ورطة، أو تجاوز أزمة. وفي باب الأسئلة، طُرح على ستيفاتني، وغيرها، متى تكون هناك حاجة ملحة إلى منطقة منزوعة السلاح؟ وهنا تكمن الإجابة البدهية عندما تكون ثمة اشتباكات ومعارك ضارية وتهديد لحياة السكان، وصعوبة السيطرة على حركة دخول الأسلحة، وفقدان مظاهر الحياة الطبيعية. وهذه المواقف الضبابية تقود إلى السؤال التالي، مفاده هل أن سرت والجفرة والشرق والجنوب الليبي عموما، أكثر أم أقل هدوءا مقارنة بالعاصمة طرابلس؟ ومن الواضح أن الإجابة الطبيعية، ووفقا للمعطيات الحالية، تتلخص في أن العاصمة الليبية حافلة بالمؤامرات والعصابات المسلحة والميليشيات والمرتزقة، التي أصبحت تتقاتل، وتتصارع حول مناطق النفوذ، وأكثر احتياجا إلى الدفع نحو تحويلها إلى منطقة منزوعة السلاح، خاصة أنها مرشحة للمزيد من الانفجارات، مع تفاقم الهوة بين القوى السياسية الراهنة. ولكن لماذا يتم التفكير في سرت والجفرة تحديدا، ولا يتم التفكير في طرابلس؟ ولماذا تجري قوى عديدة وراء الدفع بالأولى وتجاهل الثانية؟ وكيف يزج بها ووقف إطلاق النار مستمرا فيهما، بينما هناك من يحاولون اختراقه من الضفة الأخرى؟ ووسط هذه الحزمة من الأسئلة، تبدو الإجابات محرجة لمن طرحت عليهم أو أوحت بها مناقشاتهم في القاهرة وغيرها، لأن المضامين التي تتضمنها الأسئلة من هذا النوع والإجابات عليها من الضروري أن تكون مباشرة ولا تحتمل لبسا أو غموضا. من يقفون خلف خطاب المنطقة منزوعة السلاح يريدون الوصول إليها بطريقة ملتوية، ووضع قوات تابعة لحكومة الوفاق بأيّ صيغة ممكنة، حتى ولو بالمشاركة مع قوات من الجيش وتمكن الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر من تأمين سرت والجفرة، وتوفير المقومات الأمنية للحفاظ على استقرار كل منهما وما حولهما، وأصبحتا بعيدتين عن المعارك المنتشرة في طرابلس، وبات الطريق إليهما بالوسائل العسكرية التقليدية عملية صعبة، بعد تعيين الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي الخط الأحمر منذ أكثر من شهرين ولم يتم اختراقه حتى الآن بصورة جدية. وفي انسجام مع الموقف المصري، رفض المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري الشهر الماضي، إنشاء منطقة منزوعة السلاح في سرت، مؤكدا أنها آمنة وليست منطقة نزاع، ممّا يشي بأن الفكرة الأساسية يجب أن تتركز على طرابلس التي تشهد انتشارا للسلاح بشكل كبير للغاية. ويريد من يقفون خلف خطاب المنطقة منزوعة السلاح الوصول إليها بطريقة ملتوية، ووضع قوات تابعة لحكومة الوفاق بأيّ صيغة ممكنة، حتى ولو بالمشاركة مع قوات من الجيش، فالمهم وضع موطئ قدم عسكري هناك، يؤدي إلى المزيد من الاشتباكات، وليس العكس. والكلام عن تلك الجزئية بالذات يمهد ذلك الفضاء للانتقال إلى المرحلة التالية المتعلقة بإرسال قوات تابعة لدول بعينها، تتمكن من السيطرة على الهلال النفطي، وهي منطقة تحوي نحو 60 في المئة من موارد ليبيا. وتعتقد دوائر صنع القرار في مصر أن هذا “سيناريو أسود”، أو “حصان طروادة جديد”، لأنه سوف يقود إلى فتنة في شرق ليبيا، وغير مستبعد أن يفضي إلى تسريب خطاب يتعلق بفرض وصاية دولية على الهلال النفطي، وعدم الاكتراث بما يجري خارج هذه المنطقة. ورأت الدوائر ذاتها، أن ذلك يحمل إشارة قوية على عدم استبعاد استدعاء مخطط التقسيم مرة أخرى، الأمر الذي جعل القاهرة تنقل بصراحة لمن تحدثوا معها المخاوف المتعاظمة بهذا الشأن، ولم تكن إجاباتهم مشجعة على تفهم هذا المنطق، وحاولوا التقليل منه، وبعضهم اعتبره يحوي قدرا كبيرا من