ليس صعبا رؤية جاذبية الذكاء الاصطناعي في الصراعات؛ فاليوم تستطيع الروبوتات معالجة كمّيات من البيانات تفوق قدرة البشر، وتوفر ردود فعل أسرع، ما يسمح للجيوش بتقليل اعتمادها على الأفراد، الأمر الذي يحدّ في النهاية من إراقة الدّم ويخفض التكاليف، لتصبح عملية الصراع ناعمة كالحرير، ويسهل على السياسيين الصقور إقناع الشعوب بتدخلاتهم في حروب خاسرة. لندن – يميل الناس إلى الحديث عن تسخير المناخ والظواهر الطبيعية كسلاح لتجويع الشعوب وإفلاس الدول، وقتل الملايين بصورة اختيارية يتمّ فيها تحديد الفئة المستهدفة في وسط المجتمع المراد تدميره، وشلّ حركة مجتمع كامل من خلال قنابل كهرومغناطيسية ليس لها صوت ولا أثر، وسهولة اختراق أي نظام دفاع جوي في الدول الأقل حظا ونصيبا من الأبحاث العلمية العسكرية المتقدّمة. الجهود المتواترة من جانب الباحثين خلال العقد الماضي أسهمت في إحداث تطورات بارزة في مجال الذكاء الاصطناعي، والتقنيات التكنولوجية المرتبطة به؛ الحوسبة الكمية، والبيانات الضخمة، وإنترنت الأشياء، والروبوتات، والأنظمة ذاتية التشغيل، حيث أمكن الوصول بها خلال فترات زمنية قصيرة إلى مستويات فاقت توقعات الخبراء. روبوتات مقاتلة تمكن الذكاء الاصطناعي من اختراق كل مناحي الحياة اليومية. هذه حقيقة لا جدال فيها، وإذا عرفنا أن هذه التكنولوجيا المبنية على الثورة الرقمية بدأت أساسا في مختبرات وزارة الدفاع الأميركية، لن نستغرب أن يأتي المجال العسكري في مقدمة تلك المجالات، ويتوقع أن تشهد التكنولوجيا العسكرية إحداث نقلة نوعية كبيرة في استخدام الحلول المعرفية والأتمتة لتعزيز القدرات والاستراتيجيات العسكرية على المستويين التكتيكي والتشغيلي. التكنولوجيا تتقدم اليوم بسرعة مذهلة، ويرافق ذلك الكثير من القلق والجدل والضجيج حول أسلحة بيولوجية مستقبلية فتّاكة، وروبوتات مقاتلة مرعبة، وحروب سيبرانية يكون العقل الإنساني فيها جزءا من الهجوم على البنية التحتية للدول المعادية. وبات الذكاء الاصطناعي، وبالتحديد الذكاء المعزز، أساسيا لدعم تحليل البيانات العسكرية المتدفقة، واتخاذ القرارات الفورية في سلسلة القيادة والسيطرة، ومعالجة البيانات وقوة الحوسبة والخوارزمية في أحداث قد تحدث بالسرعات والمجالات التي تتجاوز الفهم البشري. وقد حذر، جيمس جونسون، الأستاذ بجامعة لستر في بريطانيا، والمتخصص في الدراسات الأمنية، في دراسة بعنوان “الذكاء الاصطناعي وحرب المستقبل: الآثار المترتبة على الأمن الدولي”، من التهديدات الأمنية العالمية التي ينطوي عليها استخدام الذكاء الاصطناعي في المجال العسكري، وانعكاساته على إعادة ترتيب موازين القوى. استشعار عن بعد مع تولي الذكاء الاصطناعي القيادة هناك أكثر من سبب للقلق مع تولي الذكاء الاصطناعي القيادة هناك أكثر من سبب للقلق يناقش جونسون في دراسته المنافسة الجيوسياسية بين الصين والولايات المتحدة الأميركية، ومدى تأثرها بالسباق الحالي للابتكار في مجال الذكاء الاصطناعي. تشير الدراسة في بدايتها إلى الدور الواسع الذي يمكن أن يلعبه الذكاء الاصطناعي في تعزيز القدرات العسكرية التقليدية والمتطورة، سواء من الناحية التشغيلية