من الفلاسفة الكبار الذين طالما أمطروا الحياة الثقافية بعطرهم الفكري الذي يمتد شَذَاهُ من عصرٍ إلى عصر و يفوح عَبِيرُ أطروحاته الذَكيّ في أروقة الثقافة المعاصرة، بما لهذه الأفكار من أثرٍ بالغٍ على رؤية ما يحيط بنا من أحداثٍ، الفيلسوف المصري الدكتور زكي نجيب محمود، فيلسوف الأدب، و أديب الفلسفة...يُعد زكي نجيب محمود من الفلاسفة القلائل الذين استطاعوا تبسيط مفاهيم الفلسفة و تقديمها في قالبٍ أدبيٍّ رصين بل و ممتعٍ أيضًا حتى إنه كان يُعنى بكتابة مقالاته التي كانت تُنشر بشكل دوريّ في العديد من الصحف في آنٍ واحد و بطريقةٍ مميزة من حيث الفكر و المضمون أو الصياغة الأدبية البديعة أو حتى حجم المقال ....ومع تنوع إنتاجه الفكري والأدبي على مدار حياته الممتدة ما بين عام 1905 إلى عام 1993 قدّم للقارئ والمثقف العربي وجباتٍ فلسفية دسمة وأفكارًا تسبق عصره إلى ما هو أبعد، ومِن أهم هذه الأفكار، تحليله لما كُنّا وما زلنا نعيشه في مصر وعالمنا المحيط، حيث لَخَّص ذلك الوضع في أننا نغرق في "النقل"، نقل المعلومات والتاريخ والتكنولوجيا وتعاليم الدين!وقد قسّم الناقلين الى قسمين، قسمٌ يقوم مَن يمثلونه بالعمل على نقل الماضي دون ابداعٍ أو اجتهاد، محيطين ما يتم نقله بطابعٍ من القَداسة التي لا تُمَس، و هذا ينطبق على باحثي الدين و علومه، الذين توقف بحثُهم وإضافاتهم منذ قرون، معتمدين على ما قام به الأولون من اجتهادٍ و بحثٍ غير معنيين بإعادة النظر فيما يقومون بنقله، حتى تحول العلم من وجهة نظرهم إلى مجرد حِفظٍ لما تم نقله عن الماضي، مما سيتسبب بالضرورة في خلق فجوة ما بين الحَداثة و هذا التراث الذي قد لا يواكب ما يُسْفِر عنه هذا التطور المتسارع... القسم الثاني، يُمَثله مَن ينقلون عن الحضارة الغربية ما توصلت إليه من تقدمٍ و تكنولوجيا و لكن هذا النقل يختلف عن النقل الأول من حيث أنه لا يلتزم بالمنهج و إنما يلتزم بنقل المُنتج الذي يبيعه لنا الغرب، فنحن ننقل عنهم ما استطاعوا الوصول إليه من مُنتجاتٍ نستهلكها دون تصنيعها أو منافستها بشكلٍ أو بآخر، فقد أصبحنا سوقًا لما يصنعه لنا المصنعون و المبتكرون دون أن نتأثر بهم أو نؤثر فيهم...كِلَا الفريقان ينقل بطريقةٍ أو بأخرى، مما جعل وضعنا رَجعيًا و مُتخلِّفًا عن ركب التطور الحضاري المنشود و الذي كان يجب أن نلحق به منذ زمن...هكذا كان يرى زكي نجيب محمود الوضع الذي كنا عليه منذ منتصف القرن الماضي، فهل حدث تغييرٌ عن تلك الرؤية بعد رحيل هذا الفيلسوف بربع قرنٍ أو أكثر؟في احدى المرات طُلب منه أن يكتب مقالًا عن "أسلوب العقاد"، فأخذ يفكر في معنى كلمة "أسلوب" و تفحص معناها في معاجم اللغة بحثًا عن أصلها و إذا كانت من "السلْب"، فماذا يتم سلبه إذًا، و من يقوم بالسلب، حتى توصل إلى أنها ما يسلبه الكاتب من أفكاره و معانيها ليحيط بما يكتبه أو يسرده على الآخرين...فقد كان يفكر و يتعامل مع الموضوعات بكل عُمقٍ و تَمَعُن، و من المثير للدهشة أيضًا أنه كان حين يُسأَل عن جمهوره من القراء، كان يقول: "جمهوري من هم مِثْلي و لو كانوا قليلين!"بينما كان مثقفو الأمة يتلهفون على كل ما يبدعه و يكتبه محاولين مواكبة ذلك الفكر الثريّ و القراءة المُختلفة لكل ما يطرحه من موضوعات...في الثامن من سبتمبر تحلّ ذكرى وفاتِه، ونتذكر معها ما تركه لنا من ارثٍ أدبيّ و فلسفيّ يتجاوز حدودَ العصر الذي عاش فيه، و محاولاته كشف ما بالأمةِ من سقم، و العمل على ايجاد الدواء... تلك كانت مجرد لمحة من أفكاره الكثيرة و الثمينة، أردنا أن نُلقي عليها الضوء بجولة خاطفة في عقل ذلك الفيلسوف.
مشاركة :