أتاح لنا محمد حسنين هيكل فرصة التعرف على آخر آرائه السياسية من خلال حواره قبل أيام مع صحيفة السفير. ولأن الأخيرة جزء من المحور الإيراني، ولأن اتفاق النووي بين إيران والغرب هو الحدث الأهم راهنا، فقد حظيت إيران بالجزء الأكبر من الحوار، حتى حين كان السؤال يبتعد عنها. يعلم الجميع أن لهيكل علاقاته الخاصة بنظام الملالي في إيران، ولا نريد الدخول في متاهة تفسير ماهية تلك العلاقة، لكن المنظّر القومي لا يترك لك مجالا للتفكير؛ إذ كيف لرجل من هذا النوع يدعي التبشير بفكرة القومية العربية أن يكون صوتا لنقيض لها، وأقله منافس في المنطقة، لا سيما أن المحور الذي ينبغي أن ينافس المحور الإيراني هو مصر بقيادتها للوضع العربي، إلى جانب تركيا التي لا يبدو هيكل منسجما معها، ربما لأن أردوغان لا يعجبه، وربما لأن العلاقة التاريخية كما هي مع قادة إيران لا تتوفر هنا في الحالة التركية. لم يقل ذلك صراحة، لكن كلام هيكل عن اتفاق النووي يشير إلى قناعته بزعامة إيران للمنطقة (يستثني إسرائيل التي قال إنها مهيمنة على المنطقة كلها)، طبعا بغياب مصر وارتباك تركيا، وضعف أمريكا، وربما ارتباكها أيضا، وكأن الاتفاق هو المحطة التي ستؤكد تلك الزعامة، فضلا عن أن تجعل من إيران قوة برسم التحول إلى نووية، فقط خلال ستة شهور إذا قررت ذلك، برأيه، كأن من هرب من العقوبات سيفكر في إعادتها لأجل ذلك. واللافت هنا أن هيكل لم ير أي مأزق تعانيه إيران، ويحول دون استكمال زعامتها الإقليمية، فلا هي مأزومة في سوريا، ولا في العراق، ولا حتى في اليمن الذي رآه مأزقا سعوديا بالدرجة الأولى، مع أنه يقر بأن الأخيرة لن تتورط مباشرة في المستنقع اليمني. الغزل المتواصل، وفي أكثر من فقرة بالحضارة الفارسية، كان لافتا في الحوار، ومن موقع التنظير القومي!! ودائما في سياق من التأكيد على الزعامة الإقليمية لإيران، أو لنقل القدرة على تصدر المشهد الإقليمي الذي لا ينافسها فيه أحد (الكيان الصهيوني خارج الحسبة)!! لم ير هيكل حجم النزيف الذي تعانيه إيران، ولم يتطرق قبل ذلك إلى تبجحها باحتلال أربع عواصم عربية، فالعلاقات الخاصة تسمح بالتجاوز عن أخطاء الأصدقاء!! وربما وقاحتهم. كما لم ير أي تناقض يذكر أو يستحق الذكر في الداخل الإيراني بين الإصلاحيين الذين يمثلون هواجس غالبية الجمهور وبين المحافظين الذين يحلمون بإطار إمبراطوري مذهبي، وهنا لا ذكر أبدا للأبعاد المذهبية في سلوك إيران في حديث هيكل، ولا لاستثمارها (أي الأبعاد المذهبية) في التوسع والتمدد. لم ير هيكل تبجح إيران بالسيطرة على باب المندب بما يهدد قناة السويس، وصولا إلى شواطئ المتوسط، ولم ير احتلالها للعراق ولسوريا، وتحكمها بلبنان، أقله راهنا، فكل ذلك يمكن التغاضي عنه بلغة المصالح والصداقات الخاصة جدا، في الوقت الذي لم ير أبدا أن هناك مأزقا إيرانيا حقيقيا، وأن تورط أمريكا في التوسع والمغامرات هو الذي أفضى بها إلى التراجع، الأمر الذي ينطبق على إيران التي تُستنزف في سوريا والعراق واليمن. وفيما ينبغي أن يكون لمصر دورها وزعامتها للإقليم لو كانت بعافية، وفيما ينبغي أن تكون هي من ينافس إيران، لا يرى هيكل بدا من تعاون بين مصر وإيران، لكنه يرى أن هناك ضغوطا على نظامها كي لا تفعل، مع أن النظام الذي يمثل هيكل عقله السياسي لا زال يجامل إيران على حساب من دعموه بالمليارات، وفي مقدمتهم السعودية، بدليل أن مواقفه من العراق وسوريا، وحتى في اليمن، لا تجد إلا الرضا من إيران التي لا تتفوه بأي كلمة ضده، مقابل تحويلها لوصف الشيطان الأكبر إلى السعودية بدل أمريكا. هكذا كنا أمام حوار يمثل سيمفونية غزل بإيران وحضارتها وتاريخها ونظامها ونجاحاتها، وصولا إلى مستقبلها الزاهر، مع رضا نسبي عن الوضع في مصر (لا بأس به، حسب رأيه)، طبعا دون التورط في مديحه؛ لأن الوضع أكثر بؤسا من القدرة على التزيين، وكل ذلك في مقابل تسفيه للسعودية والخليج، والخلاصة برأيه أن مصر وإيران، وإلى حد ما تركيا طبعا، هي أوطان حقيقية، والباقي كله يشكل فسيفساء بين أوطان حقيقية، لكن الأهم في المحصلة هي إيران!! نراهن هيكل في الختام على أن إيران التي رفعها إلى مقام الإمبراطوريات، ورفع سياستها إلى مقام الإلهام، قد دخلت في مستنقع رهيب في سوريا واليمن، وسياسات حمقاء في العراق، وستدفع ثمن ذلك تراجعا كبيرا، ولولا بؤس الوضع المصري، لكانت هذه النتيجة أقرب بكثير، لكنها ستأتي، إن في سنوات قليلة، أو أكثر من ذلك، فغرور القوة والتوسع أكبر من القدرات الحقيقية ضرب إمبراطوريات وقوى كثيرة في التاريخ، وإيران لن تكون استثناء بعد أن توسعت أكثر مما ينبغي. والأيام بيننا وبين المنظّر الكبير. .. عربي21
مشاركة :