قاعات بيروت الفنية تلملم جراحها بشيء من البرود | ميموزا العراوي | صحيفة العرب

  • 9/4/2020
  • 00:00
  • 18
  • 0
  • 0
news-picture

صالة “آرت أون 56 ستريت” واحدة من الصالات الفنية اللبنانية التي أصيبت بدمار كبير جراء انفجار 4 أغسطس الماضي. كانت الصالة للمفارقة قد انتهت لتوها من تقديم معرض للفنان وسام ملحم الذي بدوره قدّم في معرضه نسخا طبق الأصل عن اللبنانيين: مخلوقات كرتونية نزقة في خلاف مع ذاتها ومع محيطها. بيروت – لا زالت بيروت تلملم جرحها وعلى الأرجح ستبقى كذلك لفترة تتخطى إعادة إعمارها، لأن الجرح الذي أصابها شقّ طريقه إلى روحها. اليوم تسأل بيروت/ المساحات الفنية التي لم تمل يوما من استئناف الحياة بعد كل ضربة “ما هو جدوى الاستمرار؟”، واحدة من هذه الساحات التي أصيبت بالانفجار وتصدّعت بهذا السؤال الوجودي هي “صالة آرت أون 56 ستريت” البيروتية. نجت صاحبة الصالة نهى وادي محرم بأعجوبة من الانفجار، وهي التي أنشأت صالتها الفنية تلك سنة 2012، السنة التي بدأت فيها الصالات الفنية الصغيرة تزدهر في منطقة الجميزة، لاسيما في الشارع الضيق والتراثي الذي كان يأخذ الزائر عميقا إلى ماض لم تكن فيه أحزاب فاسدة وسلطة ظالمة موجودة على الساحة. ما أن حلت سنة 2015 حتى شهدت المنطقة حركة فنية كبيرة ليس فقط لناحية العرض وازدياد عدد الصالات الفنية التي استقبلت كافة أنواع الفنون، ولكن أيضا لناحية لقاء الفنانين ببعضهم البعض وبالصحافيين وبالموسيقيين وكل من اهتم وشارك بالحياة الفنية. دقائق الدمار مخلوقات كرتونية في خلاف مع ذاتها ومع محيطها مخلوقات كرتونية في خلاف مع ذاتها ومع محيطها بضعة دقائق فقط في 4 أغسطس الماضي كانت كافية لتدمير كل ما شكلت الجميزة من أجواء نمت على هامش مدينة اختنقت تحت ضربات الشقاء المتكرّرة. لم تكن “آرت أون 26 ستريت” فقط صالة فنية أخذت على عاتقها تقديم تشكيلة واسعة من الأعمال الفنية شملت التصوير الفوتوغرافي والتجهيز الفني واللوحات التشكيلية وأعمال النحت والفيديو آرت، بل كانت مساحة حميمية تراثية وجدت في المنزل الذي يعود إلى زمن الانتداب الفرنسي وهجها الفني والمعماري معا. منزل عتيق أرضيته زخارف مشرقية قديمة ونوافذه عالية ومطلة على أشجار وارفة تحتضن الماضي وكأنه سرّ نجا من الزمن وأرباب الحروب، حتى جاء انفجار 4 أغسطس ليُخرج أحشاءه إلى فضاء المدينة المجبولة بالرماد والمعجونة بقهر سكانها. في دردشة سابقة أخبرتنا نهى وادي محرم أنها أرادت أن تستقطب إلى الصالة فنانين لبنانيين وعربا وأجانب وأن تعقد الوصال ما بين مختلف الفنانين، ليس فقط أصحاب الأساليب المختلفة. ولكن أيضا من تباعد بينهم عمق التجربة، الخبرة والشهرة. لوحات وسام ملحم تسرد يوميات كائن لبناني طريف وكرتوني الشكل في حال تصادم مع الآخرين والمحيط حتى وهو في أوج هدوئه لوحات وسام ملحم تسرد يوميات كائن لبناني طريف وكرتوني الشكل