دخلت احتجاجات شعبية في إثيوبيا اندلعت عقب مقتل المغني الشهير، هاشالو هونديسا، على خط أزمة سد النهضة، وحسب المتابعين ستحرص أديس أبابا على استغلال ورقة الاحتجاجات كمبرر لوقف المفاوضات وتنفيذ تهديداتها بتحركات أحادية الجانب بشأن السد تجنبا لمأزق داخلي متوقع، فيما تبدو القاهرة المتمسكة بورقة مجلس الأمن أكثر مرونة في التوصل إلى اتفاق يحمي أمنها المائي. لم تبدد تصريحات وزير الري والموارد المائية المصري محمد عبدالعاطي الأربعاء، التي أشار فيها إلى العودة قريبا للمفاوضات، السحب السياسية التي تراكمت بين القاهرة وأديس أبابا، عقب جلسة مفتوحة عقدها مجلس الأمن. ومع أن الوزير المصري بدا متفائلا أكثر من اللازم، تصاعدت التظاهرات في إثيوبيا، وأدى مصرع مطرب مشهور هاشلو هونديسا، ونحو ثمانين من المواطنين، وإلقاء القبض على عدد من زعماء المعارضة، إلى زيادة الغليان، حيث ألمح رئيس الحكومة آبي أحمد في اليوم نفسه إلى وجود أصابع خارجية هدفها تعطيل العمل في سد النهضة. ويبدو أن أديس أبابا ستواصل استخدام هذه الورقة كمبرر لوقف المفاوضات، ورمي الكرة في ملعبي مجلس الأمن والاتحاد الأفريقي، وأن الاحتجاجات التي تمر بها البلاد تؤثر على تحركات الحكومة، وأي تنازل عن المواقف السابقة يمكن أن يفضي للمزيد من تأجيجها، بصرف النظر عن تحديد الجهة التي اتهمها أحمد بالتآمر على بلاده. وكشفت المعطيات المصرية والإثيوبية عن تعارض كبير بين رؤيتين، إحداهما تريد وضع مناقشة الأزمة في جعبة الاتحاد الأفريقي، كمنظمة إقليمية يمكنها أن تتولى حل هذا النوع من النزاعات التي تندرج في إطار التنمية، والأخرى ترى ضرورة مواصلة مجلس الأمن النظر فيها باعتبارها في صميم الأزمات التي تهدد الأمن والسلم الدوليين. ولكل طرف أهداف جعلته يفصح عن الفحوى الحقيقية وراء تأييد توجه على آخر، بما ينذر أن الأزمة توشك على الدخول في طور جديد من المشاحنات يبعدها كثيرا عن الجوهر الفني والقانوني ويحولها إلى مناكفة سياسية أشد وطأة، وتتعارض فيها حسابات الدول، وتخرج عن كونها أزمة بين ثلاث دول ويمكن حلها، إلى أخرى تتقاطع فيها وعليها الحسابات الدولية. وتميل رؤية فريق ثالث إلى عدم التصعيد عبر التوفيق بين الجهتين، فالمهم إيجاد تسوية عادلة للأزمة تنهي الخلاف المحتدم، وفي الوقت الذي تمسكت فيه إثيوبيا بمسألة الأفرقة والتحفظ على التدويل، مالت مصر للخيار الثاني من دون تحفظ على دور الاتحاد الأفريقي، وأظهر السودان اقترابا من رؤية القاهرة بخصوص التوصل إلى تفاهمات قبل الشروع في ملء خزان السد. السيادة المطاطة أديس أبابا ستستخدم ورقة الاحتجاجات كمبرر لوقف المفاوضات، ورمي الكرة في ملعبي مجلس الأمن والاتحاد الأفريقي مالت كفة غالبية الدول التي أدلت برؤيتها في الأزمة إلى مسألة الاتفاق قبل الملء، باستثناء المندوب الإثيوبي الذي أعاد إنتاج موقف بلاده حول مفهوم السيادة والحق في التصرف في المياه دون مراعاة منع الإضرار والقوانين الدولية التي تحدد العمل. وقدم الأمر على أنه أزمة تنموية ليس من حق مجلس الأمن النظر فيها، وعليه التنحي عقب دخول الاتحاد الأفريقي على خطها بموجب قمة مصغرة حضرتها قيادات الدول الثلاث المعنية عقدت الجمعة الماضي، ولم تسفر عن نتائج ملموسة، ومع أن القمة أقرت بوجوب الاتفاق، غير أن أديس أبابا ضربت عرض الحائط بذلك. تتمسك إثيوبيا وجنوب أفريقيا والصين بعملية الأفرقة بلا مواربة، فعندما أشارت دول أخرى لهذا البعد لم تظهر تشددا وذكرته من باب التوفيق وسرعة الحل، ولكل من الدول الثلاث تقديرات فرضت الدفع نحو هذا الاتجاه، وفرملة