الفن والرماد يُعاودان تحليقهما من المأساة | ميموزا العراوي | صحيفة العرب

  • 9/9/2020
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

عندما نقول بيروت، نعني لبنان، وبيروت هي قلبه الذي ينفضّ عنه اليوم كل من آمن بأن الفن ليس تأرجحا على هامش الحياة الفعلية؛ نثار وشظايا الزجاج المحطم جراء انفجار 4 أغسطس ليكشف بذلك عن فداحة الكارثة وخروجها عن التأطير الزمني والمكاني حتى بلوغ الرمزية. بيروت- بعد انفجار مرفأ بيروت المدوّي في 4 أغسطس الماضي، جاءت مرحلة إزاحة الركام وإزالة النقاب عن حقيقتين. الأولى الكشف عن أن جرح بيروت هذه المرة لا يمكن حصره بمدة زمنية محددة ترتّب علينا حزم أمتعتنا، كمتابعين للحياة الفنية، والتقدّم عنها ببضع إضاءات لن تشفي لا غليل بيروت ولا غليل كل من أحبها. أما الحقيقة الثانية، فتتمثل بإدراك كل أصحاب الصالات الفنية ومعهم الفنانون ومحبو الفن أنهم مسؤولون عن “صحة” بيروت، وقد دخلت في مرحلة مفصلية لم يعد الفن فيها فقط يمثل الحياة بالرغم من الموت، ولكنه أصبح، أو لنقل “حلَّ” في الحياة كفكرة “مُبتكرة”، وفي الموت كحقيقة تجلّت بكل أشكالها هذه المرة، من موت لأفراد عاملين في “الحقل” الفني، وتلف للأعمال الفنية وتدمير لفضاءاتها وكل ما ينبض ويشتعل ويفور حيوية من حولها من مقاه ونواد وحدائق سرية تمكنّت من الفرار من خراسنة المعاصرة المدينيّة. حتمية البناء مبنى متحف سرسق أدرك هؤلاء أن الفن الذي كانوا يطرحونه في مواجهة النفاق السياسي والأزمات الوجودية في آن واحد قبل أن يصل إليه الخراب، ليس فقط دفعا حضريا متميزا بل شُكّل أيضا بهيئة مطلقة ومباشرة انعكاسا لـ”صحة” المدينة النفسية بكل ما تضم أو تمثل من التعالي على الجراح والحفاظ على الذاكرة الجماعية، وكذلك الحؤول دون تفشي اضمحلال الإرادة في الاستمرار ومنع تصدّع التطلعات المستقبلية المشرقة والمنفتحة على الخارج والداخل على السواء، والتي لم تعرف إلى اليوم طريقها إلى التحقّق. قالت بياتريس صفي الدين، مديرة لصالة “مارك هاشم” البيروتية “إنها مأساة.. كنت في الصالة أثناء الانفجار. كل ما هو حولي انفجر؛ الشبابيك والزجاج والأبواب، وتضرّرت بعض الأعمال الفنية أيضا.. نحن الآن نقوم بتنظيف وإصلاح ما دمّر”. وتُضيف مديرة الصالة بكلام بالغ الأهمية يختصر معنى الدمار ورمزيته التي حفرت في وجدان اللبنانيين ذكرى أخرى ستدخل إلى أتون الذاكرة الجماعية الراكدة، رافدة إياها بحُمرة جديدة مؤجل اشتعالها. تقول “لا أجزم بعودة الحياة إلى طبيعتها، فلا شيء سيعود كما في السابق بعد الآن. خاصة بعد سقوط كل هذه الضحايا”. ربما يمكننا هنا إضافة أن استحالة العودة إلى ما قبل، متأتية أيضا ممّا أحاط بهذا الانفجار الاستثنائي من معلومات مُفزعة، وحقائق مطموسة رسميا، ومع ذلك يعرفها كل اللبنانيين. وربما أبلغ تظهير لهذه الفكرة ما قالته مذهولة جمانة عسيلي صاحبة صالة “مرفأ” الفنية التي دمّرت بشكل شبه كلي “كل هذه السنوات كنا نعمل وننظّم معارض فنية، 500 متر بعيدا عن قنبلة شبه نويية قد تنفجر في أية ثانية، ولم نكن نعلم”. أما الفنان المتعدّد الوسائط والمهندس اللبناني/ العالمي نديم كرم الذي ما من أحد من جيل التسعينات لا يذكر أعماله النحتية المُعاصرة الغالب عليها الفرح، والتي رصّفها على جسر في المدينة حين كان الخراب لا يزال “عامرا” في ديار لبنان ومرحلة إعادة البناء كانت قد بدأت للتوّ، فقد ذكر أن ضغط الانفجار أدّى إلى تحطّم بوابات شقته البيروتية، وقال عن هول ما شعر به لحظتها “خلل في الرؤية والكثير من الفوضى والغثيان.. ما زلت غير مصدق لما حدث لنا”. وأضاف الفنان المعني بشؤون بيروت وهيئتها المدينية منذ انتهاء الحرب اللبنانية، قائلا “نحاول اليوم أن نعيد ما يمكن إعادته.. أقصد قدر المستطاع”. خلق متجدّد الأفكار لها براعم لا تزال على قيد الأمل الأفكار لها براعم لا تزال على قيد الأمل ماضيا لقّب نديم كرم بـ”طائر الفينيق” الخارج من رماد المدينة بعد انتهاء الحرب اللبنانية التي دامت 15 سنة. وقد قدّم معرضا فنيا في العام 2016 وصف بأنه من أجمل معارضه إلى اليوم، وربما أكثرها تمثيلا لرؤيته الفنية وتفاؤله الذي لا يزال يصارع إلى اليوم فكرة الهزيمة في واقع مرير لا يزال، هو الآخر، مستمرا منذ الانتهاء المزعوم للحرب اللبنانية. نتذكّر رؤوس منحوتاته ورسوماته الشبيهة بـ”شلة خيوط” ضاغطة تشابكت أوصالها. في ذلك المعرض البارز الذي عنونه بـ”الأفكار المتمدّدة” يصبح اليوم عمله الفني (الأجمل حتى الآن) والذي يحمل اسم “براعم الأفكار”، حيث يبدو فيه إنسان صغير في وضعية تشبه جنينا يتوسط فراغا ذهبيا، ممثلا لما يحدث لبيروت بعد الفاجعة. رأسه عبارة عن “شلّة من الخيوط” تخرج منها خطوط متعرجة، تنتهي بشلل أخرى أكثر تعقيدا، أراد بها الفنان أن يعبّر عن براعم الأفكار وهي قيد التشكيل. وربما، هي تُعبّر أيضا، عن براعم الأمل الغرائبية التي هي لا تتفتّح زهورا ولا تذوي خيبة كما في كلمات الفنان الذي قالها بعد انفجار بيروت “قد نفقد العزم بعد أن تصيبنا المصائب ولا يعود هناك أي مكان للأمل، ولاسيما بعد تتابع الضربات في مكان الجرح ذاته. ولكن أيضا قد نُعيد بناء ذاتنا من جديد على الرغم من هول المآسي.. وربما نقول كلما تمعنون في تدميرنا، نمعن نحن أكثر في عمليات تخليق الأمل والإنتاج الفني”.

مشاركة :