لم تحظ تصريحات الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي بشأن الدولة الفلسطينية منزوعة السلاح بما تستحقه من مناقشات جادة ممن على دراية بما جرى من مفاوضات سابقة حولها، واكتفى من بهرتهم حركة حماس بعملية طوفان الأقصى وصمودها نحو خمسين يوما في مواجهة آلة الحرب الإسرائيلية بالرفض أو إبداء التحفظ، على اعتبار أن ما أظهرته المقاومة الفلسطينية من بسالة تكفي لتحرير القدس وطرد إسرائيل. لا تحتمل اللحظة الراهنة مزايدات والحديث عن أحلام وأفكار خيالية تفقد القضية الفلسطينية الزخم السياسي والإنساني الذي حصلت عليه الأيام الماضية، إذ أدى هذا السلوك إلى تفويت فرص عديدة على الشعب الفلسطيني حتى كادت قضيته تندثر بعد ابتلاع إسرائيل غالبية الأراضي في الضفة الغربية وأغرقتها بالمستوطنات، وتريد أن تضبط إيقاع قطاع غزة أمنيا بطريقة تمكنها من عودة احتلاله شكلا. شجع صمت المجتمع الدولي على انتهاكات مختلفة حدثت بحق الفلسطينيين جماعة من المتطرفين في إسرائيل على قيادة واحدة من أكثر الحكومات تطرفا في تاريخها، ومن نتائج ذلك دخلت المنطقة في حلقة جديدة من صراع بات بحاجة إلى ضبط مفاتيحه الرئيسية قبل انفلاته، وحاجة أشد إلى عصف ذهني نحو إيجاد حل عملي لواحدة من أهم القضايا التي تؤرق من يريدون أمنا وسلاما في المنطقة. ◙ عملية طوفان الأقصى والحرب على غزة نجحتا في استرجاع الحديث عن أم القضايا في المنطقة، وهو مكسب ليس بالقليل ولتعظيمه من الضروري بلورة موقف موحد يبدو طرح الرئيس المصري لفكرة دولة منزوعة السلاح لا يتناسب مع مشاعر جارفة لشريحة من الفلسطينيين رأت إمكانية إلحاق هزيمة منكرة بإسرائيل، وأن المقاومة كسبت أرضا جديدة أخيرا تمكنها من تحرير الأرض من النهر إلى البحر. في الحالتين، لا يعلم هؤلاء أن الولايات المتحدة وقوى كبرى وقفت مع إسرائيل سوف تستخلص الدروس مما جرى في السابع من أكتوبر الماضي، وأن عملية طوفان الأقصى التي هدمت أسطورة الجيش الذي لا يهزم يصعب تكرارها مرة أخرى، وربما على العكس سيتم تقويته بالصورة التي تؤكد تفوقه وإضعاف المقاومة بطرق شتى. يتطلب التعامل مع القضية الفلسطينية استيعاب ما تمخض عنه العناد والمتاجرة، وأن ما سُمي بـ“محور المقاومة” كبّد هذه القضية خسائر باهظة، وفوّت فرصا كان يمكن أن يتحصل الفلسطينيون فيها على دولة أوسع نطاقا مما جرى عرضه في مفاوضات سابقة، أو مما سوف يتم التوصل إليه في مفاوضات مضنية لاحقا. دولة فلسطينية منزوعة السلاح، ليست هي نهاية المطاف بجوار دولة نووية، هي محاولة لجس النبض الإسرائيلي وحشره في نطاق زاوية ضيقة في الوقت الحالي، لأنها فكرة سبق طرحها وحظيت بشد وجذب كبيرين، انتهيا إلى لا شيء تقريبا أو سلطة فلسطينية منزوعة السلاح والدسم السياسي والاقتصادي، وجرى تجريدها من كل عناصر القوة المعنوية حتى تحولت إلى “هيكل عظمي” لا أحد يلتفت إليه كثيرا الآن. في غالبية المراحل التالية للحروب، يحدث عصف ذهني لأجل التوصل إلى تسويات سياسية، ولن يكون الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي استثناء منها، بعد أن تأكدت قوى دولية عديدة أن الآلية التي تم التعامل بها معه في السنوات الماضية أثبتت فشلها، وجددت اللجوء إلى أدوات الحسم العسكري بضراوة، ما جعل الاستدارة سريعا مطلبا مهما حاليا، لأن العالم تيقن من استحالة طمس القضية الفلسطينية ومسح جغرافيتها من خريطة العالم، ولا بد من نافذة أمل سياسية تقوض الاتجاه نحو الحلول الأمنية. كشف العدوان الإسرائيلي على غزة قدرة مصرية عالية على الاستشراف، ظهرت