في الأيام القليلة الماضية وبعد زيارته الأولى للبنان في أعقاب انفجار مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس الماضي قام الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون بزيارة ثانية للبنان بدأها بشرب كوب من القهوة في ضيافة سيدة الغناء اللبناني السيدة فيروز في منزلها في إحدى ضيعات لبنان البسيطة ومنحها وسام «جوقة الشرف» الفرنسي، وهو أعلى تكريم رسمي في فرنسا.فما الرسالة التي يحرص ماكرون على ايصالها من خلال زيارته للمرة الثانية في أقل من شهر واحد لبلد منكوب اقتصاديا وسياسيا كلبنان، وكرئيس دولة كبرى يخصص زيارتين متتاليتين لبلد عربي؛ فبلا شك هناك أمور كثيرة تحاك خيوطها ولا يمكن ان تصنف على انها دعم لبلد تعرض لكارثة بسبب فشل الطبقة السياسية فيه، وفي نفس الوقت لا يمكن اعتبار هذا الاهتمام الفرنسي تعاطفا أو إنسانية تجاه الشعب اللبناني، فما يعيشه الشعب السوري أو الليبي أو العراقي أو اليمن أو الصومالي أكبر بكثير مقارنة بألم لبنان وشعبها، فما سر ماكرون مع لبنان؟!قبل أن نتحدث عن ذلك، في المرة الأولى لزيارة ماكرون لبيروت نزل الى موقع الانفجار في المرفأ بينما لم نر قياديا لبنانيا واحدا تجشم عناء الذهاب لمعاينة الدمار الذي أحدثه الانفجار وكأن الأمر لا يعنيهم البتة، وتحدث كذلك إلى الشباب اللبناني، هذه الزيارة لاقت إعجابا كبيرا من الشعب اللبناني لدرجة أن الآلاف منهم غردوا وتمنوا بأن يعود لبنان تحت الوصاية الفرنسية، ظناً منهم بأن مهما قسا عليهم المستعمر الفرنسي فلن يفعل مافعله أبناء جلدتهم من الساسة الفاسدين والمتآمرين على لبنان وشعبه، وفي الزيارة الثانية له ذهب إلى منزل السيدة فيروز هذه الفنانة العربية الكبيرة التي اختفت سنوات طويلة عن الظهور العلني ولم نر أو نسمع أن أحد السياسيين أو القادة اللبنانيين قام بزيارتها في بيتها أو تكريمها في أي مناسبة كانت فجاءت زيارة ماكرون لتحمل دلالات مؤلمة، كيف لرئيس دولة عظمى يخص هذه السيدة العربية بزيارة بل ويقلدها ارفع وسام فرنسي، هذه الزيارة تأثر بها الشعب اللبناني كثيراً، وخاصة أن السيدة فيروز تعبر عن عراقة الشعب اللبناني وتاريخه وإرثه الجميل حتى إن كانت لهذه الزيارة دلالات سياسية أخرى فهذه هي التقية السياسية تظهر خلاف ما تبطن.تحركات ماكرون في لبنان لها عدة أهداف لعل أهمها هو دعم وتثبيت «حزب الله» من دون المساس بموقعه وممتلكاته العسكرية وأجنداته داخل لبنان وخارجه، وخاصة بعد أن تنامت أعداد الدول التي صنفت هذا الحزب على أنه منظمة إرهابية، والولايات المتحدة ترى أن التحركات الفرنسية في لبنان تمنح شرعيةً لحزب تصنفه واشنطن إرهابياً، وهذا يؤكده تصريح ماكرون بأن حزب الله هو حزب لبناني شرعي، ما يؤكد أهداف فرنسا وتمسكها بشرعية حزب الله كشريك سياسي في أي تسوية سياسية لبنانية قادمة، والسؤال: إن كان ماكرون يؤمن ويدعم حزب الله كشريك سياسي شرعي فهل يسمح لاي حزب فرنسي أن يحمل نفس هوية حزب الله وتوجهه ويمارس نفس أعماله في حمل السلاح والقتال خارج حدود فرنسا ويفرض هيمنته على مؤسسات الدولة ويمنع الجيش من دخول مقاراته ويقتل من يشاء من دون مساءلة؟! الأمر الثاني احتدام الصراع بين القوى العظمى في التسابق على حجز موانئ الشرق الاوسط بقواعدها العسكرية، بلا شك تسعى فرنسا للحصول على موطئ قدم في المياه اللبنانية من خلال عقد اتفاق أمني وعسكري بين باريس وبيروت لتبقى البوارج الفرنسية قريبة من دفء مياه المتوسط وحرارة الشرق الأوسط الذي يعاد تشكيله وكل دولة تطمح إلى أن يكون لها نصيب، وهذا ما يؤكده إرسال بارجة عسكرية فرنسية إلى الشاطئ اللبناني بُعيد تفجير مرفأ بيروت لتعزيز الحضور الفرنسي في شرقي المتوسط، وخاصة مع توسع الخلاف بين تركيا وقبرص واليونان وليبيا ومصر.الأمر الثالث يتعلق بالشأن الداخلي الفرنسي، حيث يستخدم ماكرون لبنان كساحة لتلميع صورته لدى المجتمع الفرنسي بعد أن أخفق في ملفات فرنسية كثيرة، ويسعى للظهور على أنه استطاع تجنيب لبنان حربا أهلية وشيكة، وهذا يدغدغ مشاعر الشعب الفرنسي المتعلق بلبنان وبشعبه، ابتسامة ماكرون للشعب اللبناني تذكرني ببيت الشعر الشهير للمتنبي: «إذا رأيت أنياب الليث بارزة.. فلا تظنن أن الليث يبتسم».
مشاركة :