أو على المستوى التكتيكي. حيث يلعب دورا يفوق كونه سلاحا في حد ذاته. فعلى المستوى التشغيلي، يعزز الذكاء الاصطناعي من القدرات العسكرية من خلال إمكانات الاستشعار عن بعد، والإدراك اللحظي للمتغيرات، والمناورة، واتخاذ القرارات تحت الضغط. أما على المستوى الاستراتيجي التكتيكي في صنع القرار العسكري، فستتمكن أنظمة القيادة المعززة بتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي من تجنب العديد من أوجه القصور الملازمة لعملية اتخاذ القرارات الاستراتيجية التقليدية، حيث ستكتسب القدرة على اتخاذ القرار السريع، بل والتلقائي، بناء على المعلومات المعززة، وهو الأمر الذي يُجنّبها الأخطاء البشرية، ويُكسبها ميزة تنافسية مقارنة بأنظمة اتخاذ القرار التقليدية. إدماج الذكاء الاصطناعي في المجال العسكري سيؤدي إلى إدخال متغيّر جديد في المعادلة العسكرية، لن تتساوى فيه الجيوش التي تستخدم تلك التكنولوجيا الجديدة مع غيرها، ومن ثم سيحدث مجموعة من الآثار الاستراتيجية التي من المحتمل أن تزعزع الاستقرار الأمني إلى حد كبير، وتؤثر على ديناميكيات الصراع والتصعيد العسكري في المستقبل. وفي حين تم توصيف تكنولوجيا الروبوتات ونظم الأسلحة ذاتية التشغيل، إلى جانب ابتكارات أخرى، على أنها تمثل “الثورة الثالثة في الحروب”، ووجها من أوجه “الثورة الصناعية الرابعة”؛ فإن إدماج الذكاء الاصطناعي معها من المتوقع أن يُحدث آثارا تحوّلية في مستقبل الحروب والتوازن العسكري عالميّا، حيث سيضيف إليها تقنيات تُعزز من قدراتها مثل الإدراك البصري والتعرّف على الصوت والوجه، وكذلك استخدام الخوارزميات في صنع القرار لتنفيذ مجموعة من العمليات الجوية والبرية والبحرية، وذلك بشكل مستقل عن الإشراف والتدخل البشري. دفاع سيبراني عدد كبير من الدول يسعى لتطوير أنظمة كاملة من الأسلحة ذاتية التشغيل عدد كبير من الدول يسعى لتطوير أنظمة كاملة من الأسلحة ذاتية التشغيل هناك سعي حثيث من جانب عدد كبير من الدول لتطوير أنظمة كاملة من الأسلحة ذاتية التشغيل، مثل الصين، وألمانيا، والهند، وإسرائيل، وكوريا الشمالية، وروسيا، وبريطانيا. ولعّل إنفاق الولايات المتحدة الهائل على الطائرات المسيّرة الذي ارتفع من 283 مليون دولار عام 2000 إلى 7.5 مليار دولار عام 2018 هو خير دليل على توجّه السوق المعاصر والحصة الكبرى التي يحصل عليها الذكاء الصناعي في عصرنا الراهن، رغم أنه لا يزال في مرحلة التطوير. وتم تقدير الإنفاق على الذكاء الاصطناعي عالميا عام 2019 بحوالي 1.5 تريليون دولار تقريبا، ومن المتوقّع أن يرتفع إلى أكثر من 10.5 تريليون دولار عام 2025، بحسب ما نقل تقرير موردور إنتليجنس. وتحاول الصين الاعتماد على الذكاء الاصطناعي لتطوير قدراتها الدفاعية، ولتتصدّر العالم في هذا القطاع بحلول عام 2030. وتشير الدراسة إلى أن إدماج الذكاء الاصطناعي في نظم الأسلحة ذاتية التشغيل والروبوتات سيؤدي إلى التوسع في استخدامها في مجالي الدفاع والهجوم، وهو ما سيؤدي إلى الحد من قدرات أنظمة الردع الحالية متعددة المستويات. وعلى الجانب الآخر، فإن إدماج التكنولوجيا نفسها في أنظمة الإنذار المبكر، وإن