ملامحها مبكرا في الخطاب الرسمي والكثير من التصرفات التي قامت بها القاهرة لرفض التوطين، وعزز المحتوى العام الميل نحو التسوية كحل ناجع للقضية الفلسطينية، أو بمعنى أدق أكثر جدوى للأطراف المعنية بأمن واستقرار منطقة الشرق الأوسط، فقد كاد التجاهل يفجر بركانا تطال تداعياته مصالح قوى عدة. ◙ وفقا للمنهج العلمي، على القيادات الفلسطينية أن تضع حدا لسقف التوقعات المرتفع إلى عنان السماء، وتعيد قراءة المشهد العام لما يمكن الوصول إليه في هذه اللحظة وتوسيعه في المستقبل بدأت ملامح الحديث عن دولة فلسطينية تتزايد على إثر حرب غزة وتداعياتها، وراجع الكثيرون ممن أنكروا ذلك بعضا من مواقفهم، وأظهر نفر منهم حماسا لعقد مؤتمر دولي للبحث عن تسوية مناسبة، من هنا يمكن تفسير الطرح المصري، والذي لم يقطع الرئيس السيسي بأنه الوحيد للحل، كما أن ضوابطه تحتاج إلى محادثات طويلة. تكمن أهميته في اختصار مسافات طويلة من الجدل العقيم، فنقطة الانطلاق القبول بإعلان دولة قابلة للحياة، وهي عملية تنهي قطيعة رددها، ولا يزال، ساسة في إسرائيل بشأن رفضهم رؤية دولة فلسطينية أصلا، منزوعة أو غير منزوعة السلاح. كما أن الفكرة قذفت بحجر في المياه السياسية الراكدة، إذ استسلمت دول غربية لعدم التطرق لدولة من أي نوع، تعلم المطبات التي ستواجهها، في وقت لم يظهر فيه الفلسطينيون كرامات ملموسة تدفع المجتمع الدولي للتعاطي بجدية من حلم الدولة وبالصورة التي تفتح الباب للوصول إليها. سواء أكان الطرح المبدئي هو دولة منزوعة السلاح أو شكل آخر، من المهم أن تكون هناك رؤية واضحة تحظى بتوافق وطني، وفي ظل استمرار الانقسام بين الحركات الفلسطينية سوف يكون من الصعوبة مناقشة مستقبل قضيتهم، وهي أداة مكنت إسرائيل من تجاوز العملية السياسية السنوات الماضية، والحجة التي تستند عليها قوى غربية متباينة لتبرير تقاعسها وانحيازها السافر إلى رؤية إسرائيل. نجحت عملية طوفان الأقصى والحرب على غزة في استرجاع الحديث عن أم القضايا في المنطقة، وهو مكسب ليس بالقليل ولتعظيمه من الضروري بلورة موقف موحد، فمن يعتقدون أن حماس هي ممثل الشعب الفلسطيني يخطئون مرتين. ◙ صمت المجتمع الدولي شجع على انتهاكات مختلفة حدثت بحق الفلسطينيين جماعة من المتطرفين في إسرائيل على قيادة واحدة من أكثر الحكومات تطرفا في تاريخها مرة لأنهم اختزلوا الشعب والمقاومة فيها وحدها وضربوا عرض الحائط بحركات أخرى. ومرة لأنهم يمهدون لزيادة مكونات انقسام توارت معالمه مع ما فجرته الحرب من تعاطف إنساني لافت بين القوى الفلسطينية، بينهم مختلفون جذريا مع حماس. اعتادت القاهرة التعامل مع الصراع العربي- الإسرائيلي بواقعية منذ اتفاقية كامب ديفيد قبل أكثر من أربعة عقود، والتي عانت فيها للتوصل إلى صيغة تضمن عودة الأرض المصرية أولا، ثم نجحت في تعظيم المكاسب تدريجيا، وبناء على الأمر الواقع لم يكن أحد يتخيل أن يصبح انتشار القوات العسكرية في كل أنحاء سيناء مؤخرا برضاء أميركي وإسرائيلي. وفقا للمنهج العلمي، على القيادات الفلسطينية أن تضع حدا لسقف التوقعات المرتفع إلى عنان السماء، وتعيد قراءة المشهد العام لما يمكن الوصول إليه في هذه اللحظة وتوسيعه في المستقبل، فاللُحمة الفلسطينية يمكن أن تفكك المجتمع الإسرائيلي وتعريه من ورقة التوت التي تستر الكثير من تناقضاته الداخلية، ما يجعل السلام أشد خطرا عليه من الحرب، ويسعى إلى رفضه دائما عبر حروب متقطعة، يجد فيها أيضا بعض الفلسطينيين وسيلة للهروب إلى الأمام من استحقاقات التسويات الصعبة.
مشاركة :