في حال تصادم مع الآخرين والمحيط حتى وهو في أوج هدوئه آخر معرض فردي قدّمته صالة “آرت أون 56 ستريت” كان للمهندس اللبناني وسام ملحم بعنوان “انعتاق”، وكانت قد عادت به إلى العرض الفني أول شهر يوليو الماضي بعد انقطاع طويل بسبب وباء كورونا، شأنها شأن كل الصالات الفنية اللبنانية. وللمفارقة كان هذا المعرض يشمل أعمالا فنية مشغولة على ورق ومعدن وقماش، يمكن لنا أن نقول عنها إنها تسرد يوميات كائن لبناني طريف وكرتوني الشكل في حال تصادم مع الآخرين والمحيط حتى وهو في أوج هدوئه. كائن نزق أبيضه جنون ومدينته ملطخة بغبار الحداثة والسخام الخارج من السيارات ودخان المؤسسات الصناعية ومن أفواه السياسيين المُنافقين. كان الفنان قد بدأ بتنفيذ تلك الأعمال منذ سنة 2018، أي في الفترة التي بدأت تتصاعد فيها وتيرة التشنّج في البلاد وصولا إلى الحرائق التي اجتاحت الأحراش، والتي يرجّح إلى الآن أنها مفتعلة وامتدادا إلى اندلاع الانتفاضة اللبنانية في 17 أكتوبر 2019، فانتشار وباء كوفيد – 19 وانهيار العملة اللبنانية وتعاظم التوتر السياسي غير المسبوق، ووقوع الانفجار الهائل. أزمات أفرزت “كائنه” المتوتّر المتجوّل في اللوحات والخارق لكل معاهدات السلام مع الآخرين. ما كاد زمن العرض ينتهي ويغادر هذا “مخلوقه اللبناني” الصالة ومعه فصول حياته اليومية التي خطها الفنان بالكثير من السخرية السوداوية حينا والطرافة العذبة حينا آخر، حتى طاله الانفجار ليسقط متضرجا بدمه الأبيض غير محقّق “لانعتاقه” من كل ما يكبله إلاّ بالموت. قتل مُضاعف سخرية سوداوية من واقع مأزوم سخرية سوداوية من واقع مأزوم تُخبر صاحبة الصالة كيف أن نظرها وقع على فيديو قصير ظهرت فيه لحظة الانفجار قائلة “لا أعرف من صور هذا الفيديو.. لكنني وجدت نفسي أقف في خضم الصدمة مجروحة. وكأننا كنا في ساحة حرب. لا زلت لا أصدق ما حدث.. لا أستطيع النوم.. يا مجرمون! كلكم تعلمون من المسيطر على المرفأ. كلم تعلمون، ولكن لا أحد يبالي منكم بما قد يحدث لنا من موت وألم.. أتمنى أن تلعنكم كل الأمهات.. لقد قتلتمونا. قتلتم آمالنا. قتلتم أحلامنا.. من المُدمر أن نرى كل ما عملنا لأجله يُدمّر أمام أعيننا”. أمام الدمار العام الذي لحق بالصالة كمساحة للفن وكصرح تراثي بدأت المبادرات تتكاثر لدعم عودة الصالة وترميم المبنى معنويا وماديا. وقد شكرت صاحبة الصالة كل المبادرات، لاسيما تلك التي وردت من فنانين تشكيليين سبق أن عرضوا فيها أعمالهم. على الرغم من كل مشاريع “القيامة” التي أخذت على عاتق الدول المانحة والمبادرات الفردية اللبنانية وغير اللبنانية يبقى السؤال الوجودي المدوّي مطروحا أكثر ممّا كان في أولى الأيام التي تلت الانفجار “ما جدوى العودة؟”. سؤال يطرحه اليوم وبشيء من البرودة (وهنا الخطورة) كل من سلك في لبنان طريق الفن ممارسة أوعرضا أو كتابة عنه. سؤال وحده الزمن كفيل بالإجابة عنه.

مشاركة :