تحيط بالخط العربي عوالم عديدة لا يلتفت إليها الكثير في النظر إلى جماليات هذا الفن العربي الإسلامي، إذ لا يمثل الخط العربي ذاك العمل الفني المخطوط بالأحبار على الورق وحسب، وإنما يتفرع إلى عوالم كثيرة يمكن لكل منها أن يكون فناً منفرداً، فمنها، صناعة الأحبار، وصناعة القصب البوص، وإعداد الورق، وغيرها من الأدوات والوسائل المرافقة للخط. واحدة من هذه العوالم تكشف تراكم الفنون وتطورها واتحادها مع بعضها لتشكيل جنس إبداعي متكامل، ويتمثل في قصبة الكتابة، إذ لم يهتم أحد في الخط العربي إلا وتوقف عند هذه الأداة، التي تعبر عن جماليات الخط في دقة صنعتها وانسياب قوامها ولونها وحجمها، فأنواعها تتعدد وأحجامها تتفاوت وفق استخدامات الخطاط، حتى إن خامات صناعتها تتغير وفق ثقافات الفنانين وبلدانهم. لا يمكن الحديث عن البوص بمعزل عن تاريخها المرتبط بتعرف الإنسان الأول إلى فكرة القلم وعملية الكتابة، فهي تعود في جذرها إلى الإصبع البشري الذي كان الإنسان البدائي قبل آلاف السنين يغمسه في دماء الحيوانات ويرسم أشكالاً وحكايات تعبيرية على جدران الكهوف، وظلت تتنامى منذ تلك اللحظة حتى وصلت إلى الأقلام بشتى أشكالها الحديثة، حتى الإلكترونية منها. تشير الموسوعات العلمية إلى أن السومريين الذين عاشوا في العراق القديم استخدموا القلم المدبب، وقد صنعوه من الأغصان الصغيرة للأشجار بعد تهذيبها وجعلها أقلاماً مناسبة للكتابة على ألواح الطين الطرية التي تجف فيما بعد، وكان ذلك حوالي عام 3500 قبل الميلاد. واقتبس المصريون القدماء أدوات مشابهة لذلك وصنعوا تلك الأقلام من نبات القصب، وكان ذلك منذ 5500 عام تقريباً، واستخدم الإغريق في اليونان ريش الطيور في الكتابة وذلك في عام 500 قبل الميلاد وأدخل استخدام أقلام الريش إلى أوروبا، وصارت هذه الأقلام أدوات الكتابة في ديار الإسلام فيما بعد. هذا التاريخ المتراكم الذي يفضي إلى فكرة الحاجة لأداة كتابة ذات رأس مدبب لرسم الأشكال والحروف، إلا أنه ينتهي عند ذلك الحد ولا يكشف عن أكثر ما يميز البوص العربي، وهو شكل رأسه، وزاوية قطعه، وهذا ما يفتح الباب كاملاً على العلاقة التي نسجتها اللغة بشكلها التعبيري القائم على الحروف، ومفهومها الجمالي، حيث أخذ الخط العربي جانباً فنياً جمالياً ووظف الشكل في ذلك، فلم تعد الكتابة ذات جانب وظيفي وحسب بل ذات بعد جمالي. لذك احتاج العرب إلى الاستقامة والحدة والثبات في رسم الحروف، وكان هذا نتاج المحمول البيئي والجغرافي والحضاري الذي شهد ولادت البعد الجمالي للخط العربي، فليس غريباً أن يكون لاستقامة النخيل، ولانحناءات الكثبان الرملية، ولجماليات شكل الخيل أثر في تحديد المعايير الجمالية لرسم الحرف العربي، ذلك إضافة إلى الاستفادة من مجمل الفنون التي عرفها امتداد الثقافة الإسلامية. إضافة إلى أن البوص مر بعدد من التجارب التي أرست مقدار زاوية قطعه، ومتانة قصبه، وأساليب حفظه، وعمليات تنظيفه وتحسين عمله، وغيرها من المراحل التي أجادت في صنعه، فصار علامة بارزة في فن الخط العربي، وفي الثقافة العربية الجمالية بصورة عامة. على صعيد الخامات يصنع بوص الخط العربي من، القصب، ومن الخيزران، وبعض الصناعات الحديثة، تصنعه من البلاستيك وبعض المعادن الحديثة والألياف، إضافة إلى أن صناعته تطورت وظهر ما يعرف بأقلام الخط العربي، التي تستفيد من شكل رأس البوصة، وتنتج الأقلام المصنوعة كما هي أقلام الحبر السائلة.
مشاركة :