الماء المحترق والعالم المظلم يستحيلان حالة وجودية فنية | ميموزا العراوي | صحيفة العرب

  • 10/7/2020
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

حرائق غير مسبوقة باتت تلتهم مساحات خضراء واسعة من لبنان وسوريا لم يرها الفن التشكيلي إلاّ من منظار حالة احتراق واحدة لكل مقومات العيش الإنساني الكريم، فأتت لوحات الفنانين وأعمالهم التجهيزية متوهّجة الملامح والألوان تستعير من النار قدرتها على الفتك البارد. وضع دانتي أليغييري الشاعر الإيطالي الذائع الصيت في بضع كلمات معنى الاحتراق الشامل جاعلا إياه قادرا على أن يطال كل مرافق الحياة. قال “ولكنني لم أمت ولم أكن على قيد الحياة أيضا. حاول أن تتخيل إن كنت تستطيع ذلك أنّ هناك محروما من الحياة والموت في آن واحد”. تبدو هذه الكلمات قادرة على اختصار حالة بشر في منطقة من العالم تكاثرت عليها المصائب المُحرقة دفعة واحدة منذ أكثر من سنة، وأدّت إلى انتشار موجة فنية اصطبغت باللون الأحمر حتى أصبح جزءا من كيانها. انتشرت مؤخرا على صفحات شبكات التواصل الاجتماعي أعمال فنية/ ديجيتالية لبنانية برز فيها هذا التوجّه المتوهّج الملامح، ظهرت فيها هذه الكلمات المخطوطة (بالإنجليزية والعربية) “نعم لقد نجونا، ولكننا لسنا بخير”. وجاءت هذه الأعمال منبثقة من آخر مجموعة حرائق بدأت في أكتوبر من عام 2019، لتنتشر في هيئات أخرى في فلك الانفجار والحريق الهائل الذي حدث ببيروت في الرابع من أغسطس 2020. وإن استطاعت هذه الحرائق “الاستثنائية” أن تفرز أعمالا فنية لفنانين سوريين كالفنان عبدالحميد فياض، فإنها لم تكن بالنسبة إلى اللبنانيين في بدايتها إلاّ مدخلا إلى ثورة 17 أكتوبر 2019، ومن ثمة إلى هلاك مُضاعف موضعه في كلمة واحدة، لم يقلها رئيس دولة قبل رئيس جمهورية لبنان لشعبه، عندما سألته إحدى الصحافيات “فخامتك، إلى أين نحن متجهون؟” فأجابها “إلى جهنم بالتأكيد”. قد يكون كلام الرئيس مُنفّرا، ولكنه في الآن ذاته توصيف حقيقي لما آلت إليه البلاد، لاسيما منذ بداية أكتوبر من السنة الماضية عندما طالت الحرائق الأحراش اللبنانية، وقضت على عدد هائل من الأشجار المعمّرة وغير المعمّرة أمام أعين رجال الإطفاء العاجزين عن إخمادها بسبب نقص كبير في المعدات استمر لسنوات، ولم توليه السلطات اللبنانية المتعاقبة أي اهتمام. في تلك الفترة نشر عدد من الفوتوغرافيين صورا فنية تحت هاشتاغ “لبنان يحترق”. صور توثّق الاحتراق وكأنه قادم من لوحات عمالقة الفن الأوروبي، لاسيما تلك التي تسكنها هواجس النهايات وأفكار الجحيم كما في لوحات هيرونيموس بوش. وعمدت الناشطة البيئية والفنانة اللبنانية ميّ حداد إلى نشر عدد من الصور المعدلة ديجيتاليا والمشغولة بتقنية الكولاج الديجيتالي على مدونتها الشخصية عبّرت من خلالها عن معنى الاحتراق والاختناق بمفهومه الواسع، إذ وحدّت فيها ما بين الوجدان اللبناني وكل أنواع الحرائق التي تفتك به. وقدّمت بدورها الفنانة التشكيلية اللبنانية ريتا كيروز عملا فنيا مشهديا تغيب فيه تفاصيل معالم الحريق دون أن يُخفت ذلك من حدته، بل تجعله يتخطى محدودية المكان والزمان حتى شمل حرائق الأشجار منذ بداية “الاشتعال” اللبناني الكبير. إنها لوحة لدمار البشر والشجر والحجر ولحالة المراوحة التي يعيشها اللبناني على جميع الأصعدة. وفي حديث معها قالت الفنانة إن اللوحة اشتغلتها منذ أيام قليلة بمادة الأكريليك، وهي مستوحاة من صورة فوتوغرافية رأتها عن جريمة انفجار بيروت. والفنانة اللبنانية حاصلة على دبلوم وشهادة ماجستير في الفنون، وهي اليوم بصدد مناقشة أطروحة الدكتوراه. أما الفنان التشكيلي السوري عبدالحميد فياض الذي عُرف عنه عدم توانيه عن استخدام الألوان الأكثر فجاجة وفظاضة للتعبير عن حدة الموقف المرسوم، نشر على صفحته الفيسبوكية مجموعة أعمال فنية مُشتعلة ينساب فيها زخم الأحمر ليكمّ صوت أي لون آخر. نشر الفنان هذه الأعمال الفنية التي يبلغ عددها 11 لوحة في أوج مرحلة احتراق الأحراش الخضراء في سوريا، وقد ذكرت المصادر أن الحرائق الموسمية ليست بجديدة على الغابات السورية، لكنها جاءت كارثية هذا العام بسبب تقاعس السلطات عن المساهمة في إخمادها. وأرفق الفنان السوري نشر لوحاته تلك بهذه الكلمات “عقيدة الحرائق.. عشر سنوات حرقوا فيها قلوبنا وأحلامنا وزرعنا وتاريخنا ومدننا وجبالنا وسهولنا وغابات زرعها الله في أرض أحبها يوما.. ولو أن الماء يحترق لأحرقوه! من هم؟ نحن نعرف والله يعرف وهم يعرفون أننا نعرف.. وستظل الحرائق مستمرة..”. والفنان هو من مواليد مدينة الرقة السورية سنة 1953، تخرج من كلية الفنون الجميلة في دمشق بدرجة امتياز، له الكثير من المعارض الفردية والجماعية داخل سوريا وخارجها. وإن كان الفنان السوري فياض استبعد قدرة السلطات على “إحراق الماء بالنار” فقد جسّد مواطنه عصام كرباج فكرة احتراق الماء خلال معرض تجهيزي أقامه في العام 2016، عندما تناول الشتات السوري وهرب السوريين على قوارب، مجسّدا الفارين من الدمار السوري في شكل أعواد ثقاب مُحترقة سلفا أو قابلة للاحتراق في أي لحظة. من هنا تماما وضع الفنان في معرضه قوارب صغيرة تشتعل بمن فيها، وهي تبحر بهدوء مُميت. أطلق الفنان على هذا المعرض التجهيزي عنوان “مياه داكنة.. عالم مُحترق”، عنوان مُربك يجسّد ليس فقط فكرة الشتات السوري، ولكن منطق النار وفعلها حين تكون تحت سلطة لا تقيم لمصالح شعبها أدنى حساب.

مشاركة :