يقول الدكتور هاني الراهب في إحدى رواياته) رسمت خطا في الرمال) في تاريخ العالم ثلاث مدن خرجت من تاريخ الجغرافيا والسياسة إلى أُفق الأساطير والرموز الثقافية، اثنتان منها هنا: بابل وبغداد عطية الإله، والثالثة هي روما.نعم، هذه هي العراق بلد الحضارات تؤكل أكتافها بعد أن حل الدمار بها وأصبحت أيديها مكبلة من قبل الغزاة والطامعين، بعد أن أتى عليها الطوفان الطائفي ومزق أشلاءها ولم يبق لشعبها الباسل سوى الحسرة والنحيب على ماض تولى وإرث قد ضاع على أيدي عصابات أتت لتتقاسم خيراته وتنهب أمواله وتستبيح أراضيه وتبيع ثرواته بأبخس الأثمان ليستشري النهب والعربدة بمقدرات الشعب.غزت حواسي الرؤية المتوترة والعنيفة لبلد كان يحسب له ألف حساب في المعادلات السياسية العالمية، أصبح ركام بلد أكل الأتراك من الكتف اليسرى منه والفرس من اليمنى كما يقول الشاعر العراقي مظفر النواب.عندما أذكر العراق يتأجج في داخلي غضب وحنين مضاعف، فقد عرفته وتنفست هواءه، ومشيت في طرقاته وحلمت أحلاما جميلة إبان مكوثي فيه سنين لا تُنسى.تعلق في ذاكرتي رائحة الهواء وزوايا الطرقات وطعم الأمكنة التي زرتها وقضيت أحلى أيامي فيها، الأعظمية، الشورجه، الكاظمية، باب المعظم، شارع الرشيد، السعدون، كرادة مريم، كربلاء، النجف…الخ.طفت الذكريات الحزينة وتذكرت حال العراق في ظل هذه الحكومات المتعاقبة على سلخه وتقطيعه فأبعدت هذا الشبح من تفكيري ووجدته شامخا رغم الأهوال والعذابات وبدأ الأمل يدب في أوصالي وكأنما عدت إلى الحياة من جديد.أي متعة تتولد من رؤية بغداد، من سماع ناسها الطيبين, من لمس شغاف أحاسيسهم, من دخول شوارعها، والسير في أزقتها وطرقها الفرعية، من شم عطرها واستكشاف تلك المنازل المطرزة والسير ليلا تحت أضوائها المقمرة.نعم بغداد مدينة رفيعة القدر، تلك الزهرة كما كانت نينوى وبابل، وطيبة المصرية وكنوسوس الكريتية في ذروة مجدها، لا تشعر بالعار، شكاكة، تتقيأ الثروة والذكاء، مستعدة للموت كما يقول نيكوس كازانتراكس في روايته (الحديقة الصخرية).حين يُذكر العراق تسري قشعريرة في جسدي وكأنما أتذكر بلدا أشبه بالميت، منهك، ضعيف, لا يملك من أمره شيئا، جثة هامدة تنهش منها ضباع مفترسة.لم أتعب من الإعجاب بهذا البلد العريق، فقد كانت أولى الخطوات إلى عالم المعرفة فيه وأول الصداقات والرفقة والتحرر من الأفكار والتصورات الأولية للحياة، فشريان المعرفة يتدفق كالنهر من مكتباته وصحفه، وكانت كافية لإمدادنا بمؤونة لا تنضب وبمعين لا يجف, فكل ما يتمناه المرء يجده، فالحياة جميلة وإن كنت بعيدا عن الأحباب والخلان فحرارة بغداد تجفف آلامك وتحيي عظامك، وتحنو عليك. لم يخطر على بال أحد من المتتبعين للشأن العراقي منذ نشوء الدولة العراقية أن يصل حال العراقيين إلى هذا المستوى من التردي الأمني والاقتصادي والاجتماعي، ففي ظل هذه الحكومات المرتهنة للخارج وبعد أن أحكمت الأحزاب الطائفية قبضتها على السلطة يعاني العراقيون من سوء وضعهم على كل الأصعدة، وما زاد هذه المعاناة خلق مليشيات تدين بالمطلق للخارج وتعمل بأجندتها وبتوجيهاتها الأمر الذي يؤدي إلى فقدان الدولة هيبتها وسيطرتها وتظل رهينة لتلك المليشيات وتصبح تحت إمرتها, فالسلاح المنفلت وعصابات الجريمة كما يقول رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي تعيث فسادا في هذا البلد الأبي.