الحساسية التي ترددها القاهرة. مصالح استراتيجية Thumbnail أكدت مصادر سياسية في حديثها لـ”العرب”، أن مصالح مصر القومية تتخطى الشرق الليبي، والخط الأحمر لا يعني التهاون مع ما يجري في الغرب، لأن المسألة مرتبطة بأساسات متشابكة لا يمكن فصل أي منها عن الأخرى. ولدى هؤلاء قناعة بأن ليبيا باتت في مظهرها الحالي دولة من السهولة أن تنتقل فيها عدوى الاشتباكات، وما لم تكن هناك حلول جذرية شاملة سوف تغمرها الصراعات، فالمسكنات لن تصلح بلدا يعوم على بحر من التوترات. ويخفي تكرار العزف على سيمفونية المنطقة منزوعة السلاح رغبة دفينة لتجاهل ما يحدث في طرابلس من تفكك في أعلى هرم السلطة، وهي من أشد البؤر سخونة. ويرى كثير من المحللين السياسيين أن فتح ذلك الملف سيكون كرة لهب في وجه عدد كبير من القوى الدولية التي تتظاهر بالرغبة في وقف إطلاق النار والتسوية السياسية، ولا تتخذ إجراءات كافية للوصول إلى ذلك وأولها نزع سلاح الميليشيات وترحيل المرتزقة وكف تركيا عن تدخلاتها السافرة، وإيجاد حلول فعلية للتوترات التي لن تغادر العاصمة في المدى القريب قبل أن يرمي المجتمع الدولي بثقله لردع القوى المنفلتة. وتتحسب جهات غربية أن يؤدي التعامل مع ملف الصراع في طرابلس إلى صدام حتمي مع تركيا، وهي دولة غازية لليبيا، وصاغت اتفاقيات معقدة تكبلها، ويتجنب كثيرون الاحتكاك بها حفاظا على مصالحهم، وإبعادها عن التحرش بهم بوسائل مختلفة، ولذلك بدأوا يقفزون إلى المنطقة منزوعة السلاح في سرت والجفرة، كأنها سوف تكفل الهدوء والاستقرار لكل ربوع ليبيا. ويثير الحديث عن هذه المنطقة قلقا مضاعفا لدى القاهرة، فمن يرددونه في السر أو العلن، تربطهم بتركيا وحكومة الوفاق مصالح متشابكة، وقد يأخذ هذا الأمر وقتا أطول ويتم وضعه على الطاولات السياسية والعسكرية التي ترتب لها مبعوثة الأمم المتحدة، كأداة للضغط على الجيش الليبي، وانتزاع تنازلات رئيسية منه، تصب في جعبة خصومه. مقترح إنشاء المنطقة منزوعة السلاح بات وصفة لدى المسؤولين في دول مختلفة أبرزها الولايات المتحدة ويتفهم قائد الجيش الليبي الدواعي الحقيقية للمنطقة منزوعة السلاح، ومن يريدون تدشينها لأجل عودة ضخ النفط، ما جعله يسمح مؤخرا باستئنافه، لكن تظل يديه على المفتاح إلى حين الاستجابة للشروط التي وضعت لتقسيم عادل للثروة على كل أنحاء ليبيا، ورفع وصاية أنقرة على الشؤون الاقتصادية في طرابلس، ووقف نزيف الدعم للمرتزقة والكتائب المسلحة. وتتعمد بعض القوى الدولية الانشغال بملفات هامشية لصرف الأنظار عن القضايا الرئيسية، التي أسهمت في زيادة حدتها، وهي تدري أو لا تدري، وأمضت وقتا طويلا في اللف والدوران حول الأزمة، كي تبتعد عن ملامسة الجوهر الخاص بالتدخلات الخارجية، وعلى رأسها تركيا، فكل الأمور تكاد تكون مكشوفة للجميع، ومن واقع تقارير دولية عدة، غير أن الرغبة والإرادة والعزيمة لا تزال كلها مفقودة. ويقول متابعون إن هذه الحالة من السيولة التي تستفيد منها بعض القوى لن تستمر كثيرا، لأن النيران بدأت تشتعل في أثواب من يتحكمون في مغاليق السلطة داخل طرابلس، بما يلحق الأذى بكل من يدافع عنهم. وهزت حرب تكسير العظام الدائرة هناك بين عدد من الشخصيات السياسية صورة الشرعية، التي يتشدق بها كثيرون لتبرير وقوفهم إلى جوار رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق فايز السراج، وقد تفرض عليهم قريبا التحرك سريعا قبل أن يصبح الاتهام بالتواطؤ والتقاعس على الملأ، وتلقي ليبيا بحممها وبراكينها في اتجاه شمال البحر المتوسط.
مشاركة :