كان سيؤدي إلى تقليل وقت عملية اتخاذ القرار، وإتاحة إمكانية المواجهة المباشرة والتلقائية مع أي هجوم؛ إلا أنه سيؤثر على استقرار الأمن العالمي من خلال تقليص فرص تسوية الأزمات بوسائل أخرى سلمية وغيرها، والتوجه نحو التصعيد المباشر، الأمر الذي قد يتطور إلى مستوى الحرب النووية. وحدد الباحث في دراسته أسباب تهديد الأنظمة المعززة بالذكاء الاصطناعي للأمن العالمي، والتي تتمثل في سيادة حالة من اليقين بالقدرات الكاملة لتلك الأنظمة، في ظل عدم معرفة معدلات الخطأ الواردة بها، حيث أنها لم تخضع للاختبارات الجادة بعد، الأمر الذي قد تترتب عليه تهديدات خطيرة غير محسوبة العواقب. قيامة نووية عندما يتبين أن الذكاء الاصطناعي عرضة للخطأ في مواجهة ظروف لم تتم برمجتها، سيصبح لدينا المزيد من الأسباب للقلق عندما يتبين أن الذكاء الاصطناعي عرضة للخطأ في مواجهة ظروف لم تتم برمجتها، سيصبح لدينا المزيد من الأسباب للقلق قد تدفع تلك الأنظمة نحو التصعيد بشكل مباشر نتيجة للثقة المطلقة في القدرات العسكرية المعززة بالذكاء الاصطناعي على المواجهة وردع الأعداء. ومن ثم، تجنّب الوسائل السلمية في حل الأزمات. بل قد يدفع ذلك الدول نحو الضرب الاستباقي لتحقيق الردع. وعندما يتبين أنّ الذكاء الاصطناعي عرضة للخطأ، سيصبح لدينا المزيد من الأسباب للقلق. إن أنظمة الذكاء الاصطناعي غير مرنة، لأنها تمتاز بأداء بعض المهام الروتينية والتعرف على مخططات حسابية محددة، لكنها عرضة للقصور أيضا عند مواجهة ظروف جديدة لم تتم برمجتها. ويشير تقرير في مجلة “فورين بوليسي” إلى أن أنظمة الذكاء الاصطناعي تميل إلى أن تكون ضعيفة للغاية عندما تقابل سيناريوهات تختلف عن نماذج التدريب الخاصة بها. وهذا كما يؤكد التقرير السبب الرئيس وراء فشل إطلاق السيارات ذاتية القيادة، فهي حتى هذه اللحظة لم تتطور بما يكفي لتتعامل مع جميع التطورات غير المتوقعة التي يلقي بها الطريق أمامها. ويتساءل الكاتب عما إذا واجهت أنظمة الذكاء الاصطناعي صعوبة في القيادة في شوارع المدينة المزدحمة، فكيف يمكن لها أن تتنقل في ضبابية الحرب؟ وفي 26 سبتمبر 1983، اقترب العالم بشكل خطير من قيامة نووية؛ في وقت مبكر من صباح ذلك اليوم، أعلن نظام الإنذار المبكر النووي للاتحاد السوفييتي عن هجوم خمسة صواريخ باليستية عابرة للقارات تم إطلاقها من الولايات المتحدة. ولحسن الحظ، استنتج الضابط السوفييتي الذي يراقب النظام، أن الإشارة كانت بمثابة إنذار خاطئ، مستندا إلى تحليل منطقي، لأن أي هجوم نووي أميركي حقيقي سيتضمن أكثر من مجرد خمسة صواريخ. ونتيجة لذلك، اختار عدم الإبلاغ عن ذلك إلى رؤسائه، وبالتالي تجنب ضربة مضادة سوفييتية كان يمكن أن تؤدي إلى حرب نووية شاملة. هل يمكن أن تقوم الآلة بالحكم على هكذا إنذار خاطئ وتأخذ القرار الصحيح؟ بالطبع لا. وبالتالي ستكون غلطة باهظة الثمن. مع احتمال تولي أنظمة الذكاء الاصطناعي دورا أكبر في الحروب، سيُطلب منها التعامل مع المواقف الحساسة والمخاطر العالية مثل الأزمة النووية عام 1983. وبالنظر إلى سجلها حتى الآن، فإن هذا الاحتمال يجب أن يقلقنا. ShareWhatsAppTwitterFacebook
مشاركة :