الرغبة المصرية التي سعت للتدويل عبر وضع العراقيل أمام مجلس الأمن والإيحاء بالتبسيط في الأفرقة. تعلم أديس أبابا أن نفوذها في الدائرة الأفريقية كبير، من منطلق وجود مقر الاتحاد الأفريقي فيها، وقدرتها على التأثير في الدول الأعضاء في المكتب الدائم واللجنة المعنية بالأزمة، وعند مقارنتها بأعضاء الأمم المتحدة تبدو أيسر كثيرا، كما أنها تعزف على وتر الفقر والحرمان من الكهرباء والتنمية، وكلها معالم تلقى رواجا في القارة دون التفكير فيها، مع أن مصر لم تنكر حق إثيوبيا في تشييد مشروعها بالطريقة التي تناسبها، مع مراعاة عدم وقوع أضرار عليها. تريد إثيوبيا تحميل القاهرة وحدها مسؤولية التخلف الحاصل في بلادها، دون الإمعان في أن خطابها يدين قياداتها، لأنهم مسؤولون عن عدم إدارة ثروات بلاده المائية بصورة رشيدة، والتصميم على جر الأزمة إلى الملعب الأفريقي كي تبدأ أديس أبابا المباراة مع حكم جديد، وتجاهل النتائج التي توصل إليها وسطاء آخرون. توحي توجهات جنوب أفريقيا بأن الأزمة قاب قوسين أو أدنى من الحل، وتصر على الإشارة إلى أن ما تبقى من خلافات عالقة لا يتجاوز العشرة في المئة، وبالتالي فهي قادرة على تسويتها خلال فترة وجيزة، ما يمنحها مصداقية في القارة. كما يضفي على رئاستها بريقا يعزز مكانتها، وقدرتها على القيام بدور مؤثر في تسوية الأزمات، في حين أن النسبة المتبقية تمثل العقدة في الأزمة، حيث تتعلق بالجوانب الفنية والقانونية التي تضبط عمل سد النهضة وتحاشي تأثيراته السلبية. وهونت الصين من عملية نظر مجلس الأمن في الأزمة كساحة غير معنية بهذا النوع من المشكلات التي تندرج في إطار التنمية ولا تهدد السلم والأمن والدوليين، الأمر الذي جعل موقفها منسجما مع أديس أبابا، ويشير إلى عدم استبعاد استخدام “الفيتو” إذا واصل المجلس طريقه، وبالتالي إمكانية تعطيل مشروع القرار الذي تحدث عنه وزير خارجية مصر سامح شكري، في كلمته التي ألقاها أمام المجلس، كما أن للصين استثمارات كبيرة في إثيوبيا وفي مجال السدود بشكل خاص، ولذلك لا تريد تدخلا يرخي بظلال سلبية على تصوراتها السابقة. ولبكين مآرب أخرى، فهي لا تريد أن ترسي قاعدة نظر مجلس الأمن في قضايا المياه، فإذا نجحت الخطوة المصرية قد يصبح من السهولة القياس عليها في تجارب أخرى، وللصين مشكلات عدة، حيث تتنازع الدول المطلة على بحر الصين الجنوبي السيادة عليه، وهي: فيتنام والفلبين وتايوان وماليزيا وبروناي والصين، ونشبت توترات في المنطقة بسبب هذه القضية، وعززت بكين رؤيتها حول السيادة بالسيطرة على أجزاء واسعة من هذا البحر عن طريق تشييد الجزر الاصطناعية وتسيير دوريات بحرية في مياهه. يعتمد وضع الحل في جعبة الاتحاد الأفريقي على تقديرات تتجاوز سد النهضة، فليس الهدف فقط البحث عن تسوية عادلة، بل يمكن أن تؤدي الأزمة إلى الدخول في دهاليز جديدة والعودة بها إلى البداية، كأن عشر سنوات من الأخذ والرد غير كافية للتعرف على أصل الداء وآليات حله. ما يقود إلى استهلاك المزيد من الوقت الذي تبحث عنه أديس أبابا، والتي تصر على تغليب موقفها، وتهميش الدولتين الأخريين، مصر والسودان، ناهيك عن مواقف الولايات المتحدة والبنك الدولي ولجان الخبراء التي قدمت دراسات جميعها حذرت من وقوع أضرار على دولتي المصب. لذلك لن تفرط القاهرة في ورقة مجلس الأمن، فمع أنها تعلم صعوبة الحصول على قرار سريع وواضح وملزم لإثيوبيا، لكنها تتمسك بأن يستمر تداول الأزمة في أروقته، خوفا من مراوغات أديس أبابا، التي تأكدت في جلسة الاستماع الأولى، وأثبتت عدم جديتها في الحل، كما أن مصر التي لم ترفض