الفن جدار الصد الأخير أمام غطرسة أهل المال والسلطة | ميموزا العراوي | صحيفة العرب

  • 9/16/2020
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

ما انفكت بيروت تلملم جراحها الغائرة التي خلّفها انفجار المرفأ في الرابع من أغسطس الماضي، مأساة لم يجد أهل البلد حلا لتجاوزها عدا الفن بديلا وملاذا، فكثرت المبادرات الفردية والجماعية لتحمي المباني والأحياء التراثية المتضرّرة من أي تشويه يمكن أن يطول ذاكرتها وهويتها المشرقية. بيروت – الكثير من أهل بيروت لم يتجرّأ إلاّ مؤخرا على تفقد أكثر المناطق تأثرا بالانفجار. ليس فقط تحسبا لأي انهيارات للمنازل المتصدعة، لكن لأن هذا الانفجار طالت ارتداداته المعنوية كل بيروت فصار الجرح “المألوف” المستوطن لكل بيت وناحية. وهو الجرح الأكثر التهابا لأنه شكل بالنسبة لهم الصفعة الأخيرة التي وجهتها سلطة الفساد إلى أهل البلد. ولكن هل كانت هذه الصفعة حقا الأخيرة؟ لاسيما عندما نكتشف أن مدمري المدينة المنهجيين يلهثون اليوم من خلال سماسرة البناء المرتبطين بأهل السلطة وراء شراء دمارها من أهلها. غير أن الفنانين التشكيليين وغيرهم من مناصري الفن الملتزم بالحفاظ على ما تبقى من هوية المدينة كانوا لهم بالمرصاد إن عبر العمل الفني أو عبر المساهمة على أرض الواقع. برز في البداية سؤال: أي سلطة هي تلك التي تفجّر شعبها وأرضها؟ ثم ما لبث هذا السؤال أن رشح عنه سؤال آخر لا يقل أهمية عن الأول وهو: كيف نحمي دمار المدينة من مفجريها؟ بيروت مدينة تحمرّ خجلا في ذاكرة الفنانين اللبنانيين بيروت مدينة تحمرّ خجلا في ذاكرة الفنانين اللبنانيين تكاثرت المبادرات الفردية والجماعية لتحمي المباني والأحياء التراثية المتضرّرة من احتمال أن يكون مصيرها كمصير وسط بيروت الذي بات، بعد إعادة إعماره، يشبه “ديزني لاند”؛ الفرجة والتسوّق باهظ الثمن. نذكر أن من أهم المباني التي تعرضت لتدمير شديد نتيجة انفجار 4 أغسطس الماضي متحف سرسق للفن الذي انتهت عملية ترميمه بعد جهد جهيد سنة 2015، ويضم أعمالا تشكيلية للعديد من رواد الفن التشكيلي إلى جانب تنظيمه دوريا لمعارض فنية لفنانين لبنانيين، عرب وأجانب. وكان المتحف قد عاد إلى نشاطه شهر يوليو الفائت بعد فترة الحظر الصحي. العشرات من الفنانين التشكيليين في لبنان وخارجه من المغتربين حتى الآن وضعوا فنهم وريع بيعه في خدمة إعمار بيروت على النحو الذي يليق بها وبذاكرة أهلها وبهويتها المشرقية. وقد تواصل هؤلاء مع مهندسين معماريين ضليعين في فنون العمارة كما في الولاء لهوية المدينة، وكانت النتيجة تطوّع المئات من هؤلاء لأجل إعادة إعمار ما دمّر. وفي هذه الأثناء استمر الفنانون التشكيليون ورسامو الصور التوضيحية في الدفاع عن جمالية بيروت العريقة والتحذير من تحويلها إلى منشآت تليق بأجواء ناطحات السحاب التي لا تتحملها “فنيا” مدينة منمنمة كبيروت ولا بنيانها الجيولوجي، حسب دراسات أجراها علماء جيولجيا عن طبيعة أرض بيروت، وقد نشرت هذه الدراسات في التسعينات من القرن الفائت في صحيفة لبنانية. من الفنانين الذين ارتبطوا بشكل شبه عضوي بما تعني بيروت من عراقة وذاكرة مطلة على المستقبل بعيدا عن ميلودرامية الحنين، نذكر الفنان التشكيلي والرسام الغرافيكي إيلي بورجيلي الذي عايش الحرب اللبنانية. فبعد أن اعتاد اللبنانيون على تلقّف رسوماته الساخرة الزاخرة بالغة الحدة في تناولها لأزمات لبنان المتتابعة، نشر الفنان على صفحته الفايسبوكية عملا فنيا بالغ الحساسية وأرفقه ببضع كلمات شعرية ذكرتنا بأن بورجيلي فنان تشكيلي له مزاجه الخاص “صعب المنال بشكل عام” قبل أن يكون رساما غرافيكيا عرف عنه نشاطه الفني/ الثوري. كتب الفنان “اخترت ألوان السماء التي تلائم أثوابك. منذ ذاك اليوم احمرّت إحدى الغيمات خجلا”. هذا العمل الفني بشكل خاص يشي بآلية المخيلة الفنية وديناميكيتها عند إيلي بورجيلي وكيف “تنضج” حرة من قيود صانعها. وما إن تكتمل بصريا في ذهنه مشبعة بالمعنى حتى ينقلها إلى حيّز التنفيذ. حداثة تسحق ما قبلها حداثة تسحق ما قبلها في العمل الفني نعثر على ثلاثية الغيمة والقلب والحب في قنطرة نافذة “احمرّت” سحنتها، وطرافة سروال قطني أبيض ووحيد معلق على حبل الغسيل في الدور الأخير من بناية تراثية، وفي عتمة ملتبسة لليل بيروتي يبوح بحميمية روائح القهوة والنرجيلة والبقدونس المفروم يعرفها جيدا كل من أحب بيروت ولياليها. في المقابل تقف الفنانة اللبنانية داليا خضري على مسافة بعيدة من الفنان إيلي بورجيلي إن من ناحية الأسلوب أو لناحية طول وعمق التجربة الفنية، ولكنهما يشتركان في حبهما لبيروت المقنطرة غيومها التي تحمّر خجلا من شدة الحب المضمر أو المعلن عنه. وتكمن المفارقة أن الفنانة التي كانت قد قدّمت معرضا تشكيليا سنة 2018 في صالة “آرت أو 56 ستريت”، التي تأذّت كثيرا جراء الانفجار، تحت عنوان “هندسات بيروتية”، أظهرت في معرضها الأخير ما تتلوّى على ناره بيروت ما بعد الفاجعة: لوحات تناولت الغياب وحالة الاندثار المجسّدة في أوصال البيوت التراثية. قالت يومها، صاحبة الصالة نهى محرّم، إنها تدعم الفنانة في ثورتها على حركة تدمير البيوت التراثية في لبنان، وترى في المعرض دورا مهما في تحفيز الحركة ضد الهدم المتواصل الذي تتعرّض له المدينة منذ فترة على حساب بناء مبان لا تراعي عراقة لبنان بشكل عام وبيروت بشكل خاص. كان ذلك قبل الانفجار وقبل أن يؤدّي فساد السلطات الحاكمة التي تتالت إلى تدمير، وفي لحظة درامية واحدة، معظم ما كان صامدا بوجه الزمن والتعديات المتدثّرة بأثواب باطلة تدّعي خير الشعب والوطن.

مشاركة :