فإلى متى يصبح العراق مقادا؟ وهو الذي كان يقيد قاطرة الدول ويلعب الدور الرئيسي في منتديات السياسة ويحمل على عاتقه نشر العلم والمعرفة وتقديم المساعدات للبلدان المحتاجة، فحضارة بلاد الرافدين تسطع شموسها على كل بلدان العالم والنور المتوهج يضيء المعمورة.الجامعات، المعاهد، دور الثقافة، المسرح، الفن، الغناء الأصيل، كبار العلماء والمخترعين، الشعراء، الأدباء والكتاب، كل ذلك هو منتوج هذا البلد العظيم.ما حاله الان يا تُرى؟ أهذا هو العراق الذي نريد؟ عراق مهيض الجناحين يتسول المعونات، يحارب طواحين داعش وأحزاب بأعلام أجنبية ودول تديرها لإضعافه حتى لا يفيق ويبقى حيًا لكن تحت الإنقاذ.آه أيه العراق ذبحوك من الوريد إلى الوريد وجعلوك حيا وميتا في آن واحد ليتسنى لهم الرقص على جثتك، فانهض وقاوم واطردهم والأمل معقود على رئيس وزرائه الكاظمي عله يفعل شيئا مع هذه الأحزاب التي توالدت كالفطر تمزق أشلاءه وتنهش من جسده باسم الطائفة والدين والمذهب والقومية.فهل يفعلها الكاظمي ليعيد العراق إلى سابق عهده قويا معافى قبل أن ينقض عليه وحش الطائفية المقيت؟ ويزلزل الأرض على تلك الأحزاب ويعيد العراق إلى محيطه العربي بعيدا عن أي ضغوطات أمريكية أو إيرانية؟ إن العراق هو وجه العرب الصبوح والثغر الباسم وحاضرهم ومستقبلهم، فخيراته كثيرة ومفكروه وعلماؤه يفيض بهم واستقراره ضرورة لهم وعزته وكرامته من عزتهم وكرامتهم وتطوره من تطورهم فهل من مجيب؟جميع أفكاري منشغلة بما يجري في هذا البلد وما حل به من خراب وما آل اليه بعد كل هذه السنين العجاف من بعد الغزو الأمريكي ووصول هؤلاء اللصوص، فقد نهشت جسمه الضباع وتكالبت عليه الجيوش من كل الأصقاع، بينما كان ينظر اليه بعزة وكرامة في زمن قد ضاع، فالمصيبة كبيرة والخسارة لا تُعوض.حاولت دوما أن أرى كل شيء بعينين طازجين، كنت أتتبع بشكل واع الأحداث من خلال تاريخ هذا البلد العراق فما وجدت أسوأ حالا من هذه الحقبة التي يمر بها الان على الرغم من الآمال معلقة على الجيل الصاعد واحتجاجاته على هذه الأوضاع المزرية، وما لاحظته من قوة وتصميم وإرادة لشبابه رغم الاغتيالات الجبانة للناشطين والتي كان آخرها للدكتورة خبيرة التغذية والرياضة رهام يعقوب في مدينة البصرة. فجيل الانتفاضة لن يهدأ أو يستكين حتى يوقظ شعبه ويجعله جديرا بالحرية والعدالة، فكل يوم يخطو خطوة إلى هدفه بعد أن لمس الضيم والحيف والظلم من أحزابه الدينية فصمم على المقاومة تحت شعار الحرية أو الموت وطرد الأجنبي من بلاده لينعم بالاستقرار بعيدا عن شبح حروب الأعداء على الساحة العراقية، فإعادة الإعمار تبدأ بإعادة الاعتبار إلى الدولة المدنية العلمانية ونبذ الطائفية بكل ما خلفته من دمار للنفوس ومن أحقاد بنت عليها تلك الأحزاب الدينية لممارسة سرقاتها باسم الدين والدين منها براء.
مشاركة :