وساطة الاتحاد الأفريقي، على الرغم من هواجسها حيال الانحراف بالأزمة عن مسارها الصحيح، تريد التمسك بدبلوماسية الأداتين ليظل سيف الخوف من ردات المجتمع الدولي مسلطا على رقبة إثيوبيا. تبدو فكرة الحل الأفريقي جذابة وتدغدغ عواطف البعض في أن دول القارة السمراء قادرة على تسوية المشكلات، لكن الحقيقة أن الاتحاد الأفريقي أخفق في هذه المهمة مرات كثيرة، والدليل تدخلات مجلس الأمن المتلاحقة في الأزمات الإقليمية، وجيوش الأمم المتحدة المترامية في عدد كبير من الدول الأفريقية في مهمة حفظ السلام. ومن غير المستبعد أن تفتعل إثيوبيا أزمة على وقع ما يتم ترديده من صدام بين الحل الأفريقي والدولي، واتهام جهات خارجية بالعبث في احتجاجات الداخل، لاستهلاك المزيد من الوقت، لأن العمل على التوفيق بين الحليّن يبعد الأزمة الرئيسية عن المناقشة، وترجح خبرة التعامل مع سد النهضة هذا الاحتمال، حيث درجت أديس أبابا على الاهتمام بالقشور والتفاصيل التي تبعدها لأكبر فترة ممكنة عن الاتفاق بضوابط محددة. مضى أسبوع على القمة المصغرة التي أشارت إلى أسبوعين للتوصل إلى حل ولم يتحرك القطار قيد أنملة، بل تفرغ البعض للحديث عمّا يجب أن يقوم به كل جانب وحدود مسؤوليته، وبقي الجوهر فارغا، ما يقود إلى عدم مبارحة المناوشات بين مصر وإثيوبيا، ما يفضي إلى فقدان القدرة على وضع الحصان أمام العربة، فافتعال صدام بين الحل الأفريقي ونظيره الدولي مرجح أن يتحول إلى قناة تمر عبرها الخلافات المقبلة، بينما التكامل بينهما يمكن أن يؤدي إلى تمهيد الطريق للحل الناجز. نيروبي - يشكو أفراد من عرقية الأورومو، أكبر جماعة عرقية في إثيوبيا، منذ فترة طويلة من استبعادهم عن السلطة السياسية. ورحب كثيرون منهم بتولي آبي أحمد رئاسة الوزراء في 2018، لكن بعضهم يقولون الآن إنه لم يبذل جهدا كافيا من أجل مجتمعه العرقي ويشككون في جدارته كزعيم من الأورومو، واتضح عدم رضاهم على أدائه في الاحتجاجات العنيفة التي تلت مقتل المغني المشهور. وعرت الاحتجاجات حجم التهميش الذي يعاني منه شعب الأورومو، وعلى مدى عقود في ظل حزب واحد، أعضاؤه من إقليم تيجراي الشمالي، ويهيمن على الائتلاف الحاكم في إثيوبيا مما أثار استياء الأورومو المقيمين أبعد باتجاه الجنوب. وأثارت خطة حكومية لتوسعة العاصمة باستخدام أراض زراعية مملوكة للأورومو في عام 2015 احتجاجات استمرت ثلاث سنوات وقمعا دمويا قاد في نهاية الأمر إلى استقالة رئيس الوزراء وتعيين آبي أحمد. وأتاح آبي حريات كبيرة على مستوى البلاد لكن أجزاء من أوروميا في الغرب والجنوب تخضع للحكم العسكري الاتحادي حيث سجلت منظمة العفو الدولية أعمال قتل وانتهاكات تمارسها قوات الأمن. ومع ذلك، ينتقد بعض نشطاء الأورومو البارزين آبي علنا ويقولون إنه دفع بحزبه إلى الازدهار على حساب مصالح الأورومو. وفي أكتوبر الماضي احتج شباب الأورومو ضد آبي وتأييدا لجوهر محمد قطب الإعلام، وهو من الأورومو كذلك، في احتجاجات أسفرت عن مقتل 86 شخصا. وهاجم جيش تحرير الأورومو المعارض القوات الحكومية وتتهمه الحكومة كذلك باستهداف مدنيين. ومن شأن تصاعد الغضب ضد آبي أن يؤثر على حظوظه في انتخابات وطنية يتعين إجراؤها بعد 12 شهرا من إعلان المسؤولين أن جائحة كوفيد – 19 باتت تحت السيطرة. وتأجل موعدها المقرر في أغسطس القادم بسبب الجائحة. وتعهد آبي بأن تكون الانتخابات حرة ونزيهة على عكس الانتخابات السابقة. لكن الانقسامات في موطنه في أوروميا تقلص من فرصه، وتأتي السلطة في إثيوبيا عادة من القدرة على حشد كتل تصويتية كبيرة من الجماعات العرقية.
مشاركة :